أخبار المركز
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (أزمات "يون سوك يول": منعطف جديد أمام التحالف الاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة)
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)

عقيدة التجنب:

تحولات الفكر الاستراتيجي الروسي نحو الحرب الهجينة

15 أبريل، 2024


عرض: أحمد نظيف

دفع التدخل العسكري الروسي ضد أوكرانيا في فبراير 2022 أو ما تسميه موسكو "العملية الخاصة" الأوساط الأكاديمية الغربية إلى إعادة دراسة الفكر الاستراتيجي الروسي المعاصر، خاصة أنه شهد تحولاً مند سقوط الاتحاد السوفيتي، كان جوهره هو تجنب العمل المسلح؛ عبر انتهاج استراتيجيات غير عسكرية أو الحرب الهجينة، والتي لم تحظ جذورها المفاهيمية بالكثير من البحث؛ مما أعاق فهم المنطق العميق الذي يشكل التفكير الاستراتيجي الروسي. 

من هنا، تأتي أهمية كتاب "الفكر والثقافة الاستراتيجية الروسية: من تجنب العمل المسلح إلى الحرب في أوكرانيا"، للباحث ديمتري مينيك، المتخصص في الدراسات الروسية بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، والذي حصل على جائزة ألبرت تيبودي للدراسات الأكاديمية في العلاقات الدولية في فرنسا للعام 2023.

استند مينيك في كتابه إلى كم هائل من الأدبيات الاستراتيجية الروسية؛ إذ فحص الأبحاث والوثائق العقائدية والخطب التي ألقاها المسؤولون العسكريون والسياسيون الروس؛ ليحلل المفاهيم والأفكار والمناقشات التي حاول المنظرون العسكريون الروس من خلالها فهم خصائص الجيش الروسي.

استكشف أيضاً الأطر المعرفية للاستراتيجيين الروس، المكونة من معتقدات وتصورات وثقافة استراتيجية، والتي تُعد مفتاحاً أساسياً لفهم نظرية التحايل أو التجنبّ، والمفاهيم العقائدية والمؤسسية؛ ليخلص إلى أنه لا يمكن فهم الحرب في أوكرانيا بشكلٍ كامل دون معرفة تاريخ الفكر والثقافة الاستراتيجية الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي؛ إذ صار تجنب العمل المسلح، أكثر من مجرد عقيدة، بل أصبح مداراً استراتيجياً.

استراتيجية التجنب:

اتسم التفكير العسكري الروسي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي بعمق بالأطر المعرفية المرتبطة بالأيديولوجية الماركسية اللينينية من ناحية، وبتجربة الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي من ناحية أخرى؛ وأدى هذان العاملان من الحقبة السوفيتية دوراً حاسماً في النقاش حول جوهر الحرب والتنظير للتحايل على العمل العسكري المسلح. 

إذ استمرت الإشارات إلى الأيديولوجية الماركسية اللينينية، خاصة تأييد لينين لرؤية المنظر الألماني كلاوزفيتز للحرب باعتبارها عنفاً (مسلحاً)، في هيكلة العلوم العسكرية الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي بالمعنى الواسع. في المقابل، طبعت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي هذه النظرية الجديدة بطابعها الخاص، فقد كانت شكلاً جديداً من أشكال الحرب، تميز بتجنب الصراع المسلح بين الدول لتحقيق أهداف سياسية حاسمة؛ وباعتبارها سبباً لانهيار الاتحاد السوفيتي؛ يجب ألا يتخلى العلم العسكري والجيش عن الحرب الباردة بوصفها مفهوماً تحليلياً.

كما أدى الغرب، الأمريكي والأوروبي، باعتباره عدواً في عقل المؤسسة العسكرية الروسية، دوراً أساسياً في هذا التحول من عقيدة العمل المسلح السوفيتية القديمة، إلى عقيدة تجنب العمل المسلح، وخوض الحروب بوسائل غير عسكرية. فقد كان رفض كبار المنظرين الروس للغرب مترافقاً في الوقت نفسه مع رغبةٍ في محاكاة هذا الغرب، فمن خلال ملاحظة الاستراتيجيات غير المباشرة التي يعزوها المؤلفون العسكريون الروس إلى الغرب، خاصة الولايات المتحدة؛ قام هؤلاء بإعادة إنتاج هذه الاستراتيجيات الغربية ودمجها في الثقافة الروسية العسكرية. 

