على الرغم من أن إثيوبيا كانت تمثل في أعين الغرب وكثير من الحالمين رمز الصعود الإفريقي، فإنها نتيجة صراع الساسة وصدام الأيديولوجيات تنزلق اليوم نحو حرب أهلية عنيفة في ظل تفشي جائحة (كوفيد-19)، وتصاعد حدة الصراعات العرقية. لن يقف القتال في حال استمراره عند حدود ولاية التيغراي شمال البلاد، ولكن آثاره قد تشمل دول الجوار، ولا سيما إريتريا والسودان والصومال، بل ويمكن أن تشمل كذلك منطقة قوس الأزمة في العالم العربي وشرق المتوسط. ويأتي في السياق تصاعد حدة التوترات الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل نتيجة فشل كلٍّ من إثيوبيا ومصر والسودان في الاتفاق على نهج تفاوضي جديد لتسوية النزاع المستمر منذ سنوات حول سد النهضة الكبير بسبب تعنت حكومة "آبي أحمد". وقد حذر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في تصريح مثير للجدل من أن مصر قد ينتهي بها الأمر إلى تفجير السد، الذي يمثل تهديدًا وجوديًّا لها.
دوافع التصعيد العسكري:
في يوم 4 أكتوبر 2020، اتهم رئيس الوزراء "آبي أحمد"، الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بمهاجمة معسكر القيادة الشمالية، ومحاولة نهب الأسلحة والمعدات العسكرية. وقال: "إن قواتنا الدفاعية.. صدرت لها أوامر بتنفيذ مهمتها لإنقاذ البلاد، حيث تم تجاوز النقطة الأخيرة من الخط الأحمر. وسوف يتم استخدام القوة كإجراء أخير لإنقاذ الشعب والبلد". وقد تم التصعيد من خلال قطع كافة وسائل النقل والاتصال بإقليم التيغراي، وفرض حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر في المنطقة، بالإضافة إلى استبدال حكومة الإقليم بإدارة معينة من قبل السلطة الفيدرالية. وبالنظر إلى حالة موت السياسة، ورفض الطرفين الاعتراف بشرعية الآخر؛ فإننا أمام حالة من الصراع العنيف الممتد التي قد تهدد بنية الاتحاد الإثيوبي ذاته.
إنّ خيار الحرب غير الرشيد يمكن أن يؤدي إلى إنهاك الدولة الإثيوبية التي تعرضت بالفعل للعديد من التحديات السياسية الخطيرة، ويمكن أن يؤثر أيضًا على أمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي وما وراءها. وعلى الرغم من أن التيغراي يمثلون نحو 6% فقط من إجمالي عدد سكان إثيوبيا البالغ 110 ملايين نسمة، إلا أنهم يحتفظون بقوات عسكرية مدربة ومنظمة بشكل جيد، حيث يبلغ قوامها وفقًا لتقديرات مجموعة الأزمات الدولية 250 ألف شخص. وقد استفادت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي سيطرت على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا لعقود من الزمن من وجودها في السلطة لتعزيز مكانتها الاستراتيجية شمال البلاد.
لقد توتّرت العلاقة بين التيغراي والحكومة الفيدرالية منذ عام 2018، وذلك بعد تولي "آبي أحمد" زمام السلطة في البلاد، حيث اشتكى قادة التيغراي من استهدافهم ظلمًا في محاكمات فساد، وعزلهم من مناصب عليا، ومحاولة شيطنتهم سياسيًّا بإلقاء اللوم عليهم في المشاكل التي تعاني منها البلاد. بيد أن أحد العوامل المهمة في الأزمة الأخيرة هو تأجيل الانتخابات الوطنية بسبب جائحة (كوفيد-19). كان من المقرر إجراء هذه الانتخابات الوطنية في أغسطس 2020، لكن مسؤولي الانتخابات قرروا تأجيل جميع عمليات التصويت إلى أجل غير مسمى بسبب هذه الجائحة الصحية. رفض إقليم التيغراي هذا التأجيل، ومضى قدمًا في إجراء الانتخابات الإقليمية في سبتمبر 2020 والتي اعتبرتها حكومة "آبي أحمد" غير شرعية. واليوم يطالب كل طرف بنزع الشرعية الدستورية عن الطرف الآخر.
