سارعت إيران إلى تأييد تحرك القوات النظامية السورية باتجاه مدينة منبج التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية، في 28 ديسمبر 2018، رغم نفى بعض الأطراف لذلك، على نحو يشير إلى أنها بدأت في إعادة ترتيب حساباتها من جديد للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضها إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب العسكري من سوريا في 19 من الشهر نفسه.
ورغم أن ذلك قد يؤثر على علاقاتها القوية مع تركيا، على نحو بدا جليًا في الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أنقرة وانعقاد الاجتماع الخامس للمجلس الأعلى للعلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، بعد ذلك بيوم واحد، فإن إيران ترى أن هذه التطورات الميدانية تتوافق مع مصالحها في سوريا ومسارات التصعيد المحتملة خلال المرحلة القادمة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
اعتبارات عديدة:
ربما يمكن تفسير حرص إيران على دعم الخطوات الأخيرة التي اتخذها النظام السوري بالتنسيق مع ميليشيا "وحدات الشعب الكردية" التابعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، في ضوء اعتبارات عديدة لا ترتبط برؤيتها لتداعيات التطورات الميدانية والسياسية التي طرأت على الساحة السورية فحسب، وإنما تتصل أيضًا بحساباتها الداخلية الخاصة بعلاقاتها مع الأكراد الإيرانيين، واتجاهات تفاعلاتها مع تركيا التي تنخرط معها في تفاهمات سياسية وأمنية ثنائية وثلاثية في إطار محادثات الآستانة مع روسيا. ويمكن تناول تلك الاعتبارات على النحو التالي:
1- تعزيز موقع النظام السوري: ترى طهران أن تحرك القوات النظامية السورية باتجاه منبج التي تحظى باهتمام خاص من جانب الأكراد وتركيا تحديدًا، يعزز الموقع التفاوضي للنظام السوري، خاصة مع اقتراب موعد إجراء محادثات جديدة مع قوى المعارصة، في حالة تشكيل اللجنة الدستورية، وبداية مهام المبعوث الأممي الجديد غير بيدرسون.
وهنا، فإن زيادة مساحة الأراضي التي يسيطر عليها النظام سوف تدعم شروطه التفاوضية في مواجهة المعارضة، وكان لافتًا على سبيل المثال، أن النظام استند إلى هذا المتغير للمطالبة بمنحه حق اختيار القسم الأكبر من الفئة الخاصة بالمجتمع المدني والعشائر والمستقلين في اللجنة الدستورية التي تبذل بعض القوى جهودًا حثيثة في الوقت الحالي من أجل تذليل العقبات التي تحول دون تشكيلها حتى الآن، باعتبار أنه بات يسيطر على نحو 60% من مساحة سوريا وفقًا لتقديرات عديدة.
2- احتواء تحركات الأكراد: ربما يدعم دخول القوات السورية إلى منبج احتمالات رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني بين النظام السوري والأكراد خلال المرحلة القادمة، على نحو يمكن أن يؤدي إلى تحقيق نتائج أكبر في أية مواجهات محتملة قد تندلع مع فصائل المعارضة في حالة ما إذا فشلت الجهود التي تبذل حاليًا لمواصلة المحادثات التي تهدف إلى تدشين العملية السياسية من خلال الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية.
وهنا، فإن إيران ترى أن هذا الاحتمال لا يبدو ضعيفًا، لأسباب عديدة يتمثل أهمها في أن الخلافات العالقة بين الأطراف المعنية بالمحادثات القادمة ليست هينة ولا يمكن الوصول بسهولة إلى تسوية بشأنها، فضلاً عن أن الانسحاب الأمريكي من سوريا قد يدفع المعارضة إلى إعادة ترتيب حساباتها من جديد على نحو قد يؤثر على المسارات المحتملة للمحادثات القادمة.
إلى جانب أن الشروط الصعبة التي يتبناها النظام، مستندًا فيها إلى التطورات الميدانية التي شهدها الصراع السوري في الشهور الأخيرة، قد تضعف من احتمالات خروج المحادثات القادمة بنتائج إيجابية تساعد في الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة.