فالحرب والثورة الملونة والفوضى المسيطر عليها والبرمجيات المضادة هي أدوات ابتكرها في الأصل العقل العسكري الغربي، وبرغم رفض تلك الأدوات في التفكير الاستراتيجي الروسي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي؛ فإنه وظفها في الوقت نفسه لتنظير الالتفاف أو تجنبّ العمل المسلح، ولاسيما منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، تلك الأدوات تتسم بأنها استراتيجية للصراع غير العسكري، وتتضمن الحروب النفسية والمعلوماتية وتوظيف القوات غير النظامية والحرب بالوكالة من خلال المليشيات والعقوبات الاقتصادية، وهي تسمى في معجم الاستراتيجية الروسية بالحرب الهجينة.

يصف المنظران العسكريان الروسيان، فوروبيف وكيسيليف، تلك الاستراتيجية بأنها: محاولة لعزل جزء من أراضي دولة أخرى باستخدام مجموعة من التدابير السياسية والدبلوماسية والإعلامية والدعائية والمالية والاقتصادية والعسكرية المنسقة، دون شن أي حملة عسكرية بمعناها التقليدي. ويمكن تنفيذ ذلك من قبل قوات العمليات الخاصة، بما في ذلك الوحدات شبه العسكرية المسلحة التي تم تدريبها في المنطقة المستهدفة والتي يمكنها عرقلة وحدات الجيش النظامي، كما يتم نشر قوات العمليات الخاصة في مواعيد نهائية وبدعم من السكان في الجزء من الدولة المستهدفة الذي سيتم ضمه أو فصله في البداية عن بقية أراضي الدولة، كما يتم التجنيد السري من قبل الجماعات شبه العسكرية التابعة للمعارضة، والتي يتم تدريبها على إجراء العمليات القتالية للمساعدة على زعزعة استقرار الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

بحسب الكتاب، فإن تطبيقات هذه الاستراتيجية تتجلى في العملية الخاصة لضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وعملية انفصال دونباس، أو حتى في حرب أوكرانيا في 2022، التي أطلق عليها اسم "عملية خاصة"، واستعملت فيها القوات غير النظامية "فاغنر"، مع ذلك، فإن تنظير التحايل على العمل المسلح لم ينتج نموذجاً واضحاً يمكن إضفاء الطابع المؤسسي عليه، بل تغلغل في التفكير والمبادئ الاستراتيجية الروسية، فلم يقرر الاستراتيجيون الروس اسماً محدداً لتعريف الالتفاف على العمل المسلح. 

يتسم هذا النهج الروسي الجديد في الحرب بالتكيف والمرونة، ولا يخلو من استلهام أحد المراجع العسكرية الوطنية التي لا تزال تستخدم على نطاق واسع في روسيا، وهو ألكسندر سفيتشين، وهذا أيضاً ما أظهرته التجربة الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا، لدرجة أن الكرملين تمكَّن من محاولة إخضاع هدفه باستخدام أساليب مختلفة، عسكرية وغير عسكرية. 

مع ذلك، ليس من المؤكد أن هذه الأنماط قد تم التفكير فيها بتكامل عميق. ويبدو واضحاً –بحسب الكتاب– أن قرار إطلاق "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا في فبراير 2022 قد نبع من الإحباط من فشل الردع الاستراتيجي الاستباقي (2021-2022)، وهي مرحلة أخرى من مراحل الالتفاف على العمل المسلح، من خلال التهديد بالغزو وحشد القوات على الحدود والتلويح بإسقاط النظام.

فاعلية العقيدة:

يعتقد ديمتري مينيك، أن مرونة عقيدة تجنب العمل المسلح، جعلت فاعليتها محدودةً في المثال الأوكراني، الذي مر بثلاث مراحل من الالتفاف: أولاً من 2014 إلى 2021، مرحلة الحرب غير المسلحة، وثانياً، بين 2021 و2022، مرحلة الردع الاستراتيجي الاستباقية، من خلال التهديد بالعمل المسلح، والمرحلة الثالثة، عام 2022، من خلال العملية الخاصة، وهي خليط من العمل المسلح النظامي وغير النظامي والعمل غير المسلح (حرب اقتصادية، دعاية، حرب معلومات، حرب رقمية...). 

