أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

مرحلة مغايرة:

ما هي حدود التوتر في العلاقات التركية-الأوروبية؟

03 أبريل، 2017


توترت علاقات تركيا مع معظم الدول الأوروبية على خلفية منع الأخيرة فعاليات كانت مقررة على أراضيها لدعم الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقررة في منتصف إبريل 2017، ما يُؤكد الموقف الأوروبي الرافض لتعديلات الدستور التركي، انطلاقًا من قناعة بأن النظام الرئاسي الذي يتطلع إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤسس لحكم شمولي لا يتوافق مع القيم والمفاهيم الأوروبية للحكم في دولة سعت طويلا إلى نيل العضوية الأوروبية. 

وفي رد على منع الدول الأوروبية لفعاليات مؤيدة للتعديلات الدستورية، شن أردوغان هجومًا لاذعًا على تلك الدول، وصلت إلى حد وصفه بعضها بـ"النازية" و"الفاشية" و"العنصرية"، وهو ما أثار ردود فعل أوروبية غاضبة، وصلت إلى حد وصف زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف بهولندا "شن جيرت فيلدرز" الرئيس التركي بـ"المجنون". كما صرح بعض السياسيين الأوروبيين علنًا بأنه لا مكان لتركيا في الاتحاد الأوروبي.

ويطرح تفجر الأزمة بين تركيا وعدد من الدول الأوروبية على هذا النحو العنيف تساؤلات كثيرة عن أسبابها وتداعياتها ومآلاتها، وفي الجوهر: هل هي أزمة طارئة يمكن تسويتها بانتهاء الاستحقاق الدستوري في تركيا؟ أم إنها أزمة عميقة نقلت العلاقات التركية-الأوروبية إلى مرحلة مغايرة؟ والتساؤل الأهم يتمثل في: من هو المستفيد الأكبر من هذه الأزمة على المستويين المحلي والدولي؟.

أسباب تفجر الأزمة

في الواقع، منذ الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في منتصف يوليو 2016، تبدو العلاقات التركية-الأوروبية وكأنها أمام سلسلة من الأزمات الكفيلة بتفجرها، فالقضايا الخلافية سرعان ما تأخذ طريقها إلى الإعلام من خلال تصريحات نارية وأخرى مضادة، قبل أن تتحول إلى إجراءات تقضم الثقة على حساب العلاقات الحيوية للطرفين. فلم تمنع عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، ومساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها الاقتصادية والعسكرية القوية مع دوله، لا سيما مع ألمانيا التي هي الشريك التجاري الأول لتركيا؛ من أن تصل العلاقات بينهما إلى مرحلة الأزمة التي تفجرت عندما اقتربت الدول الأوروبية من قضية حساسة تتعلق بحلم أردوغان في الانتقال إلى النظام الرئاسي الذي تطلع إليه طويلا.

وتتمثل أهم القضايا الخلافية التي شكلت أرضية لتفجر الأزمة الأخيرة بين تركيا والدول الأوروبية فيما يلي:

1- اتهام تركيا معظم الدول الأوروبية، لا سيما ألمانيا، بدعم حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًّا، وكذلك حليفه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية. وترى تركيا أن الهدف من هذا الدعم هو تقسيم تركيا، وإقامة دولة كردية في المنطقة.

2- إقرار معظم الدول الأوروبية ما يُعرف بقانون الإبادة الأرمنية، حيث تقول التقارير إن الدولة العثمانية ارتكبت خلال فترة الحرب العالمية الأولى مجازر ضد الأرمن أسفرت عن مقتل قرابة مليون وأربعمائة ألف أرميني، فيما تقول تركيا إن عدد هؤلاء لا يتجاوز ثلاثمائة ألف، وإن ذلك حصل بسبب ظروف الحرب، وتضيف أنقرة أن حل القضية لا يُمكن أن يكون من خلال إقرار قانون الإبادة، وإنما بنوع من المصالحة التاريخية. فهي تخشى من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تجريم التاريخ التركي، وما يترتب على ذلك من تداعيات قانونية وسياسية وتعويضات مالية.

3- تركيا لديها قناعة راسخة بأن الدول الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، متورطة في الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو الماضي (2016)، وأن الموقف الأوروبي المتأخر في إدانة الانقلاب، وكذلك استقبال الدول الأوروبية للمئات من الضباط الأتراك المؤيدين للانقلاب، ومنحهم اللجوء السياسي، وغير ذلك من الإجراءات؛ تؤكد أن الدول الأوروبية تسعى سرًّا إلى النيل من أردوغان عبر دعم خصومه من العسكريين والسياسيين.

