إعداد: أحمد عبد العليم
تعيش الدولة الليبية لحظات فارقة وخطيرة في ظل تعدد الأزمات، وانتشار الميليشيات المسلحة، وعدم وجود توافق وطني أو خطاب قادر على لمَّ الشمل الليبي منذ رحيل القذافي وإسقاط نظامه المستبد. وتعاني ليبيا كذلك من الافتقار إلى وجود مؤسسات فاعلة وقوية قادرة على تحجيم دائرة الأزمات التي تتسع مع الوقت في ظل مجتمع قبلي بامتياز.
ومما لاشك فيه أن الوضع المتدهور في ليبيا لا تمتد آثاره الخطيرة إلى دول الجوار فقط، ولكنها تمتد أيضاً إلى كل دول الشرق الأوسط، ويزعزع الاستقرار فيه في ظل لحظات حرجة تعصف بالعالم العربي.
في هذا الإطار، تأتي هذه الدراسة المعنونة "الفيدرالية الجديدة في ليبيا"، والتي أعدَّها كل من Mezran Karim وEljarh Mohamed الباحثان بمركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، حيث تتناول الدراسة الأوضاع الحالية المتدهورة في ليبيا بعد سقوط القذافي، وإمكانية تقديم الفيدرالية كحل فعَّال لانتشال ليبيا من أزماتها الحالية خاصةً في ظل ضعف القيادة السياسية والنخبة الليبية. ويذهب الباحثان إلى قدرة الفيدرالية على خلق بيئة صحية للحوار الوطني ولوجود مؤسسات فاعلة ونحبة قوية وقيادة سياسية واعية، وهو ما يترتب عليه خروج الدولة الليبية من نفق أزماتها المختلفة.
القيادة الضعيفة والطرح اللامركزي
يبدأ الباحثان بطرح تساؤل متعلق بمدى قدرة القيادة والنخبة الليبية على الحوار الوطني بعد سقوط نظام القذافي، مشيرين إلى أن القيادة الليبية قد فوتَّت فرصة سانحة من أجل ذلك، وحاولت استرضاء الميليشيات المحلية المسلحة كبديل عن إنجاز المهمة الحاسمة بإعادة بناء الوطن، وهو ما تحاول الآن القيادات المحلية في ليبيا أن تتجاوزه.
ويأتي ذلك في ظل غياب حكومة مركزية قوية وقادرة على استعادة الأمن وضبط النظام، مما أدَّى إلى ضعف قوات الأمن، وتعزيز انهيار الدولة الليبية، ودفع الناس إلى العودة لانتماءاتهم الأساسية سواء للعائلة أو القبيلة أو المدينة.
وتضيف الدراسة أنه وبعد إسقاط نظام القذافي، تعالت الأصوات المدافعة عن النظام الفيدرالي على أساس المناطق التاريخية الثلاث (طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب)، لكن لم تترسخ هذه الدعوات لأنها لا تعكس الحقيقة على أرض الواقع، فالهويات الإقليمية القديمة لم يعد لديها نفس القوة كما كانت في السابق، لأن المناطق الثلاث باتت أكثر تنوعاً بسبب وجود مستويات عالية من التحضُّر تشكَّل على مدى الأربعين سنة الماضية.
وبالرغم من ذلك، يرى الباحثان أن النظام اللامركزي في ظل دولة متوحدة يظل هو الخيار الأفضل لتحقيق تطلعات ما بعد الحرب الأهلية، كذلك فإنه في ظل وجود انقسامات كبيرة داخل المجتمع الليبي يبرز التفكير حول الشرعية السياسية وشكل الدولة، وهو ما يعني أن إعادة النظر في مفهوم الفيدرالية قد يكون هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على مظهر من مظاهر الوحدة للأمة الليبية كي تكون قادرة على تأمين حدودها، وتوفير الخدمات الأساسية لكل المواطنين، وتطوير البنية التحتية، وكذلك من أجل الاستفادة بالشكل الأمثل من مواردها الاقتصادية.
