في أعقاب التوقيع على صفقة بريتوريا التي أنهت الأعمال العدائية بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي أنشأت إثيوبيا مجلساً وطنياً للسلام، بغرض خلق تحالف وطني من أجل صنع وبناء السلام. ومن المفترض أن يركز المجلس الجديد على ثلاثة مجالات أساسية؛ خلق الوعي والفهم السليم لأهمية السلام والعمل القاعدي على مستوى المجتمع، بهدف جعل الناس يدركون قيمة السلام والعمل الوطني لبناء السلام. غير أن الإشكالية الكبرى التي تواجه الطبقة الحاكمة في إثيوبيا تكمن في أن السياسات القائمة على العرق في البلاد، والتي تستند إلى قواعد دستورية، أسست نزعة قومية عرقية متنافسة لدرجة انتشار عمليات القتل والتطهير بناء على الهوية.
وليس بخافٍ أن حرب التيغراي المدمرة في إثيوبيا، والتي دامت لعامين، أودت بحياة ما لا يقل عن 600 ألف شخص فقط في منطقة تيغراي بإثيوبيا، وقد يبدو الأمر في ظاهره أنه صراع على السلطة بين الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والحكومة الإثيوبية. ومع ذلك، أصبح من الواضح أن الهوية العرقية قد تم استغلالها على نطاق واسع للتعبئة من جانب الأطراف المتصارعة كافة. فالعديد من الولايات الإقليمية ذات الأساس العرقي في إثيوبيا لديها "نزاعات حدودية" - والتي تنطوي في بعض الأحيان على عنف مميت. وعليه فإن الأسباب الجذرية وديناميكيات الصراع العرقي في إثيوبيا تبدو بالغة التعقيد والتشابك. ومع ذلك، يمكن أن تساعد الأساليب الإبداعية لصنع وبناء السلام في إزالة الغموض عن الصراع ومن خلال بناء تحالف سلام وطني، لاسيما في مناطق التيغراي والأمهرة والعفر، يمكن تمهيد الطريق لتسوية دائمة وبناء الدولة الإثيوبية الجديدة على أسس توافقية تشمل الجميع على قاعدة المساواة في المواطنة.
تداعيات "سردية الحرب"
إن التوصل لوثيقتي بريتوريا ونيروبي بخصوص حرب التيغراي يعني في حقيقة أمره وقف الأعمال العدائية كافة بين الأطراف المتحاربة، ومن ثم فإن الطريق يبدو شاقاً وطويلاً لبناء السلام وما يتطلبه ذلك من عمليات بناء الثقة، وتشكيل لجان للحقيقة والمصارحة. ومن الواضح أن اتفاق بريتوريا لم يحظ بدعم عام من مكونات النخبة السياسية الإثيوبية كافة في الداخل والخارج، ولا يخفى أن الالتزام بالسلام بين هذه الجماعات لا يقل أهمية عن التزام الحكومة والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، إذ يمكن أن يؤدي تأمين مثل هذا التوافق الوطني إلى تسهيل تنفيذ النقاط العالقة في اتفاقية وقف الأعمال العدائية، مثل نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه عملية سلام التيغراي- إن صح التعبير- يتمثل في سرديات الحرب الأخرى التي تم الترويج لها أثناء الحرب، وتم حشد الجماهير في الداخل والخارج خلف مقولاتها، وما ارتبط بها من تحويل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات معارك للحشد والدعاية لأطراف الصراع كافة.
فلقد صوّرت الحكومة الفيدرالية الحرب على أنها حرب شنها خونة إرهابيون. وهو وصف يعيد في الذاكرة التاريخية الإثيوبية حرب النظام العسكري الإثيوبي ضد الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي وجبهة التحرير الشعبية الإريترية، وهي القوى التي تمكنت من إسقاط النظام في عام 1991، فقد وصفت الحكومة المتمردين بالانفصاليين الخونة. ونظراً لسجل الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي السيئ في مجال حقوق الإنسان خلال فترة حكمها من 1991 إلى 2018، فقد أدى تأطير الحكومة الفيدرالية للحرب على أنها حرب وجودية بالنسبة للأمة الإثيوبية ضد "الخونة" إلى حشد المواطنين ووسائل الإعلام وتحالف حرب بلاد المهجر.
في المقابل استخدمت الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي خطاباً ثورياً راديكالياً لتعبئة التيغراي في داخل الاقليم وخارجه، وبناء تحالفها الحربي. كما تم وصف الحكومة الفيدرالية بأنها "إدارة درج جديدة" غير شرعية وأن الصراع يمثل مقاومة ضد "حملة إبادة جماعية منظمة ضد شعب التيغراي." وعليه فقد صاغ كلا الطرفين الحرب بسردية العداء والتصميم على هزيمة المعارضة. ومع احتدام القتال، حولت هذه الخطابات الصراع بشكل فعال إلى صراع هوية.
لقد أبرزت جغرافية الحرب هذا التطور في سرديات الحرب الدعائية. كان الهجوم المضاد الذي شنته قوات دفاع التيغراي ضد الحكومة الفيدرالية موجهاً جنوب التيغراي – في مناطق أمهرة وعفر. يعني ذلك أن هذا التصعيد أدى إلى إعادة إشعال الخصومات القديمة بين المجتمعات وإضافة طبقة أخرى إلى صراع الهوية المعقد. عندئذ لم تعد الاشتباكات بين الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والحكومة الفيدرالية وحدها. لقد أصبح على أسس هوياتية بين المجموعات من أجل البقاء.
