صدرت العديد من التقارير خلال الفترة الماضية، التي تتناول الأوضاع المالية لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث ازداد اهتمام المؤسسات الاقتصادية الدولية بدول المجلس واقتصاداتها، لاسيما في ظل الأزمة التي يعيشها العالم الآن، والتي تعم فيها الضغوط على الماليات العامة للدول، بسبب مسئوليات الحكومات تجاه توفير النفقات الصحية اللازمة لمحاصرة فيروس "كورونا"، وكذلك تأمين احتياجات تمويل ميزانيات التحفيز الاقتصادي، في الوقت الذي تتراجع فيه الإيرادات العامة، بينما تطبق الدول سياسات العزل العام والإغلاق الاقتصادي.
وإذا كانت جميع الدول تشترك في تلك الظروف، لكن هناك دولاً تختص بعوامل وملامح أخرى للأزمة بجانب ذلك، ومن بينها دول الخليج العربية، التي تعيش موازناتها العامة ضغوطاً أخرى ترتبط بتراجع الإيرادات النفطية، في ظل تراجع الطلب العالمي على النفط، سلعة التصدير الأولى لهذه الدول، بجانب تراجع أسعار هذا المنتج الحيوي. وقد فرضت هذه الظروف الاستثنائية على حكومات دول المجلس تبني سياسات مالية أكثر فاعلية وحزماً في مواجهة الأزمة.
توجه جديد:
عملت دول مجلس التعاون الخليجي على التوسع في الاعتماد على مصادر تمويلٍ لم تكن تلجأ إليها كثيراً خلال السنوات الماضية، ألا وهى الاستدانة، حيث لجأت هذه الدول في ظل أزمة "كورونا" إلى تأمين احتياجاتها المالية عبر أسواق السندات الدولية. وبرغم أن الربع الأول من العام الجاري لم يكن قد شهد الكثير من الإصدارات الخليجية من السندات والصكوك، لكن الربع الثاني منه شهد توسعاً من قبلها في تلك الإصدارات، لاسيما أن الربع الثاني هو الفترة التي بدأت فيها اقتصادات دول المنطقة في استشعار الضغوط الاقتصادية الناتجة عن أزمة "كورونا"، كما أنها الفترة التي تركزت فيها معظم إجراءات الإغلاق الاقتصادي بدول المجلس.
وقد ذكر تقرير صادر حديثاً عن المركز المالي الكويتي "المركز" أن إجمالي إصدارات الصكوك والسندات الخليجية بلغ 70.7 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2020، بارتفاع قدره 9% عن قيمتها قبل عام، حيث كانت قد بلغت 65 مليار دولار في النصف الأول من عام 2019. وتشمل هذه الإصدارات الصكوك والسندات الصادرة من قبل الحكومات والشركات أو المؤسسات المالية لأغراض التمويل، والتي كانت مقومة سواءً بالعملات المحلية أو الأجنبية، خلال فترة النصف الأول من العام.
وقد جاءت الإمارات في صدارة دول المجلس من حيث إجمالي إصدارات السندات والصكوك في النصف الأول، بقيمة إصدارات إجمالية بلغت 24.6 مليار دولار أو ما نسبته 35% من إجمالي الإصدارات الخليجية. بينما جاءت السعودية في المرتبة الثانية بقيمة إصدارات تبلغ نحو 19.8 مليار دولار، وبنسبة 28% من إجمالي الإصدارات الخليجية، ثم تبعتهما باقي دول المجلس الأخرى.
ويمثل حجم الإصدارات الكبير، للسندات والصكوك، كما هو الحال بالنسبة للإمارات والسعودية على وجه الخصوص، وباقي دول المجلس على وجه العموم، مؤشراً على الثقة الكبيرة التي تكنها أسواق السندات والمؤسسات الدولية في اقتصادات دول المجلس، برغم الظروف التي يمر بها الاقتصاد العالمي، والتي اضطرت مؤسسات التصنيف الدولية إلى تخفيض التصنيف الائتماني لعدد من دول العالم لم يسبق أن حدث بهذه الوتيرة على الإطلاق.