4- ترى تركيا أن ممارسة الدول الأوروبية إجراءات إقصائية ضد المسلمين ومؤسساتهم، وزيادة ظاهرة الإسلاموفوبيا، والحديث عن إمكانية حظر جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من الإجراءات؛ ليست سوى تعبير عن كره غربي للإسلام، وأن تركيا عليها -كدولة إسلامية كبرى- الدفاع عن الهوية الإسلامية والجماعات السياسية التي تتبنى الإسلام.

وفي المقابل، فإن الدول الأوروبية توجه اتهامات عديدة لحكومة حزب العدالة والتنمية، وتحمل الرئيس أردوغان المسئولية عن جملة الممارسات غير الديمقراطية، ومن أهم هذه الانتقادات.

أ‌- أن حزب العدالة والتنمية الذي جاء إلى الحكم عام 2002 وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، تحول تدريجيًّا إلى حزب "سلطوي"، وأنه بات يمارس سياسة إقصائية ضد كل من يعارضه أو يختلف معه سياسيًّا وأيديولوجيًّا. وبهذه الممارسات فقد قضى على التعددية والديمقراطية والتوازن في الحكم. وترى الدول الأوروبية أن الاستفتاء على الانتقال إلى النظام الرئاسي ليس سوى استكمال الحلقة الأخيرة للانتقال إلى نظام الحزب الواحد والحكم الشمولي والحاكم الواحد الذي هو أردوغان.

ب‌- أن سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية وصلت إلى درجة لا يمكن القبول بها من حيث مصادرة الحريات العامة والصحفية والشخصية. فقضية سجن الصحفيين وملاحقتهم وطردهم من وظائفهم، وإغلاق العشرات -إن لم يكن المئات- من المؤسسات الإعلامية والصحفية جعل من تركيا أكبر سجن للصحفيين بحسب تقارير معنية، والتي تؤكد أن الحريات باتت مهددة، وهو ما يتنافى مع القيم الأوروبية. وفي هذا الشأن تؤكد الدول الأوروبية أنها لن تقبل بمثل هذه الممارسات الإقصائية بعد اليوم.

ت‌- اعتماد العنف في التعامل مع القضية الكردية والقوى السياسية التي تعبر عنها كحزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، من خلال اعتقال نواب الأخير وقادته في البرلمان والبلديات، والزج بهم في السجون، وإغلاق مؤسساته ومقاره، بما يعني استحالة ممارسة العمل السياسي واتباع الوسائل السلمية والقانونية والدستورية لحل هذه القضية.

ث‌- أن الدول الأوروبية التي تتعاظم فيها ظاهرة الإسلاموفوبيا باتت تجد في السياسات التركية الداعمة للإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، فضلا عن الأسلمة التدريجية للدولة والمجتمع على حساب الأسس التي قامت عليها الجمهورية التركية العلمانية، مهددًا للسياسات الأوروبية من جهة، ومن جهة ثانية مناقضًا لمعايير كوبنهاجن التي وضعتها أوروبا، واشترطت على تركيا تطبيقها للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. 

ج- أن الدول الأوروبية باتت تنظر بعين الريبة إلى التدخل التركي المباشر في شئون الجاليات التركية المسلمة في أوروبا والذين باتوا مواطنين أوروبيين، ويجب أن يخضعوا للقوانين الأوروبية، ولهذا يُثير التدخل التركي الشك الأوروبي تجاه مواطنيها من أصل تركي، خاصة بشأن مدى ولائهم لبلدهم الأصلي (أي تركيا) أو دولهم الأوروبية الجديدة.

تصعيد متبادل

في ظل استطلاعات الرأي التي أظهرت تقارب نسب المؤيدين والرافضين للتعديلات الدستورية بالانتقال إلى النظام الرئاسي تبدو أصوات الخارج مصيرية لأردوغان، خاصة مع وجود أكثر من ستة ملايين تركي يعيشون في الدول الأوروبية، يحق لنصفهم تقريبًا التصويت، وتاريخيًّا يصوت الأتراك في الدول الأوروبية في العادة لصالح حزب العدالة والتنمية.

