أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

نحو علاقات دولية واقعية وأخلاقية

13 مايو، 2024


هناك جدل واسع وحوار مشحون حول الفلسفة الأفضل لإدارة العلاقات الدولية، وعلى وجه الخصوص بين الدول التي تتبنى ما يسمى بالسياسة الأخلاقية والقواعد (Values-based politics)، والأخرى التي تحكمها الواقعية والمصالح (Realism) في تقدير المواقف والسياسات. 

ينبني الطرح الأول على الالتزام بمبادئ مستندة لقيم مجتمعية في العلاقات الدولية، ويتم على أساسها الاتفاق على إجراءات وممارسات يلتزم بها الجميع، وارتبط هذا الطرح إلى حد كبير بالسياسة الخارجية الأمريكية منذ الاستقلال، وسعي قياداتها لجعل الولايات المتحدة إمبراطورية للحريات؛ إذ تبنت رسالة نشر الليبرالية الدولية (Internationalism liberal) بنشاط وحماس، خاصة مع تولي الرئيس وودرو ويلسون السلطة، وطرحه إعلاناً من 14 نقطة في يناير 1918، يشمل المفهوم والخطط الأمريكية لتحقيق ذلك، وجاء ذلك بعد ولايات سابقة براغماتية ومحافظة وانعزالية للرؤساء: ويليام هوارد تافت، تيودور روزفلت، ويليام ماكينلي.   

 أما الطرح المقابل لذلك، والمعروف بالواقعية والمصالح، فيؤسس على إطار نظري ومنظور للعلاقات الدولية يعتبر أنها منافسة متواصلة بين دول؛ تسعى للتمركز باقتدار في نظام دولي خالٍ من سلطة مركزية تنظمه، وكان من أشهر رواد هذا التوجه: كميل كوروت، (Camille Corot)، غوستاف كوربيه (Gustave Courbet)، جان فرانسوا ميليت (Jean-Francois Millet)، أونوريه دومييه (Honore Daumier)، ومن أهم منظريه: المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس، (Thucydides)، نيكولو مكيافيلي (Niccolo Machiavelli)، توماس هوبز (Thomas Hobbes)، جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau)، وماكس فيبر (Max Weber)، ولقد توفي مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي السابق، هنري كيسنجر (Henry Kissinger)، الذي كان من أشهر من تبنوا فلسفة الواقعية والمصالح في التاريخ المعاصر.

  وتدفع الولايات المتحدة، والكثير من الدول الغربية في طرحها العلني، إلى ضرورة إدارة العلاقات الدولية وفقاً لأسس وقواعد أخلاقية، الموقف الذي تبناه بايدن مرة أخرى، بعد أن تغاضى عنه ترامب، علماً بأن الولايات المتحدة تُنحي هذه المبادئ جانباً في الكثير من الأحيان؛ إذا تعارضت مع مصالحها الآنية، أو ارتفعت التكلفة السياسية للالتزام بها.

وأحدث مثال لهذه التناقضات، مواقفها في أوكرانيا ومطالبتها روسيا باحترام القانون الدولي وعدم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، واحترام القانون الدولي الإنساني، في حين تتخذ الولايات المتحدة موقفاً مناقضاً لذلك إزاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وعنفها المشين في غزة، التي شهدت ضحايا يتجاوزون كثيراً ما حصل في أوكرانيا. موقف يُبرر غربياً بأن لإسرائيل الحق في تأمين نفسها، حتى إذا اقتضى الأمر التجاوز على أرض الغير، ويكتفي الكثير من الدول الغربية بمناشدة إسرائيل بتوخي الحذر مع المدنيين، مع أنهم يشهدون إهدار حياة آلاف المدنيين الأبرياء. 

يعتقد عدد من الدول من خارج التحالف الغربي، وعلى رأسها روسيا، أن الغرب يدفع بالتوجه الأخلاقي في محاولة للهيمنة على النظام الدولي، وأن العلاقات بين الدول يجب أن تحكمها المصالح، وتنظمها فلسفة الواقعية المجردة؛ لذا لم تتردد في غزو أوكرانيا عندما وجدت الغرب يتوغل شرقاً في أوروبا، أيديولوجياً وعسكرياً، بشكل اعتبرته يهدد الأمن القومي الروسي. وتطبيقاً لهذه الفلسفة بشكل مجرد نمت روسيا وكذلك الصين علاقاتهما بإسرائيل اقتصادياً وعسكرياً وعلى وتيرة متواصلة، في نفس الوقت الذي تؤكدان فيه أهمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ووقف إطلاق النار في غزة.

 ومواقف الدول المتبنية للتيارين، واختياراتهم تتغير بين الحين والآخر، ارتباطاً بحسابات دقيقة وتوازنات لقدراتهم الأمنية والاقتصادية والسياسية، وهي في ذلك تستند أحياناً وتدفع بضرورة احترام النظام الدولي وقواعده ومبادئه، وهذا النظام وُضعت أسسه بعد الحرب العالمية، وغلَّب مصالحه على مصالح الدول النامية، ولا يزال. وفي ظروف أخرى تمارس سياسة فرض المواقف بواقعية مستندة أولاً وأخيراً على ميزان القوة والمصالح.  