أزمة "الهندسة الثقافية"
بينما ينشغل الجميع بمسألة تحديات تطبيق اتفاق بريتوريا، تشتعل جبهة حرب جديدة في إقليم أوروميا، حيث أدى العنف بين غلاة الأمهرة وأبناء الأورومو إلى مقتل نحو 350 شخصاً، وتشريد نحو 400 ألف آخرين في مطلع ديسمبر الحالي، وفقاً لتقديرات زعيم المعارضة الأورومي جوهر محمد. فهناك معضلة حقيقية تكمن في السرديات التاريخية، وعمليات الهندسة الثقافية الأمهرية للأمة الإثيوبية. فيُنظر إلى تاريخ إثيوبيا من خلال عدسات السلالة السليمانية (التي ينتمي لها الأمهرة)، وتفوق الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، وأسطورة مكانة إثيوبيا الاستثنائية في أفريقيا بناءً على الروابط التوراتية، ما يعرف بتابوت العهد. وكذلك من خلال التركيز على بعض القضايا لترسيخ مكانة إثيوبيا الدولية في الثقافة الوطنية، مثل سردية الانتصار في "معركة عدوة"، ووجود مقر منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي) بإثيوبيا منذ عام 1963، إضافة إلى العديد من رموز عظمة الدولة الإثيوبية.
وكانت الطبيعة التوسعية للدولة الإثيوبية من المخاوف الأساسية بالنسبة للقوميات المهمشة مثل الأورومو، حيث تمددت إثيوبيا، واحتلت في عهد مينليك الثاني مناطق شاسعة في الشرق والجنوب والغرب وتم دمجها في إثيوبيا. هذا التاريخ من المعاناة والتهميش المشترك، الذي عززه الوصف الذي يطلق على شعب الأورومو بأنهم جالا، أي "الغرباء" أو "الكفار" أو "الرعايا"، جعلهم بمنزلة مواطنين من الدرجة الثانية، أُجبروا على الاندماج في عملية "الهندسة الثقافية" التي قادتها نخبة الأمهرة. وتؤكد دراسات عديدة أن الانقسام بين الأورومو والأمهرة كان واضحاً. بالنسبة للعديد من الأورومو، فإن الأمهرة يمثلون ببساطة المستعمرين، أو النافتاغنا، ومعظمهم من جنود شوان-أمهرة الذين سيطروا على أرض أورومو الخصبة. وكان طردهم من أرض أورومو أحد الأهداف الرئيسية لجبهة تحرير أورومو التي تشكلت في عام 1976. وعليه فقد أدت قضية الأراضي المتنافس عليها إلى إنشاء "حدود اجتماعية وثقافية" بين الأمهرة والأورومو.
تحديات أساسية
في هذ الإطار، يمكننا ملاحظة عدة تحديات أمام عملية السلام، والتي تقف خلف الاحتجاجات المناهضة للحكومة الإثيوبية والتي تصل إلى حد حمل السلاح:
1- قضية الأرض المتنافس عليها، تعد مسألة مركزية ولها معنى مهم لأجيال من النخب السياسية القومية. فعلى سبيل المثال أدت رواية "المعاناة التاريخية" و"حقبة التوسع" للإمبراطور مينليك الثاني ونظام النافتاغنا جابار (السيد الإقطاعي الذي يهيمن على الأرض) اللاحق، إلى وضع شعب الأورومو في موقف هامشي. ويغذي هذا السرد حركة التحرر الوطني لقومية الأورومو بشكل عام.
2- السياسات الإقصائية للأنظمة الإثيوبية المتعاقبة، والتي أدت إلى ظهور حركات إثنية قومية على رأسها الأورومو باعتبارهم المجموعة العرقية الأكثر عدداً في البلاد. ومع ذلك، على الرغم من التوحيد الظاهر لحركة الأورومو خلال احتجاجاتها في السنوات الأخيرة، فإن الاختلافات بين مختلف الحركات والأحزاب السياسية، مثل حركة تحرير أورومو وحزب مؤتمر الأورومو الفيدرالي تُظهر أنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة، لا توجد أجندة موحدة من شأنها توحيد الفروع المختلفة من حركة الأورومو.
3- تأثر الحركات القومية في أثيوبيا إلى حد كبير بخلافات فكرية أعمق، بين النخب المقيمة في الخارج والنخب السياسية والفكرية في الداخل الإثيوبي. ومن الواضح أن الجهات الفاعلة المختلفة لديها مقاربات مختلفة لمفهوم الهوية العرقية المنصوص عليها في الدستور.
وختاماً، فإن الصراع بين الحكومة الفيدرالية ومقاتلي التيغراي والأورومو وغيرهم من الجماعات التي تحمل السلاح في وجه الدولة، لم يحدث من فراغ. إن بناء السلام المستدام يحتاج إلى تنسيق جيد. ويظهر إنشاء مجلس وطني للسلام للتعامل مع النزاعات الإثيوبية المختلفة أن هذا الأمر ممكن إذا توافرت الرغبة والإرادة السياسية لدى كل الأطراف الفاعلة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إشراك أصحاب المصلحة الرئيسيين في مناطق الصراع الرئيسية، لاسيما مثلث الأمهرة والتيغراي والعفر وأقاليم الجوار، بما في ذلك النخبة الحضرية ووسائل الإعلام والإثيوبيون في بلاد المهجر. يجب أيضاً إشراك المفكرين ورجال الأعمال وأحزاب المعارضة؛ لأنهم قاموا بدور مهم في تحالفات الحرب بين الأطراف المتصارعة.
وعلى مستوى القاعدة الشعبية، كما يقترح معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا، يجب إشراك كبار السن والزعماء الدينيين والتقليديين والهيئات الشبابية. ويمكن للحوار بين هذه المجموعات أن يساعد في كسر القوالب النمطية العرقية وإعادة بناء الروابط الاجتماعية بينها. وتلك هي المعضلة الكبرى التي تفوق المجهود الوطني المبذول في ساحات القتال.