3- ممارسة ضغوط على تركيا: رغم التنسيق المستمر بين إيران وتركيا سواء على المستوى الثنائي من خلال الزيارات المتبادلة التي يقوم بها الرئيسان الإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان، أو الثلاثي عبر المحادثات التي تجري مع روسيا في الآستانة وعواصم الدول الثلاث، والتي ستتواصل في بداية العام القادمة بقمة ثلاثية في روسيا بين روحاني وأردوغان ونظيرهما الروسي فيلاديمير بوتين، فإن ذلك لم يمنع إيران من التجاوب مع التحركات العسكرية الأخيرة للجيش السوري، والتي لم تحظ بقبول من جانب تركيا.
وهنا، فإن إيران ترى أن المكاسب المحتملة التي قد تنتج عن ذلك، خاصة على صعيد تكريس سيطرة النظام على القسم الأكبر من الأراضي السورية، لا يمكن تجاهلها حتى لو أدى ذلك إلى توتر علاقاتها مع أنقرة، وهو احتمال غير مستبعد لكنه ليس مرجحًا، في ظل المُحفِّزات العديدة التي تدفع الطرفين إلى احتواء خلافاتهما ومواصلة التعاون في الملفات المختلفة.
وفي رؤية طهران، فإن هذه التطورات الميدانية تضعف من نفوذ تركيا في سوريا وتمنح طهران فرصة لممارسة ضغوط عليها من أجل دفعها إلى التجاوب بشكل أكبر مع المعطيات الجديدة التي فرضها تعزيز موقع النظام في الداخل وظهور مؤشرات توحي بحدوث انفتاح في علاقاته على المستوى العربي.
4- تعزيز الجبهة الداخلية: ترى اتجاهات عديدة في طهران أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الميليشيات الكردية السورية تُضعِف موقف القومية الكردية بشكل عام، خاصة في إيران، التي وصلت فيها العلاقة بين النظام والأكراد إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر، بدت جلية في الضربات المتبادلة بين الطرفين، والتي كان آخرها الهجمات الصاروخية التي شنها الحرس الثوري على موقع تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في قضاء كويسنجق التابع لمحافظة أربيل العراقية، في 9 سبتمبر 2018.
ووفقًا لتلك الرؤية، فإن المكاسب الاستراتيجية التي حققتها الميليشيات الكردية في سوريا من خلال انخراطها في الحرب ضد تنظيم "داعش" وحصولها على دعم قوي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية قبل انسحابها، قد حفَّزت القوميات الكردية الأخرى، لاسيما في إيران والعراق وتركيا، لرفع سقف مطالبها السياسية والدخول في مواجهات سياسية وعسكرية مع القوات النظامية، وهو مسار سوف يشهد تغييرًا خلال المرحلة القادمة على ضوء التعاون المحتمل بين أكراد سوريا والنظام.
حدود محتملة:
مع ذلك، فإن ثمة حدودًا للتداعيات الإيجابية التي يمكن أن يفرضها التعاون المقبل بين النظام السوري والميليشيات الكردية على مصالح إيران. إذ أن الجهود التي تبذلها الأخيرة لتعزيز نفوذها داخل سوريا سوف تواجه تحديات ربما تكون أصعب في المرحلة القادمة، على ضوء إصرار إسرائيل على توجيه ضربات أشد قوة في المرحلة القادمة لإثبات قدرتها على التحرك في سوريا لتحجيم نفوذ خصومها حتى بعد الخطوة الأمريكية الأخيرة.
فضلاً عن أن هذه التطورات قد لا تساعد في تقليص حدة التوتر مع أكراد إيران، خاصة أن المطالب التي تتبناها تلك القومية ذات طبيعة خاصة ولا تتصل مباشرة بما يحدث في المناطق التي تقطنها القوميات الكردية في الدول الأخرى. إذ تكمن المتغيرات الأهم التي تؤثر على التفاعلات بين الطرفين في السياسات التي يتبناها النظام تجاهها والتي تعتمد على التهميش والإقصاء، بشكل أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة سواء في مناطق الأكراد أو في المناطق التي تقطنها القوميات الأخرى والتي تواجه الأزمات نفسها.
إلى جانب أن نجاح إيران في توسيع نطاق سيطرتها على الأرض لن يحظى، على الأرجح، بقبول من جانب موسكو، التي ربما ترى ذلك، في مرحلة لاحقة، خصمًا من نفوذها باعتبارها الطرف الأساسي الذي تحكم في مسارات المواجهات العسكرية والتطورات السياسية التي شهدتها سوريا في الفترة الماضية.