أعلن وزير الخزانة والمالية التركي براءت ألبيرق، في 13 سبتمبر الجاري، أن بلاده تعتزم الإعلان عن سياسة جديدة لتعزيز المدخرات بالعملة المحلية وتقليل الاعتماد على رأس المال الأجنبي، وهو ما يأتي في إطار عدد من الإجراءات التي تتبناها الحكومة التركية منذ فترة ليست بالقصيرة من أجل محاصرة عدد من المشكلات الاقتصادية، والتي يأتي على رأسها تراجع قيمة العملة الوطنية (الليرة). كما أنه يأتي بعد فترة وجيزة من ارتفاع حيازات الأتراك من العملات الأجنبية وبلوغها مستوى قياسيًا.
وتنطوي هذه المساعي التركية على العديد من الدلالات، كما أن الإقدام عليها يثير العديد من التساؤلات بشأن مدى كفاءة هذه الإجراءات في حد ذاتها في تحقيق الأهداف المتعلقة بإنقاذ العملة المحلية، وقدرتها على محاصرة المشكلات الآنية وطويلة الأمد التي تواجه الاقتصاد التركي بشكل عام.
تراجع ملحوظ:
عمد الأتراك إلى شراء الدولار واليورو كوسيلة للتحوط في مواجهة هبوط قيمة الليرة، وهو اتجاه أبقى على العملة التركية غير مستقرة طوال الفترة المنقضية من العام الجاري، حيث تراجعت قيمة الليرة أمام الدولار الأمريكي إلى ما يزيد عن 6.5 ليرة لكل دولار في عام 2018، بما يعني أنها خسرت 30% من قيمتها مقارنة بالدولار خلال العام الماضي، وارتبط ذلك بهجرة رؤوس الأموال الأجنبية من السوق المالية التركية، بنسبة تصل إلى 40% بين بعض فئات المستثمرين الأجانب.
ونتيجة لذلك، اتجه الأتراك إلى الاستغناء عن الليرة والتحوط من تدهور قيمتها بحيازة العملات والأصول التي تتمتع بالمزيد من الاستقرار. وقد أظهرت بيانات البنك المركزي التركي أن الودائع والموارد المالية بالعملات الأجنبية والمعادن النفيسة الموجودة بحوزة الأتراك، سواء الأفراد أو الشركات، بلغت 188.97 مليار دولار بنهاية أغسطس 2019، وذلك بعد أن بلغت مستوى قياسيًا وصل إلى 190.51 مليار دولار في منتصف الشهر ذاته.
وبجانب أزمة الليرة، وتأثيرها في مظاهر الاستقرار المالي، عانى الاقتصاد من عجز في الميزان التجاري تبلغ نسبته ما يناهز 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018، وهى نسبة كبيرة وقياسية بالنسبة لهذا الاقتصاد منذ سنوات طويلة. وارتبطت هذه المشكلة بأزمات أخرى قريبة منها من حيث التصنيف القطاعي، ولا سيما أزمة ارتفاع الدين الخارجي. وقد ذكرت وكالة "فيتش" أن الاقتصاد يحتاج ما يقارب 230 مليار دولار من أجل التخلص من أزمة تضخم الدين الخارجي الخاصة به، سواء تعلق الأمر بالديون المستحقة بالفعل أو الديون الآجلة.
ولا تعتبر الديون الخارجية للحكومة، أو للمؤسسات والكيانات التابعة لها، هى المظهر الوحيد لأزمة الدين الخارجي، ولكن هناك جانبًا آخر لهذه المشكلة يتمثل في استدانة الشركات بالعملات الأجنبية، ولقد صنفت الشركات التركية في عام 2018 بين أكثر الشركات استدانة من الأسواق الدولية في العالم آنذاك. وقد تسببت أزمة تراجع قيمة الليرة خلال الفترات الماضية في تضخيم أزمة المديونية الخارجية سواء بالنسبة للحكومة أو الشركات، لا سيما أن القروض الخارجية تصبح أكثر تكلفة.