ويدفع العدد الكبير من الأتراك في الدول الأوروبية الرئيس التركي أردوغان إلى الصدام مع الدول الأوروبية، ومعارضة سياساتها من أجل الوصول إلى هذه الأصوات، خاصة وأنها ربما تكون كافية لترجيح فوزه، وتحقيق حلمه بالانتقال إلى النظام الرئاسي.

وفي المقابل، فإن السلطات الأوروبية لها حسابات مختلفة ومتناقضة مع أردوغان، فمن جهة تنظر بقلق إلى ولاء الجاليات التركية إلى بلدها الأصلي وانتمائهم الإسلامي أكثر من ولائهم لدولهم الجديدة. ومن جهة ثانية فإن الدول الأوروبية ضد الانتقال إلى النظام الرئاسي في تركيا؛ لأنها تعتقد أن هذا النظام يؤسس للديكتاتورية. ومن جهة ثالثة، تراقب الدول الأوروبية بدقة المشروع التركي الخاص "العثمانية الجديدة" الذي يسعى إليه أردوغان، والذي يقوم على نوع من القومية التركية والإسلام السياسي معًا، كما تراقب تقاربه المثير مع روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، حيث ترى أوروبا في كل ما سبق انقلابًا تركيًّا على العلاقة التاريخية بين الجانبين وعلى عضوية تركيا في حلف الناتو، وسعيها للانضمام إلى العضوية الأوروبية. وفي المقابل لم يعد الاتحاد الأوروبي المثقل بالمشكلات والمهدد بالتفكك يمثل ذلك الحلم التركي الذي أسسه كمال أتاتورك، وتطلع إليه من بعده الذين حملوا إرثه السياسي. 

تداعيات ومآلات الصدام

ستكون قضية اللاجئين أولى القضايا التي ستتأثر بالصدام بين تركيا والدول الأوروبية، لا سيما مع تهديد الرئيس أردوغان أوروبا مرارًا بإغراقها باللاجئين انطلاقًا من الشواطئ التركية على البحر المتوسط، وفي الإجمال يمكن النظر إلى تداعيات الأزمة الجارية على مستويين.

أولا- محليًّا: على الرغم من الخسارة التي قد تلحق بالعلاقات التركية-الأوروبية على المدى القريب، فإن أردوغان يبدو المستفيد الأكبر من هذه الأزمة بتأمينه أكبر تعبئة شعبية في الداخل والخارج لصالح تأييد الاستفتاء، إلى درجة أن المعارضة التركية وجدت نفسها مضطرة للاصطفاف إلى جانبه في الأزمة الجارية، ومثل هذا الأمر يحتل أولوية لدى أردوغان طالما أن المعركة تتعلق بمستقبل نظامه السياسي. 

وفي المقابل فإن التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية تبدو هي المستفيدة على الجانب الأوروبي، نظرًا لأنها تكتسب مشروعيتها من أيديولوجيا التطرف وكره الأجانب والإسلاموفوبيا، بما يجعل من الأزمة مع تركيا سلاحًا في معركتها مع القوى الديمقراطية.

ثانيًا- دوليًّا: أن المستفيد الأكبر من الأزمة التركية-الأوروبية هي روسيا، حيث تشكل هذه الأزمة هدية ثمينة للرئيس الروسي بوتين لتعزيز التحالف التركي-الروسي، والاستفادة من هذا التحالف في مواجهة القوى الأوروبية ومن خلفها الولايات المتحدة، لا سيما مع سعي تلك القوى إلى مواجهة النفوذ الروسي والتوسع شرقا عبر حلف الناتو، وعليه ليس غريبًا أن يبادر بوتين في لحظة ما إلى تقديم مبادرات لأردوغان من نوع حل الخلاف التركي–الأرمني بهدف إبعاد التأثير الأوروبي والغربي عمومًا على تركيا، ودفع الأخيرة إلى الاصطفاف الاستراتيجي مع روسيا.

ختامًا، من الواضح أن الأزمة الجارية بين تركيا وأوروبا توحي بسلسلة من الأزمات المتتالية لتصعيد الطرفين في الملفات الخلافية، بما يعني صعوبة إن لم يكن استحالة عودة العلاقات التركية-الأوروبية إلى ما كانت عليها حتى بعد الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية والاستفتاء التركي، خاصة أن المتغيرات الداخلية لدى الطرفين قد تزيد من حدة التوتر والصدام على أرضية التناقض الحضاري والسياسي بينهما.