عند اختيار موضوع هذه المقالة، كنت متردداً بين التعليق على نتائج الانتخابات الأمريكية أو الكتابة عن انتشار الصراعات والممارسات اللاإنسانية في الشرق الأوسط. خاصة وأنه كان من الممكن بالفعل قول الكثير عن الانتخابات الأمريكية حتى قبل إعلان النتائج. ولكن بعد أن تناولت سابقاً حالة الفوضى الدولية؛ ونظراً للخسائر المأساوية التي نشهدها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، اخترت التركيز على منطقتنا، وعلى ما هو مطلوب من الدول العربية على وجه الخصوص لمعالجة مثل هذه القضايا والخسائر المستمرة.
إن الشرق الأوسط حالياً يعاد تشكيله جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعلى صعيد الأمن القومي أيضاً. وينبغي لهذه التغييرات الاستراتيجية بعيدة المدى أن تدفع الدول العربية للانخراط معاً والتعاون بشكل فعّال، على المستويين الفردي والإقليمي فضلاً عن وقوفها كتكتل عربي موحد. إن اللامبالاة السياسية في الوقت الحالي تعادل جيوسياسياً السماح للسرطان بالنمو دون رادع، والتغلغل في الجسد العربي دون علاج.
على الجانب الإيجابي، من المهم أن نلاحظ أن التركيبة الديمغرافية للعالم العربي، والتي تحتوي على نسب مرتفعة من الشباب، تولد أملاً متزايداً حينما نفكر بالمستقبل. فالسكان الأصغر سناً يوفرون الفرصة لتأسيس ملكية وطنية -ذات مستويات عالية من المساءلة والشفافية- أكثر تطلعاً للمستقبل، وهي شرط مطلوب ولا غنى عنه للحكم الفعّال.
ولكن في الوقت نفسه، هناك أسباب عديدة تدعو للقلق. فالنزاعات الإقليمية منتشرة بالمنطقة على نطاق واسع، وخاصة -وليس حصرياً- بين الدول العربية وغير العربية، التي تدعي السيادة أو تفرض ولاياتها القضائية بحكم الأمر الواقع. هذا وتتنامى الصراعات السياسية داخل الحدود السيادية وعبرها. كما تتزايد التحديات الاقتصادية وتلك المتعلقة بالموارد؛ مما جذب مختلف الأطراف من داخل المنطقة وخارجها للانخراط فيها. وبالإضافة إلى كل هذا، فهناك أيضاً تحديات كثيرة في مجال الطاقة، والوصول البحري والأمن. وقد حاولت العديد من الأطراف الحكومية وغير الحكومية تصدير أيديولوجياتها بالقوة إلى الآخرين، قبل إعادة تقدير/تقويم/فحص السياسات والممارسات لتحقيق الأهداف الجيوسياسية الإقليمية من خلال أدوات الأمن القومي. ولعل الأكثر إثارة للقلق من كل ما سبق هو الاستخدام المتكرر للقوة على نحو متزايد لحل النزاعات. وقد قوبل هذا الاتجاه بردود فعل إقليمية ودولية فاترة، يمكن تفسيرها على أنها قبول بهذه الممارسات طالما أنها محصورة بالمنطقة.
حان وقت العمل:
على الرغم من الاستقطاب العالمي الحاد، فقد عقد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، "قمة المستقبل" هذا الخريف بنيويورك؛ بهدف محدد يتمثل في تفعيل التعددية والمسؤولية الجماعية في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق، حان الوقت لأن تأخذ الدول العربية إجراءات ملموسة وقرارات سياسية رادعة تجاه الجيران المتجاوزين، ولا بد لها من رؤية استباقية بشأن الجغرافيا السياسية المستقبلية في الشرق الأوسط، تضمن الظروف والشروط اللازمة لتطوير علاقات بنّاءة مفيدة بين العرب وغير العرب.
سوف يزعم البعض أن المنطقة ودولها لا يمكنها تحمل أية صراعات عسكرية إضافية. وسواء أكان هذا صحيحاً أم لا؛ فإن هذه نقطة خلافية لا تمثل أساس الحوار. فهذه ليست دعوة للحرب؛ بل دعوة للقيام بعمل سياسي قوي ذي عواقب حقيقية، حيث إن التقاعس عن اتخاذ مثل هذه الخطوة مع انتشار الظلم وتوسع دائرة القوة والعنف من شأنه أن يجلب الحروب والصراعات إلى أبوابنا جميعاً.