ليبيا بين تحدياتها الجسيمة وتاريخها الفيدرالي
يطرح الباحثان تساؤلاً هاماً يتعلق بمدى إمكانية أن تصبح الفيدرالية هي المخرج الأفضل للتحديات التي تواجهها الدولة الليبية، حيث يعتبران أنها لن تصبح الحل الفوري للصراع الدائر في البلاد على السلطة وعلى الموارد، لأن ثمة أزمة ثقة في العملية السياسية بالبلاد بسبب عدم قدرة السلطات المركزية أو عدم رغبتها في الاستجابة على نحوٍ كافٍ للمطالب المحلية ومطالب الأقاليم المختلفة، فشرق ليبيا ينادي الآن بالفيدرالية القديمة وسط مخاوف من التهميش والهيمنة السياسية من قِبل مجموعة سياسية معينة، وتمتد جذور هذه المخاوف في ظل وجود توزيع سكاني غير متكافئ لصالح المحافظات الغربية التي من بينها طرابلس، كذلك فإن هناك رصيداً طويلاً من الإهمال من قِبل نظام القذافي للجزء الشرقي من البلاد، وهو ما عزَّز أزمة الثقة بين شرق ليبيا وبين النظام الحاكم أو الحكومات المتعاقبة.
وتأتي الفيدرالية الجديدة كطريقة من أجل تعزيز الثقة من جديد، حيث إن هيكل الحكم الفيدرالي يأخذ في الاعتبار قضايا عديدة مثل المشاركة السياسية في المؤسسات المركزية في البلاد، وزيادة الفرص الاقتصادية للجزء الشرقي من البلاد، وكذلك الحقوق الثقافية والاعتراف بالأقليات العرقية؛ وهو ما يمكن أن يصبح بداية جيدة لإعادة بناء الثقة بين الشعب والحكومة المركزية واستعادة الثقة في العملية السياسية. وبالتالي، فإن الفيدرالية في هذا الإطار يمكن أن تخفف العبء على الحكومة المركزية من خلال تحويل السلطات والمسؤوليات إلى الإدارات المحلية، ومن ثم توفير آلية تحقق المصالح المحلية دون المساس بالوحدة الوطنية الليبية أو بالدولة الليبية نفسها.
من جانب آخر، يتطرق الباحثان إلى الخبرة الليبية في الفيدرالية التي تعود لعام 1951، فقد تأسس النظام الملكي ككيان فيدرالي يضم المناطق الثلاث (برقة، وفزان، وطرابلس). ويشير الباحثان إلى أن هذا النظام قد نجح في توحيد البلاد في ظل وجود كيانات محلية تتمتع بالحكم الذاتي، وذلك في مواجهة الجهود الغربية لعرقلة أي تقدم في البلاد.
ومع ذلك، جاء عام 1959 ليثبت أن ذلك النظام مُرهِق بيروقراطياً، ومكلف اقتصادياً، ومُعقّد سياسياً. وبعد أربع سنوات من هذا النظام، وفيما كانت ليبيا تجني الكثير من عائدات النفط وباتت في غير حاجة للمساعدات الخارجية، تضاءلت الفيدرالية وطغت المركزية الشديدة بعد تولى القذافي البلاد وألغى أي شكل من أشكال الحكومة المحلية الفعالة، وباتت هناك مركزية شديدة تختزل ليبيا في طرابلس سواء سياسياً أو مالياً، وهو ما تدفع الدولة الليبية ثمنه الآن جراء تلك التجربة الكارثية والمدمرة؛ وبالتالي فإن النظام الاستبدادي الذي أسسه القذافي هو ما أدَّى إلى زيادة أزمة الثقة بين الدولة الليبية وأقاليم الدولة الأخرى المهمشة لعقود طويلة.
الفيدرالية كحل ممكن للأزمة الليبية الراهنة
ترى الدراسة أن هيكل الحكم الفيدرالي في ليبيا الذي يقوم على أساس سلطة تنفيذية لامركزية وسلطة تشريعية مركزية تتمتع بسلطات تشريعية محدودة تؤول إلى البلديات المحلية والأقاليم الليبية، يمكن أن يثبت أن "الحوكمة" هي الخيار الأفضل والفعًّال للحكم في ليبيا ما بعد الثورة، فالسلطة التشريعية يؤول إليها الضرائب، ووضع الميزانية، والتخطيط المحلي، والتنمية، بالإضافة إلى المسؤولية عن الخدمات الترفيهية والشرطة وخدمات الإسكان وكذلك الرعاية الصحية وإدارة المحاكم البلدية وخدمات النقل العام، وهو ما يعني أن ثمة درجة من الحكم الذاتي التي توفر الحلول الجوهرية التي تسمح للفصائل الليبية المتنافسة بتحقيق تطلعاتها المختلفة إزاء إدارة القضايا ذات الطابع المحلي.
