رغم تصاعد حدة التوتر بين تركيا وألمانيا خلال الفترة الماضية، بسبب التباين في التعامل مع بعض الملفات، على غرار أزمة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط إلى الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا، والتطورات التي تشهدها دول الصراعات، لا سيما سوريا والعراق، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع الطرفين ليس فقط إلى محاولة ضبط حدود هذا التوتر وعدم تصعيده لدرجة غير مسبوقة، بشكل يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على مصالحهما، وإنما أيضا السعى للوصول إلى محاور توافق حول بعض القضايا التي تحظى باهتمام مشترك من جانبهما.
ملفات شائكة:
لم يعد ملف اللاجئين، رغم أهميته وتأثيراته الداخلية الملحوظة، هو الملف الوحيد الذي اتسع نطاق الخلافات بين الطرفين حوله خلال الشهور الماضية، خاصة بعد إصرار تركيا على ربطه بملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما بدا جليًا في تلميح أكثر من مسئول تركي إلى إمكانية التراجع عن تنفيذ الاتفاق الذي تم إبرامه مع الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين في مارس 2016 في حالة ما إذا لم يحدث تقدم في عملية الانضمام، إذ بدا واضحًا أن ثمة ملفات أخرى ساهمت في تصعيد حدة التوتر بين أنقرة وبرلين.
فقد أثار القرار الذي تبناه مجلس النواب الألماني "البوندستاغ" في يونيو 2016 باعتبار مذابح الأرمن التي وقعت عام 1915 إبادة جماعية ردود فعل متشددة من جانب تركيا التي وجهت انتقادات حادة للسياسة الألمانية وأشارت إلى أن هذه الخطوة سوف تؤثر على العلاقات الثنائية بين الطرفين. كما وجهت تركيا اتهامات لألمانيا بدعم حزب العمال الكردستاني وبعض المجموعات اليسارية الأخرى، وإيواء بعض المتورطين في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت في منتصف يوليو 2016.
ويتوقع أيضًا أن يؤدي صدور أمر من إحدى المحاكم في اسطنبول، في نهاية فبراير 2017، بحبس الصحفي الألماني التركي دنيز يوجل مراسل صحيفة "دي فيلت" الألمانية تمهيدًا لمحاكمته بتهم ترويج دعايا إرهابية والتحريض على الكراهية، إلى توسيع نطاق الخلافات بين الطرفين، وهو ما بدأت مؤشراته في الظهور بعد أن قدمت وزارة الخارجية الألمانية احتجاجًا للسفير التركي بسبب هذا القرار، حيث يبدو أن هذا التحرك يحظى بتأييد داخل ألمانيا، في ظل التحفظات التي تبديها الأخيرة تجاه ما تسميه اتجاهات عديدة بـ"ملف الحريات" في تركيا، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة.
اعتبارات مضادة:
ومع ذلك، ورغم الجدل الذي ظهر في ألمانيا خلال الفترة الأخيرة مع إشارة تقارير عديدة إلى احتمال قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة ألمانيا، في إطار جولة أوروبية محتملة، بهدف التواصل مع الجالية التركية لحثها على المشاركة في الاستفتاء الذي سوف يجري في 16 أبريل القادم وتأييد التعديلات الدستورية المطروحة فيه، إلا أن ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع الطرفين نحو العمل على ضبط حدود هذا التوتر والحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة خلال المرحلة القادمة.
إذ تبدي كل من أنقرة وبرلين اهتمامًا خاصًا بالحرب ضد التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم "داعش"، خاصة بعد الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها بعض المدن الألمانية والتركية وأعلن التنظيم مسئوليته عنها في إطار رده على العمليات العسكرية التي يتعرض لها في كل من سوريا والعراق، وهو ما يفرض على الطرفين ضرورة رفع مستوى التعاون الأمني خلال المرحلة القادمة لتقليص احتمالات تكرار مثل هذه العمليات من جديد.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض الطائرات الألمانية التي تشارك في الحرب ضد "داعش" تستخدم قاعدة "إنجرليك" الجوية التركية في تنفيذ عملياتها، ورغم أن ثمة تقارير عديدة أشارت إلى أن ألمانيا رفضت إطلاع تركيا على صور التقطتها طائراتها لمواقع "داعش"، إلا أن ذلك لم يقلص من أهمية التعاون الأمني بين الطرفين لمواجهة تهديدات التنظيم.