تصادم الأيديولوجيات:
لا يخفى أن جوهر الصدام الحاصل اليوم في إثيوبيا هو سياسي أيديولوجي، ولا سيما بين تيار الفيدراليين المدافعين عن الدستور الذي أقر مبدأ الفيدرالية العرقية، وتيار الوحدويين الذي يؤمن بأهمية الدولة القومية، وزيادة سلطة المركز على حساب الأقاليم. لقد كان العامل الرئيسي الذي شكّل الفيدرالية العرقية في إثيوبيا، هو الموقف السياسي الهش للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي وصلت إلى سدة الحكم قهرًا في عام 1991. لقد وجدت هذه الجبهة التي تمثل جماعة التيغراي نفسها في حاجة إلى تأكيد شرعيتها تجاه غيرها من الجماعات العرقية. كان الدافع وراء هذا السعي هو الرغبة في تبني سياسة مغايرة لاستراتيجية الأمهرة الخاصة بالاستيعاب والدمج الوطني خلال الفترة الإمبراطورية، أو حتى فرض المركزية عنوة خلال فترة الحكم العسكري. لقد كان الهدف الأساسي للدستور العرقي الذي تبناه الائتلاف الحاكم -آنذاك- هو مواجهة هذا التحدي دون تعريض السلطة السياسية لجبهة التيغراي للخطر. وبالفعل نجحت جبهة التيغراي في مسعاها، حيث تمكنت من ترسيخ مكانتها المهيمنة سياسيًّا من خلال القضاء على بنية الحكم القديم، وخلق هيكل سياسي جديد للحكم.
عندما جاء "آبي" للسلطة حاول أن يجد لنفسه قاعدة للشرعية والولاء من خلال إحياء مفهوم الإثيوبيانية والقيم المشتركة، والتخلي عن مفهوم الفيدرالية العرقية، وهو ما مثّله ظاهريًّا خطاب المصالحة الذي تبناه في الفترة الأولى من حكمه. غير أنه جاء بنتائج عكسية، حيث عارضته التيغراي وحزب الأغلبية في أوروميا. وعندما اشتد الصراع واتخذ منحى عنيفًا تبنّى "آبي أحمد" نفس الاستراتيجيات التي تعامل بها النظام القديم منذ العصر الإمبراطوري للتخلص من المعارضة. لجأ "آبي" إلى بني قومه (أولاد عمومته من أوروميا وأولاد أخواله من الأمهرا) ليستعين بهم في حربه على التيغراي، وكان ذلك واضحًا من التغيرات الكبيرة في قيادات الأجهزة الأمنية والجيش والاستخبارات ووزارة الداخلية. ولعل ذلك يعكس تصدعًا -ولو خفيًّا- في قيادة حزب الازدهار الحاكم، أو استشرافًا لطول أمد الحرب في الإقليم الشمالي.
وفي ظل اشتداد حدة الصراع وسقوط العديد من الجرحى والقتلى من الطرفين، بل واستخدام سلاح الجو؛ قد تبدو سيناريوهات المستقبل أكثر قتامة. ويُمكن من خلال قراءة معطيات الواقع والبناء على أحداث الماضي استشراف ثلاث رؤى لمستقبل الصراع داخل إثيوبيا على النحو التالي:
سيناريو "التسلطية التنموية":
ثمة فئة جديدة من التسلطية السياسية في الحكم يمكن أن نُطلق عليها "التسلطية التنموية"، والتي تشير إلى وجود حكومات ديمقراطية من الناحية الاسمية، ولكنها تنجح في توفير أعمال وخدمات عامة مهمة للمواطنين، بينما تمارس السيطرة على كل جانب من جوانب المجتمع تقريبًا. وهنا يُمكن أن تكرر إثيوبيا، في ظل زعامة "آبي أحمد" وفي حالة تمكنه من احتواء الصراع في تيغراي، النموذج الرواندي في التنمية. في منتصف التسعينيات، تم تصنيف كلا البلدين من بين أفقر الدول في العالم، حيث كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل من 150 دولارًا أمريكيًّا. في ذلك الوقت، كان كلٌّ منهما قد خرج من حروب أهلية دامية خلّفت الملايين من القتلى، ودمرت البنية التحتية، بالإضافة إلى أن إثيوبيا واجهت مجاعة مدمرة. هذه الأوضاع جعلت التوقعات بشأن مستقبل النمو الاقتصادي في البلدين تبدو قاتمة. ومع ذلك، حدث تقدم سريع خلال 25 عامًا فقط، وعلى الرغم من كل الصعاب، يمكن القول إنهما أكثر دولتين ديناميكيةً من الناحية الاقتصادية في إفريقيا بأكملها. وكان يشار إليهما على أنهما رمز لقصة الصعود الإفريقي. لقد وصلت معدلات النمو الاقتصادي السنوي (حوالي 10٪ و7٪ في إثيوبيا ورواندا على التوالي خلال العقد الماضي)، كما انخفضت معدلات الفقر بشكل واضح.
