أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

مداخل الرضاء:

كيف تجعل الحكومات مواطنيها يشعرون بالرفاهية؟

25 فبراير، 2019


عرض: ياسمين أيمن - باحثة في العلوم السياسية

أضحى تحقيق الرفاهية للمواطنين محورًا أساسيًّا يحل مرتبة متقدمة على أجندة صانعي السياسات العامة، ولا سيما لتحول طرق سياقها من مستوى التقدم في الناتج المحلي الإجمالي للدولة، أو مستوى دخل الفرد؛ إلى قياس مدى رضاء المواطنين عن حياتهم الشخصية، الأمر الذي دفع المؤسسات البحثية إلى مناقشة كيفية تحقيق رفاهية المواطنين استنادًا إلى جملةٍ من العوامل المختلفة التي يأتي في مقدمتها العوامل الاقتصادية والاجتماعية.

وفي هذا الإطار، يُشير الباحث "جورج بانجهام" (الباحث ومحلل السياسة في مؤسسة Resolution) في تقرير بعنوان "سعيد الآن؟ دروس لصانعي السياسة الاقتصادية من التركيز على الرفاهية الذاتية"، الصادر عن مؤسسة Resolution في فبراير الجاري، إلى أنه طوال القرن العشرين دائمًا ما نظر علماء الاقتصاد لقياس الرفاهية على أنه ضرب من الخيال، لأن وجود اختلافات في مستويات الدخل، والفوارق المادية بين البشر؛ جعل هناك صعوبات في قياس مستويات تحقيقها. ولكن الرغبة في تحسين السياسات العامة، وتحقيق مستويات معيشية مقبولة للمواطنين؛ دفع الحكومة البريطانية لأن تُولي اهتمامًا كبيرًا لقياس رفاهية مواطنيها منذ عام 2010. ولهذا تم تجميع البيانات المتعلقة بآراء المواطنين من خلال المكتب الوطني الإحصائي، وقد أجاب المواطنون عن مجموعة من الاستبيانات التي تضم أربعة أسئلة تتعلق بمدى رضائهم عن حياتهم، ومدى شعورهم بأهمية ما يقومون به، إلى جانب شعورهم بالسعادة، وأخيرًا الشعور بالقلق.

قياس الرفاهية

أوضح "بانجهام" أن شعور المواطنين بالرفاهية يُقاس من خلال مجموعة من المؤشرات المتضافرة التي تربط بين الاجتماعية كعمره، ووجوده في علاقة اجتماعية جيدة، فضلًا عن تمتعه بصحة جيدة، وتلك الاقتصادية المتعلقة بمستوى دخل الفرد، إلى جانب ضمان دوريته.

وقد أولى الباحث تركيزًا على مؤشر العمر، معتمدًا على البيانات التي تم تجميعها من المكتب الوطني للإحصاء. وبدراسة تلك البيانات وجد أن المراهقين يحققون مستويات أعلى في الشعور الرفاهية عمن هم في أوائل العشرينيات. وأضاف أن معدلاتها ترتفع مرة أخرى عند سن الثلاثينيات. وهكذا تأخذ البيانات شكلًا بيانيًّا يشبه حرف (U)، يمثل التغييرات التي تحدث مع الأشخاص على مرور الوقت. فالفرد يحقق أعلى مستويات الرضاء عن الحياة والسعادة عند سن السبعين وفي سنوات المراهقة، وأقل المستويات عند منتصف الخمسينيات، بينما يظل مؤشر القلق ثابتًا مع مرور الوقت. 

ويشير "بانجهام" إلى أن الحديث عن أن مستوى الرفاهية للفرد يبلغ ذروته عند سن التقاعد يتحقق في الدول الغنية كالدول الأوروبية، ولا يمكن تعميم تلك النتائج على الدول الفقيرة.