إلى جانب ذلك، فإن الاستحقاقات المهمة التي سوف تشهدها كل من تركيا وألمانيا خلال المرحلة المقبلة، ربما تفرض على الطرفين ضرورة العمل على تقليص حدة التوتر وتوسيع نطاق التفاهمات، باعتبار أن العلاقات الثنائية سوف تكون محورًا مهمًا في تلك الاستحقاقات، خاصة أنها ترتبط بدرجة مباشرة بملف اللاجئين، الذي يحظى باهتمام خاص من جانب القوى السياسية في كلتا الدولتين.
إذ تستعد تركيا في الفترة الحالية لإجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بهدف تعزيز صلاحيات الرئيس في 16 أبريل 2017، فيما تجري الانتخابات الاتحادية في ألمانيا في 24 سبتمبر 2017، حيث تسعى المستشارة الألمانية انجيلا ميركل إلى الفوز بولاية رابعة، في الوقت الذي تتوقع فيه تقارير عديدة أن تواجه منافسة قوية، خاصة في ظل الانتقادات التي تتعرض لها بسبب السياسة التي تبنتها في ملف اللاجئين تحديدًا.
وإلى جانب ذلك، فإن ألمانيا ما زالت تعول على دور تركيا في تقليص تدفق اللاجئين إلى أراضيها، خاصة أنها تعمل في الفترة الحالية على اتخاذ خطوات إجرائية لتحقيق ذلك، في ظل تزايد الأعباء التي يفرضها استمرار تدفق اللاجئين، خاصة على المستوى الأمني. وقد بدا اهتمام ألمانيا بهذا الملف جليًا في الزيارة التي قامت بها ميركل إلى أنقرة، في فبراير 2016، حيث قالت أن "ألمانيا سوف تستقبل 500 لاجىء شهريًا من تركيا".
وفي مقابل ذلك، فإن تركيا ورغم انتقاداتها المتواصلة للسياسة الألمانية، إلا أنها لا تبدو في وارد تصعيد التوتر إلى درجة غير مسبوقة، خاصة خلال الفترة الحالية، في ضوء استمرار مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم العقبات التي ما زالت تحول دون ذلك، حيث ترى اتجاهات عديدة داخل تركيا أن توسيع نطاق الخلافات مع ألمانيا، بالتوازي مع استمرار الانتقادات الأوروبية للإجراءات التي تتخذها تركيا على الصعيد الداخلي، يمكن أن يضعف من احتمالات تحقيق ذلك على المدى الطويل، خاصة في ظل الثقل الذي تحظى به ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي.
وقد انعكست تلك الانتقادات بشكل واضح في إعلان وزير الخارجية النمساوي سيباستيان كورتز، في 27 فبراير 2017، أن بلاده لا ترحب بزيارة أردوغان في إطار حملة الاستفتاء الذي سوف يجرى في تركيا قريبًا لأن ذلك "قد يسبب الانشقاق والتوتر في البلاد" حسب تصريحاته، في إشارة إلى التوترات التي حدثت في عام 2014 بين أنصار حزب العدالة والتنمية والأكراد عقب زيارة سابقة لأردوغان.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن ثمة دوافع عديدة قد تساهم في ضبط حدود الخلافات العالقة بين تركيا وألمانيا، خاصة في ظل سعيهما إلى تجنب التداعيات السلبية للتطورات التي تشهدها المنطقة، سواء على صعيد تكرار الهجمات الإرهابية من جانب تنظيم "داعش"، أو على مستوى استمرار تدفق اللاجئين من المنطقة إلى أوروبا.