اتجاه معاكس:
شهدت تركيا خلال ما يزيد عن عام حالة من الشد والجذب فيما يتعلق بسعر الفائدة والسياسة النقدية المتبعة من قبل البنك المركزي، وقد مارس الرئيس رجب طيب أردوغان ضغوطًا كبيرة على البنك من أجل دفعه إلى تخفيض أسعار الفائدة، كما عزل محافظ البنك المركزي خلال الفترة الماضية، وقام بتعيين محافظ جديد أكثر قربًا منه، على نحو توقع معه أنه سيتمكن من تحقيق ما يصبو إليه، بتحفيز النمو الاقتصادي عبر تخفيض الفائدة.
لكن الفترة الأخيرة دللت على أن الظروف الاقتصادية التي تواجهها تركيا لا تمكنها من التحرك في الاتجاه الذي يرغبه أردوغان، بل إنها على العكس من ذلك تمامًا، حيث أنها باتت مطالبة برفع الفائدة وليس خفضها، لا سيما أن التضخم مازال أعلى كثيرًا من المستهدف، فقد كان لدى المصرف المركزي هدف الحد من التضخم إلى 5% العام الماضي، لكنه لم يستطع ذلك حيث ظل معدل التضخم أكثر من ذلك، ببلوغه 15%، أو بمعنى آخر ظل قريبًا من 20% أو أكثر من ذلك.
وفي هذا الإطار، رجحت وكالة "بلومبرغ" أن أردوغان سيخسر الرهان المتعلق بخفض أسعار الفائدة على المدى البعيد. واستندت الوكالة إلى استطلاع شارك فيه خبراء اقتصاديون، أشاروا إلى أن استبدال محافظ البنك المركزي حسم عملية التيسير النقدي الأعمق في الفترة المقبلة، لكن المحافظ الجديد الذي يرجح أن يخفض الفائدة إلى 19% بنهاية العام، مقارنة بنحو 21% لدى توليه المنصب، سوف يبطئ وتيرة تخفيض سعر الفائدة في الأجل المنظور وصولاً إلى عام 2021.
وتعتبر قيمة الليرة بدورها كلمة السر أيضًا على طريق عودة أسعار الفائدة إلى الارتفاع في تركيا، حيث أن تخفيض الفائدة من شأنه أن يتسبب في تفاقم أزمة الليرة، التي يتوقع أن تفقد قسمًا من قيمتها، وسيكون الاقتصاد من جديدة طاردًا لرؤوس الأموال الأجنبية، وسيندفع الأتراك– أفراد ومؤسسات- إلى التحصن في العملات الأجنبية والمعادن النفيسة.
ويبدو أن التصريحات التي أدلى بها وزير الخزانة والمالية التركي براءت ألبيرق، في 13 سبتمبر الجاري، وقال فيها أن بلاده تعتزم الإعلان عن سياسة جديدة لتعزيز المدخرات بالعملة المحلية وتقليل الاعتماد على رأس المال الأجنبي، تأتي في الاتجاه المعاكس، بل وتمثل مؤشرًا على أن الحكومة قد تراجعت عن هدفها المتعلق بتخفيض سعر الفائدة، بل إنها ستتجه خلال الفترة المقبلة إلى فعل ما هو عكس ذلك تمامًا، حيث أن تشجيع الأتراك على الادخار بالليرة لن يتحقق من دون رفع أسعار الفائدة، وهو ما قد يدفع الحكومة إلى تغيير نهجها، والسير في الاتجاه المعاكس بأسرع مما هو متوقع.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أن الفترة المقبلة ستكشف عن حقيقة الأهداف الاقتصادية التي تسعى الحكومة إلى التركيز على إدراكها مستقبلاً، ومن المرجح أن يحظى استهداف التضخم بالأولوية بالنسبة لها، ورغم أن مثل هذا الهدف يعد منطقيًا في مثل الظروف التي تواجهها تركيا في الوقت الراهن، لكن تعقد الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الأزمات التي عانتها طوال الفترات الماضية، وكذلك تضخم حجم المديونيات الحكومية والخاصة بالعملات الأجنبية وعزوف المستثمرين الأجانب عن الدخول إلى الأسواق التركية بنفس الوتيرة التي كانت مألوفة طوال العقدين الماضيين، كل ذلك من شأنه أن يثقل كاهل الاقتصاد، ويبقيه في منطقة الأزمات لفترة ليست بالقصيرة في المستقبل.