وبالتركيز على مؤشر الرضاء عن الحياة كأحد مؤشرات الرفاهية، وجد الباحث أن النساء يَكُنَّ أكثر رضاء عن الحياة من الرجال، ولكنهن -على صعيد آخر- أكثر شعورًا بالقلق. فضلًا عن أن الوجود في علاقات اجتماعية جيدة مع شريك الحياة ترفع من الشعور بالرضاء عن الحياة، بخلاف من يتعرضون لحالات الانفصال أو الوحدة. كما أن الأفراد الذين يعيشون في مناطق سكنية جيدة، ويملكون المنازل التي يعيشون فيها؛ يكونون أكثر رضاء عن الأشخاص المستأجرين لتلك المنازل. ويضيف أن مستوى التعليم ينعكس على مدى شعور الفرد بالرفاهية في حياته.

ويؤكد "بانجهام" أن كل المؤشرات السابق ذكرها متداخلة ومتفاعلة، ولذلك لا يمكن التعويل على أحدها، واعتباره المؤشر الوحيد للرضاء عن الحياة وتحقيق الرفاهية الشخصية. وبشكل عام، تُشير البيانات المحلَّلَة إلى أن الأفراد الذين تجتمع لديهم صحة جيدة وعلاقات سوية، فضلًا عن توافر وظيفة مستقرة؛ يحققون مستوى عاليًا من الرفاهية.

الرفاهية والدخل

تُشير بعض الدراسات إلى وجود علاقة وثيقة بين ارتفاع دخل الأسرة وتحقيق مستويات أعلى من الرفاهية، وأن مستويات السعادة تبدأ في التوقف عند نقطة معينة بعد تحقيق قدرٍ معينٍ من الدخل. وباستمرار ارتفاع الدخول لا تزيد مستويات الرفاهية، على عكس مستويات الرضاء التي تزيد مع زيادة مستويات دخل الأسرة. ووفقًا للتقرير، فإن مستوى الرضاء عن الحياة يزداد عند مستويات أقل من الدخل بصورة سريعة، بخلاف السعادة والشعور بجدارة الحياة الذي يزداد بصورة أقل. كما أن الرضاء عن الحياة يزداد عند توزيع الدخول، في حين تظل مستويات القلق ثابتة تقريبًا عند كافة مستويات الدخل.

وبشكل عام، يشير الباحث إلى التوقف عن الاعتقاد السائد بأن ارتفاع مستوى الدخل بمقدار معين ثابت سيؤدي إلى زيادة مستويات الرفاهية؛ حيث إن الأسر الأعلى دخلًا ستميل لتوفير الزيادة في الدخل. وبالتالي لن تُصاحِبَ الزيادةَ في مقدار الدخل تغيراتٌ في معدلات الاستهلاك. كما أن الأشخاص تتشكل عادات استهلاكهم وفقًا لدخلهم السنوي الثابت، وليس وفقًا لمقدار الزيادات البسيطة في الدخل. ولهذا تتحقق المستويات الأعلى من الرفاهية بزيادة دخول الأفراد بنسب كبيرة سنويًّا، وليس بنسب ضئيلة. وبناءً على ذلك، يعود توزيع الدخول داخل المجتمع بالزيادة في معدلات الرفاهية داخل المجتمع ككل.

وبقياس مستوى الرفاهية عند الأفراد أنفسهم من عام لآخر بتغير مستويات الدخل، وُجد أنه من الصعب تبين إذا كانت هناك علاقة حقيقية بين ارتفاع مستوى الدخل وتغير مستويات الرفاهية، أي إنه ليست هناك نتيجة مؤكدة، ولكن توزيع الدخول من الطبيعي أن يساهم في رفع مستويات الرفاهية عند المواطنين الأكثر فقرًا واحتياجًا عن غيرهم.

الرفاهية وتوافر العمل

يؤثر العمل والظروف المرتبطة به على مستويات الرفاهية، فتوافر وظيفة محددة من شأنه أن يعظم منها، ويسجل المتقاعدون أعلى الفئات شعورًا بالرفاهية، يليهم أصحاب الوظائف الحرة، ثم الموظفون. ويفسر "بانجهام" تلك النتائج بأن المتقاعدين وأصحاب الوظائف الحرة تتوفر لهم أوقات فراغ أكبر لقضائها مع أُسرهم، فضلًا عن وجود مستويات مناسبة وأحيانًا مرتفعة من الدخل، مما يعمل على زيادة معدلات الرفاهية التي ترتبط بالرضاء عن الحياة والسعادة. 