ويمثل لجوء الدول الخليجية، ولاسيما الإمارات والسعودية، إلى أسواق السندات الدولية في هذا الوقت، قراراً جيداً بالنسبة لها، خاصة أنها مازالت تتمتع بميزات مالية وأوضاع ائتمانية آمنة تسهل عليها عملية الحصول على الائتمان الذي تريد. كما أن هذه الوسيلة تمكنها في الوقت ذاته من تنويع مصادر الدخل والإيرادات، والاستفادة من الهوامش الواسعة للاستدانة التي مازالت يمكنها التحرك فيها، في ظل انخفاض نسب الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل منها، مقارنة بمعظم دول العالم.
ثقة عالية:
أظهر تقرير المركز الكويتي أن إصدارات السندات السيادية الخليجية بلغت نحو 42.3 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2020، وبنسبة تبلغ 59.8% من إجمالي الإصدارات الخليجية من الصكوك والسندات ككل. كما أن حجم الإصدارات السيادية لدول المجلس في النصف الأول لهذا العام أعلى منه قبل عام بنسبة تصل إلى 40%.
وتشير هذه المؤشرات إلى التوجه الواضح لدى حكومات دول المجلس نحو أسواق السندات والصكوك الدولية، مع تصاعد تأثير أزمة "كورونا" على الموازنات العامة للدول. كما يعكس الارتفاع الحادث في حجم الإصدارات السيادية الخليجية مستوى الإقبال العالمي عليها، لاسيما في ظل ارتفاع مؤشرات الموثوقية بها، لكونها سندات وصكوك مضمونة من قبل حكومات تتمتع بأوضاع مالية ذات كفاءة وجدارة مرتفعة ومستقرة.
وما يزيد هذا المؤشر وضوحاً هو أن حجم إصدارات الشركات في دول المجلس بلغ 28.5 مليار دولار خلال النصف الأول من العام الجاري، متراجعاً بنحو 18% عنه في النصف الأول من عام 2019، الذي بلغ فيه 34.9 مليار دولار. ويشير هذا التراجع إلى الصعوبات التي تتعرض إليها الشركات في الحصول على التمويل، حتى من أسواق السندات والصكوك. وليست الشركات الخليجية وحدها التي تواجه هذه الصعوبات، بل جميع الشركات حول العالم، حيث هناك تفضيل من قبل المستثمرين للاكتتاب في السندات السيادية على حساب السندات الصادرة عن شركات.
سياسة حذِرة:
إذا كانت فترة النصف الأول من عام 2020 شهدت تلك الزيادة في إصدارات الصكوك والسندات، لاسيما الحكومية منها، في دول مجلس التعاون الخليجي، فإنه من المتوقع أن تشهد فترة النصف الثاني من العام تحركاً مشابهاً أيضاً، لاسيما أنه من المتوقع عدم حدوث تعافي كبير ومفاجئ في الاقتصاد العالمي، ومن ثم الطلب العالمي على النفط، وبالتالي الإيرادات النفطية لدول المجلس، بل من المرجح أن يشهد النصف الثاني حالة هدوء نسبي وتعافي بطيء، ومن ثم يتوقع أن تبقى الإيرادات النفطية لدول المجلس عند مستويات غير مرتفعة، ما سيبقي على حاجة الدول إلى أسواق السندات العالمية.
وفي مثل هذه الظروف، فلابد من التعامل بحذر في هذا الإطار، وعدم الإفراط في اللجوء لأسواق الاستدانة بشكل عام، بما في ذلك أسواق السندات، وأن يتم استخدام الأموال التي يتم تأمينها من تلك القنوات بشكل فعال وكفؤ، من أجل تجنب حدوث تضخم غير محسوب في أحجام ديون اقتصادات دول المجلس، ومن أجل المحافظة على الجدارة الائتمانية للأوضاع المالية السيادية، وكذلك أوضاع الشركات، عند مستويات آمنة.