وسيقول آخرون أيضاً إن العالم العربي ليس بوضع يسمح له بزعزعة استقراره والانخراط بإعادة تشكيل المنطقة، مستندين إلى المثل القائل إن "ما تعرفه أفضل مما لا تعرفه". ولكن بمثل هذا الرأي يتجاهل هؤلاء واقعهم الإقليمي، والذي يشهد على أن التغيير قد بدأ بالفعل بصورة واضحة وجلية، وفي الغالب على حسابهم. فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن إسرائيل "تقوم بتغيير الشرق الأوسط"، وقد أعقب ذلك على الفور تجاوزات إسرائيلية امتدت في مختلف أنحاء بلاد الشام، في لبنان وسوريا، وصولاً إلى اليمن.
بصراحة، أشعر بقلق عميق إزاء هذه التجاوزات والتطورات، والتي تعيد تعريف وتشكيل الشرق الأوسط، في الغالب على حساب المصالح الوطنية العربية. وإضافة إلى ذلك، لا أرى أي حل فوري للتصعيد المستمر وغياب الإنسانية. إننا نقف عند مفترق طرق، فالتطورات القريبة لن تكون إلا للأسوأ. وهذا بالتأكيد ليس الوقت المناسب للرضا عن الذات أو اللامبالاة.
نظراً لأن الإجراءات والأحداث الحالية تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي؛ فإن الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة، مع الدول الأعضاء السابقة بحركة عدم الانحياز، وعدد مماثل من أعضاء مجلس الأمن، لا بد وأن يتقدموا فوراً بمشروع قرار إلى المجلس يدعو إسرائيل إلى إنهاء جميع عملياتها عبر الحدود ويفرض عليها وقف إطلاق النار، بغض النظر عن موقف أي عضو دائم أو أكثر بالهيئة.
إن الإجراءات الموصى بها يمكن تلخيصها في الخطوات التالية:
1. ينبغي على الدول العربية أن تتبنى نهج التغيير التدريجي لتحقيق تطلعات الشباب. إن بناء أسس قوية وقدرات أمنية وطنية من شأنه أن يحمي هذه الدول وشبابها من الصدمات المتلاحقة والإحباط، واللذان يتزايدان بسبب اتساع دائرة الظلم وعدم المساواة.
2. يتعين على الدول العربية إعادة ضبط وتنويع علاقاتها الإقليمية والدولية وإرساء التوازن فيها للحد من الاعتماد على أي قوة منفردة؛ ومن ثم يتعين عليها تعزيز قدراتها السياسية والأمنية من أجل بناء علاقات إقليمية أكثر توازناً واستقراراً مع جيرانها، يتوفر فيها تبادل المنفعة بين الطرفين. ولا بد وأن تكون هذه هي نقطة البداية لتعزيز مصداقية الدول العربية ونفوذها السياسي، وإلا فإن اقتراحاتها الإقليمية سوف يتجاهلها الخصوم وتقع على آذان صماء في دوائرهم المحلية.
3. يجب على الدول العربية كذلك أن تُكون بشكل استباقي رؤى مستقبلية لبنية أمنية أكثر عدالة وإفادة للعرب، لمنع محاولات الآخرين التي تعمل على إعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها إلى تحالفات تخدم مصالحهم وحدهم. إن أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هي من خلال إطلاق وثيقة إطارية إقليمية ذات مسارين، يتم اقتراحها أولاً من قبل الدول العربية ومناقشتها داخلياً، قبل تقديمها إلى الأطراف غير العربية بالمنطقة.
المسار الأول لهذه الوثيقة لا بد وأن يؤكد ميثاق الأمم المتحدة ويسلط الضوء على مبادئ علاقات حسن الجوار بين الدول والمبادئ ذات الصلة الخاصة بالمنطقة، مثل عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة. أما المسار الثاني فيجب أن يقدم هيكلاً استشارياً إقليمياً للأمن القومي يعطي الأولوية لحل النزاعات من خلال الدبلوماسية وإدارة الأزمات، فضلاً عن الحد من التهديدات الإقليمية ونزع السلاح. وسوف تتم دعوة أولئك الذين يتبنون المبادئ المقترحة ويحترمونها وينفذونها إلى المشاركة في المسار الثاني الأكثر تشاوراً.
إن الأحداث التي نشهدها ونعيشها الآن عصيبة في الشرق الأوسط وخارجه. وسوف يتساءل كثيرون: "هل هذا هو الوقت المناسب لبذل جهود إقليمية تتطلع إلى المستقبل؟"؛ وأنا شخصياً أفكر في هذا الأمر كثيراً. وفي كل مرة أصل إلى أن التكلفة الحتمية المترتبة على عدم المشاركة هائلة، خاصة بالنسبة للضعفاء أو غير الفاعلين، وهذا نداء صارخ للعمل وأخذ خطوات إيجابية قبل فوات الأوان.