وفي المقابل، فإن الشعور بالرفاهية ينخفض عند العاطلين عن العمل، حتى ولو لفترات محدودة، وترتفع معدلات القلق لديهم. ويظهر ذلك الانخفاض بوضوح عند الأشخاص العاطلين في منتصف العمر عن الأشخاص في الأعمار المبكرة. ولعل ذلك يجب أن يدفع صانعي القرار للتركيز على علاج آثار البطالة، لما لها من آثار سلبية على مستويات الرفاهية.

ويشير التقرير في نقطة أخرى إلى تزايد مستويات الرفاهية عند الأفراد المُحالين للتقاعد الذين يعاودون العمل مرة أخرى، وذلك يدل على أن العائد المعنوي من العمل يكون أكبر -في أحيان كثيرة- من العائد المادي. فضلًا عن أنه، وفقًا للبيانات التي يعرضها التقرير، وُجِدَ أن الانتقال من العمل للبطالة يساهم في تراجع مستويات الرفاهية بصورة أكبر من الانتقال من البطالة للعمل؛ ولذلك لا بدّ أن يوجِّه صانعو القرار اهتمامًا خاصًّا بمسألة حفاظ الأشخاص على وظائفهم، فضلًا عن ضرورة العمل على ربط من يعانون من مشاكل صحية بأسواق العمل. ويؤكد "بانجهام" ضرورة مراعاة الفوارق الجغرافية والثقافية عند الحديث عن تلك النتائج.

كما يشير التقرير إلى أن السياسات الاقتصادية المتعلقة برفع قاعدة الأجور إلى مستوى يتلاءم مع طبيعة الدولة الاقتصادية تُحقق معدلات أفضل في مستويات الرفاهية. ويعاود الباحث التأكيد على أنه لا يمكن ربطها بمؤشر واحد فقط كالمؤشر الاقتصادي؛ حيث تظل هناك مؤشرات اجتماعية ذات تأثير واسع. فمثلًا، مستوى الرضاء عند بائعة الورد قد يفوق مستوياتها عند الطيار، على الرغم من ارتفاع دخل الثاني عن الأولى؛ إلا أن الاستقرار الاجتماعي -على سبيل المثال- يكون ذا تأثير بالغ.

ويُضيف "بانجهام" أن مجرد حصول الأفراد على العمل لا يضمن زيادة شعورهم بالرفاهية، حيث تلعب عدد ساعات العمل وطبيعته دورًا في رضاء المواطنين. كما أن هناك بعض الأشخاص يكونون بحاجة لزيادة عدد ساعات العمل ليحققوا مستويات أعلى من الرفاهية، والعكس صحيح. ولعل ما سبق يوجه نظر صانعي القرار بالدول إلى ضرورة بذل الجهد لتحسين أوضاع العمل وقوانينه، ووضع ضوابط تُساهم في تحقيق مستويات أعلى من الرفاهية.

الرفاهية وحيازة المسكن

يشير التقرير إلى أن امتلاك المنازل العقارية يحقق مستويات أعلى من الرفاهية عن تأجيرها، ويرجع ذلك إلى أن تأجير المنزل من شأنه أن يقتطع نسبة سنوية من دخل الأسرة، وهو ما يزيد الأعباء المادية عليها، وبالتالي يؤثر على مؤشرات قياس الرفاهية كالرضاء عن الحياة والسعادة، وذلك على عكس امتلاك المنازل الذي يُمكِّن الأسرة من الحفاظ على نسبة من دخلها، تساهم في رفع معدل الرفاهية.