 وأعتقد أن عمليات الإبادة الجماعية والوحشية في رواندا في النصف الأخير من القرن الماضي، والإجرام الإسرائيلي في غزة في الأشهر الماضية، هي أمثلة فادحة على أن المجتمع الدولي ظل سلبياً حائراً بشكل مخجل في القرن الحادي والعشرين، تائهاً بين مبادئ لا تنفذ، وواقعية مشينه وبعيدة كل البعد عن القيم الإنسانية. 

فلسفة الدول النامية: 

 تقع الدول النامية فيما بين مصالح الدول الصناعية في التكتل الغربي أو ما تبقى من التكتل الشرقي، وأغلبها دول غير منحازة أو تشبه ذلك، ومتوسطة وصغيرة الحجم والقدرات؛ مما يجعلها معرضة أكثر من غيرها للضغوط الآنية، وتميل نحو تبني الفلسفة الواقعية في إدارة العلاقات الدولية، وتخشى فرض فلسفة مجتمع على الآخر، وترفض توحيد نظم الحكم والإدارة في مختلف أنحاء العالم.

 في نفس الوقت يجب على الدول النامية الأخذ في الحسبان أن حجمها صغير أو متوسط؛ لذا فاستناد المجتمع الدولي إلى مبادئ وأسس وقواعد في العلاقات الدولية، وفقاً للقانون الدولي العام والإنساني، يخدم مصالح الدول الصغرى والمتوسطة؛ لأنه من المفترض أن يضع قيوداً على ممارسة القوة غير المشروعة، ويحافظ على حقوق الجميع بصرف النظر عن القوة أو الثراء. بما يشكل سنداً للدول النامية، والتي لن تنجح في مواجهة صدامية مباشرة أمنية أو اقتصادية مع الدول الكبرى أو تحالفاتها، إلا في حالات استثنائية فريدة وتتحمل فيها الكثير من المعاناة والتضحيات، مثل الحرب الفيتنامية في السبعينيات من القرن الماضي.

ولهذه الاعتبارات على الدول النامية الساعية إلى تأمين مصالحها وضمان استقلاليتها وحرية قرارها، أن تحسب حساباتها جيداً على الدوام، لعدم إضاعة الفرص أو الوقوع في أخطاء فادحة ومكلفة، وهو ما يتحقق بتبني سياسات وتقديرات واقعية وحكيمة، مع تحصين وتأمين نفسها بالمبادئ والقواعد القانونية الدولية الرشيدة والمتحضرة، لضبط ميزان القوة الأمني والاقتصادي.

بل ومن الأفضل للمجتمع الدولي بأكمله، الاستقرار على نظام يوازن بين "الواقعية" والمصالح التي لا يمكن تجاهلها، وفي نفس الوقت يكون نظاماً يحترم "المبادئ والقواعد"؛ لأن التشبث بمبادئ لا يحترمها أصحابها إلا بين الحين والآخر، أو الخضوع إلى الواقعية المجردة، وفقاً لميزان القوة والثراء والأولويات، يدفع الدول إلى انتهاز الفرص على حساب حقوق الغير؛ مما يولد الشعور بالظلم والاضطهاد، ونظاماً فاقداً لمصداقيته، يغذي الانتهازية السياسية وسلسلة ممتدة من العنف، والعنف المضاد، وهو ما نشهده الآن.

 وسيدفع البعض أن ميثاق الأمم المتحدة، وما أعقب إقراره من اتفاقات وقواعد ومواثيق دولية في مجالات عدة يوفر المطلوب، أو أن من له السيطرة والقوة والثراء لا يحترم المبادئ أو يلتزم بالقانون، وهو ما نشهده بالفعل، وأضيف إلى هذه التحفظات أنه يعاب على قواعد النظام أن أغلبها تعكس توازن القوى بعد الحرب العالمية الأخيرة، وتُغلب مصالح الدول المنتصرة وحلفائها على مصالح غيرها، فضلاً عن أنها تطبق بمكيالين، ولا تتوفر آليات لمحاسبة المخطئ والمتجاوز وبوضعها الحالي ترجح الواقعية على المبادئ والأخلاق.

وسعياً لتحسين أوضاعنا وممارساتنا، أعتقد أن على المجتمع الدولي وخاصة الدول النامية السعي لتطوير وتقويم هذه القواعد الدولية والإضافة إليها؛ لتراعي نسبة أكبر من المجتمع الدولي، وتطبق بمعايير ثابتة على الجميع، مع محاسبة من يخطئ، وهي أمور تتحقق بمراعاة المصالح والحقوق، وتوفير الشفافية في البيانات، والمصارحة والأمانة في عرض الأحداث، والموضوعية في محاسبة الجميع، بما يوفر نظاماً له المصداقية والاحترام، من خلال تبني مفهوم "الواقعية الأخلاقية" في العلاقات الدولية.