ويرى الباحثان أنه لدعم الهيكل الفيدرالي لابد من بناء مؤسسات قوية وناجحة من أجل تقوية شبكة العلاقات بين المجتمعات المحلية المختلفة، وستكون الحكومة المركزية مطالبة من أجل تعزيز شرعيتها ومصداقيتها بأن تطور من قوة وفاعلية المؤسسات المحلية، وهو ما سيصبح الحل الأفضل للاستجابة لتطلعات الشعب الليبي، وسوف يثبت أن الحكومة قادرة على توفير السلع والخدمات للمواطنين، وتقليل فجوة أزمة الثقة بين الحكومة والشعب، ومن ثم تحقيق الشرعية.
وفي هذا الإطار، يشير الباحثان إلى أن الفيدرالية تواجه مقاومة شرسة من الغرب، في ظل القلق من أن تكون الفيدرالية مجرد ستار من أجل الانفصال والسيطرة على معظم الموارد النفطية في شرق البلاد، لهذا السبب يُفضِّل الغرب وجود حكومة مركزية قوية من أجل إدارة موارد البلاد. وبالتالي، فإن هذه النظرة للفيدرالية تجعلها كأنها حركة انفصالية أو شبه انفصالية، وهو ما يراه الباحثان بمثابة تصورات خاطئة تتخلل النقاشات حول الفيدرالية، مؤكدَين أن هذه التشابكات السياسية والاقتصادية النفعية التي تستهدف الفيدرالية قد أعاقت تقديم خطاب صحي بشأنها.
كيفية تحقيق نظام فيدرالي فعَّال في ليبيا
يرى الباحثان أن الاستقطاب الحالي الموجود في ليبيا بين مختلف الفصائل يُصعِب من عملية تحقيق الفيدرالية، لكن هناك بعض الخطوات التي يمكن أن يتم اتخاذها نحو الفيدرالية، ومنها خلق الثقة اللازمة بين الفصائل المختلفة بما يساعد على خلق بيئة أكثر ملائمة للتفاوض حول الحل الأفضل للأزمة السياسية، ومنها على سبيل المثال؛ قيام الأمم المتحدة بتقديم خارطة طريق لتحقيق الفيدرالية التي تعالج المشكلات المختلفة في جميع أنحاء ليبيا.
وتشمل عناصر خارطة الطريق تشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها تنفيذ البرنامج الأساسي لإقامة الحد الأدني من الأمن في البلاد، وإقناع الميليشيات العسكرية بالانسحاب من المدن المحاصرة والمنشآت الرئيسية، وكذلك تمكين الجمعية التأسيسية من القيام بأعمالها. ويبرز الدور الأهم للقادة السياسية والنخبة خاصةً داخل الجمعية التأسيسية من أجل تشكيل نقاش صحي وبنَّاء حول الفيدرالية، وهذه العملية التشاورية بين النخب يمكنها أن تمتد في ظل مناخ صحي إلى العامة، وهو ما يخلق حواراً وطنياً مستمراً يُبرز الاقتراحات الأفضل والمخاوف المختلفة؛ مما سيؤدي إلى توصيات قادرة على معالجة الثغرات التي تعوق تحقيق نظام فيدرالي فعًّال، وهو ما سيترتب عليه تباعاً خلق بيئة مواتية للسلام والمصالحة في ليبيا وإنهاء الصراع.
ختاماً، يشير الباحثان إلى أن الدستور كفيل بأن يوفر الإطار القانوني لإنشاء الفيدرالية، وأن الدور الأبرز يظل للقيادة السياسية الليبية والنخبة الليبية من أجل تعزيز فرص الحوار الوطني في ليبيا والوصول إلى "فيدرالية جديدة" نابعة من بيئة صحيّة وحوار وطني حقيقي، كما أن هناك مسؤولية على المجتمع الدولي أيضاً تجاه تحقيق الفيدرالية في ليبيا تتمثل في تقديم الخبرات والدروس المستفادة من حالات أخرى لدول ما بعد الصراع من أجل تعزيز كل سبل التواصل الفعَّال بين المستويات الحكومية المختلفة.
ويؤكد الكاتبان أنه على المدى القصير سوف تصبح الفيدرالية هي الداعمة للمفاوضات الجادة من أجل إنهاء الصراع والوصول لحلول سلمية في ليبيا، وعلى المدى الطويل سوف تصبح ليبيا موحدة ومستقرة وتحترم التنوع في إطار فيدرالية قوية وشاملة ذات طابع مؤسسي.
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "الفيدرالية الجديدة في ليبيا"، والمنشورة في ديسمبر 2014 عن (مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي).
المصدر:
Karim Mezran and Mohamed Eljarh, The Case For a new Federalism in Libya (Washington, Rafik Hariri Center for the Middle East, The Atlantic Council, December 2014).