وعلاوةً على ما سبق، يذكر "بانجهام" أن موقع المنزل ومستواه من شأنه أن يُؤثّر على معدلات الرفاهية أيضًا، وهذا ما يدفع الحكومات البريطانية إلى محاولة تحسين القطاع السكني، سواء في المنازل الخاصة، أو المنازل المؤجَّرة ذات الطبيعة الاجتماعية. كما أن المناطق التي ترتفع بها معدلات اللا مساواة تحقق معدلات أقل في مستويات الرفاهية، ولذلك يجب أن تعمل الحكومات على تقليل الفجوات داخل المناطق السكنية.

بريطانيا نموذجًا

يُشير التقرير في تحليله لمعدلات الرفاهية بالمملكة المتحدة إلى أن مستوياتها قد ارتفعت منذ عام 2011، حيث ارتفع مستوى الرضاء عن الحياة والسعادة والشعور بقيمة الحياة في الفترة ما بين عام 2011 حتى عام 2015. كما أن معدل الشعور بالقلق قد انخفض نسبيًّا.

وأوضح التقرير أنه في فترات تحسن الاقتصاد البريطاني، وكذلك تطور الأوضاع القانونية لسوق العمل والمسكن، ارتفعت معدلات الرفاهية للأفراد، لكنها تقلصت مرة أخرى أثناء فترات الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وبمقارنة بريطانيا بدول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه، يشير "بانجهام" إلى أن هناك فوارق ملحوظة في معدلات تحقيق الرفاهية. فعلى سبيل المثال، تأثرت إسبانيا واليونان بشكل ملحوظ في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008، حيث إنه مع ارتفاع معدلات البطالة انخفضت معدلات الرفاهية في المجتمع. ولذلك يؤكد التقرير على ضرورة مراعاة العوامل الثقافية عند قياس مستويات الرفاهية بين الدول، فلا يمكن المقارنة بين الصين وبريطانيا على سبيل المثال.

وبناء على ما جاء ذكره، يؤكد التقرير أن قياس مستويات الرفاهية بمؤشراتها المختلفة توفر للباحثين الاقتصاديين معايير مختلفة للحكم عن رضاء المواطنين وسعادتهم، بدلًا من الاعتماد الكلي على قياس الناتج المحلي الإجمالي، والمقاييس الاقتصادية التي لا تُعبّر عن الواقع بشكل كامل. فضلًا عن أن قياسات مستويات الرفاهية تساهم في مساعدة الساسة في التنبؤ بنتائج الانتخابات، أو ضرورات تحسين السياسات العامة من خلال قياس رضاء المواطنين عن الصحة والسكن والعمل، مما سيُحسّن مستوى السياسات الموضوعة داخل الدول المختلفة.

وينصح التقرير صانعي القرار بضرورة العمل على تحسين مستويات التعليم عند الأفراد، حيث وُجِدَ أن بقاء الأفراد في التعليم بعد عمر الستة عشر، يحقق مستويات أعلى من الرضاء عن الحياة والسعادة. كما أن توافر الشعور لدى المواطنين بالقدرة على تغيير مستوياتهم الاقتصادية يزيد من معدلات الرضاء عن الحياة والسعادة والشعور بجدوى حياتهم، ومن ثمّ ترتفع معدلات الرفاهية، فضلًا عن أن التغيرات الديموغرافية تساهم في رفع مستويات الرفاهية، فحتى لو ظلت المستويات الاقتصادية ثابتة، فالتغيرات في تركيبة السكان اجتماعيًّا أو على مستوى العمر والصحة تساهم في تحسين مستويات الرفاهية.

وختامًا، ليس هناك مؤشر ثابت يمكن الارتكاز عليه لقياس مستويات الرفاهية عند المواطنين؛ إلا أنه مع ذلك يجدر بصانعي القرار العمل على تحسين المستويات المعيشية للمواطنين، وتقليل الفجوات الاقتصادية فيما بينهم، لأن ذلك من شأنه أن يساهم بشكل أو بآخر في تحقيق معدلات أعلى من الرفاهية.

المصدر:

George Bangham, "Happy now?: Lessons for economic policy makers from a focus on subjective well-being", Resolution Foundation, February 2019.