في المراحل الثلاث، تمت المبالغة في تقدير فعالية الالتفاف على العمل المسلح، وهي عملية من المفترض أن تمهد لعمل مسلح محدود وحاسم ومفاجئ لإسقاط النظام في أوكرانيا مثل الفاكهة الناضجة، إلا أن الواقع أظهر صعوبة تحقيق ذلك الهدف، فمراحل ما قبل التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لم تكن كافية لإنضاج شروط سقوط النظام، ولفهم المبالغة في تقدير فعالية استراتيجية التحايل على العمل المسلح وسوء تطبيقها؛ من الضروري اللجوء إلى التصورات والمعتقدات وطريقة التفكير والثقافة الاستراتيجية والسياسية للنخب العسكرية والسياسية الروسية؛ إذ أفضت إجراءات عملية التحايل إلى نتائج عكسية وعواقب وخيمة على روسيا، على غرار تجارب تاريخية سابقة (برلين، 1948 و1961، أفغانستان 1979، إلخ). 

من وجهة النظر هذه، فحتى لو حققت موسكو بعض النجاحات العملياتية في أوكرانيا بين عامي 2014 و2015؛ فإن هذا المشروع برمته كان مبنياً على وهم "تلقائية الالتفاف الشعبي" ولم يحصد سوى مكاسب محدودة، فقد نأى القطاع الأكبر من السكان الأوكرانيين بأنفسهم عن التورط في دعم العملية؛ بل ساعدت العملية العسكرية الروسية بشكل غير قصدي، على تقوية فكرة "الوطنية الأوكرانية"، وفقاً لما يراه الكاتب. لكن النتيجة الأساسية، هي دخول روسيا في مسار طويل واستنزافي من العمل العسكري المباشر في أوكرانيا، وبالتالي انكشاف حدود فاعلية عقيدة الالتفاف على العمل العسكري وحصره في الهجوم الخاطف والناجع والقصير.

ويذهب مينيك، إلى أنه في ضوء هذه المحدودية لاستراتيجية التحايل على العمل المسلح؛ فإن التقييم الموضوعي للتكاليف السياسية والعسكرية والاقتصادية لـ"العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا هو أنها قادت إلى صراع مسلح طويل الأمد وشديد الكثافة وغير متوقع؛ ما يعني أنه ينبغي تطوير الفكرة الروسية في نظرية التحايل، فالحرب في أوكرانيا لم تكن عودة معتمدة على الحرب التقليدية والعمل المسلح المباشر، لكنها تباين في مدار الالتفاف على الأعمال المسلحة المباشرة، إلا أن سوء التنبؤ بطبيعة هذا الصراع، ومدى استمراره أدى إلى سوء تقدير آخر يتعلق بمدى تماسك الخصم.

يظل أنه على مدار العقدين الماضيين؛ أصبح لدى الجيش الروسي مجموعة من المفاهيم الاستراتيجية الجديدة بالإضافة إلى تفسير جديد لمفهوم الحرب، والتي تشكل أساساً مفاهيمياً اعتمدت عليه هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع والرئيس الروسي، فالتفكير الاستراتيجي الروسي أصبح أكثر مرونة وابتكاراً وتطوراً مما كان عليه في القرن العشرين، لكنه لا يزال حساساً للهواجس التي ربما لن تتوقف عن التأثير في إنتاجه الفكري والمؤسسي والعملياتي، مع المخاطرة بتطوير خطط وإجراءات وهياكل بعيدة كل البعد عن قدرات روسيا وحقائقها الاستراتيجية. فالعقيدة الاستراتيجية هي نتاج ديناميكية اجتماعية وتعبر عن روح عامة توجه بلداً أو أمةً نحو هدف كبير؛ وبالتالي فهي أكبر من مجرد سردية عسكرية.

المصدر:

Dimitri Minic, Pensée et culture stratégiques russes. Du contournement de la lutte armée à la guerre en Ukraine, Éditions de la Maison des sciences de l’homme, Paris, 2023.