لقد عمل "آبي أحمد" على تكريس سلطته وبسط نفوذه في المركز، بحيث يكون حزب الازدهار هو الوسيلة الرئيسية له، مع الحفاظ على الأقاليم الاتحادية في وضع تابع. كان عليه أن يتخلص من المنافسين المحتملين بما في ذلك القيادات الصاعدة في أوروميا، التي تحتضن العاصمة أديس أبابا، والتي يطالب قادتها بمزيد من الحكم الذاتي ودعم خيار الفيدرالية العرقية. وربما كان خيار تأجيل الانتخابات وتبني التدخل العسكري في التيغراي التي شكلت التحدي الأبرز لسلطة رئيس الوزراء فرصة مواتية لتحقيق طموحات "آبي أحمد" وإن كانت على حساب وعوده الديمقراطية. ربما تُساعد ظروف جائحة (كوفيد-19) وانشغال الولايات المتحدة بقضية الانتخابات الرئاسية "آبي أحمد" على تحقيق رؤيته، وفرض مفهومه للهوية الإثيوبية الجامعة، ولو بتحالف الأمهرا والأورومو الذين يشكلون نحو ثلثي سكان إثيوبيا. لكن يظل السؤال المطروح: ما هو الثمن الذي تدفعه إثيوبيا لتحقيق تلك الرؤية؟.
سيناريو تراجع الدولة:
تُهدد المواجهة العنيفة في تيغراي بإثارة صراعات عرقية وإقليمية أخرى في إثيوبيا. فإذا استطاع تيغراي إطالة أمد المواجهة فقد يدفع ذلك زعماء أقاليم أخرى إلى تحدي حكومة "آبي أحمد"، والحد من محاولاته لتعزيز السيطرة الفيدرالية على مناطقهم. لقد اندلعت بالفعل عدة صراعات عرقية في عام 2020، بما في ذلك أعمال شغب واسعة النطاق في أعقاب اغتيال الموسيقي والناشط الأورومي "هاتشالو هونديسا" في 29 يونيو، مما أدى إلى حملة اعتقالات حكومية ضد نشطاء الأورومو. كما اندلعت اشتباكات عنيفة بين مجموعات العفر والعيسى نتيجة ميراث طويل من الصراعات العرقية والاقتصادية. كما تفكر مجموعات عرقية أخرى في منطقة الأمم والشعوب الجنوبية في إجراء استفتاءات لإنشاء مناطقها الخاصة بعد استفتاء سيداما الناجح لعام 2019، والتي أصبحت بمقتضاه إقليما اتحاديًّا يضم مجموعات "ولايتا" و"كيفا" و"غوراج" العرقية.
ولا يخفى أن تبعات وجود دولة فاشلة كبيرة بهذا الحجم سوف يؤثر على الأمن والاستقرار في المنطقة الإقليمية الأوسع للقرن الإفريقي. سوف يتحول انعدام الأمن والاستقرار في إثيوبيا بسرعة إلى أزمة إقليمية أعمق تضر بمبادرات الاستقرار التي عززتها أديس أبابا في السابق من خلال سياسة صفر مشاكل، وربما تقوض أو حتى تقلب عملية السلام مع إريتريا. إذ إن أي نزاع كبير بين جبهة تحرير تيغراي وأديس أبابا يمكن أن ينتهي في نهاية المطاف إلى تدخل إريتريا، التي تحتفظ بعلاقات سلام مع إثيوبيا. في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي تحويل الموارد الوطنية الشحيحة لصالح الحرب التي تخوضها الحكومة الفيدرالية في تيغراي إلى الحد من قدرة إثيوبيا على إدارة مصالحها الإقليمية، ولا سيما في الأزمة الصومالية، كما أن زعزعة الاستقرار قد تنتشر وتؤثر على التحول السياسي الهش في السودان، والذي يتضمن وفقًا لاتفاق جوبا لعملية سلام السودان تسريح الميليشيات النشطة في المناطق الحدودية السودانية التي لها صلات عرقية وعائلية عبر الحدود في إثيوبيا. وبالفعل عبرت عائلات إثيوبية وعسكريون الحدود المشتركة فرارًا من الصراع في التيغراي، حيث وصلوا إلى ولاية القضارف السودانية.
سيناريو" جمهورية التيغراي":
في أكتوبر 2020، تحدت قيادة إقليم التيغراي "آبي أحمد" عندما رفضت أمرًا حكوميًّا بإحداث تغيير في القيادة الشمالية للجيش المتمركزة في الإقليم. كانت هذه القيادة بالذات لها أهمية استراتيجية قصوى خلال الحرب بين إثيوبيا وإريتريا 1998-2008. ووفقًا لمجموعة الأزمات الدولية، لا يزال أكثر من نصف أفراد قوات الدفاع الإثيوبية والمعدات العسكرية متمركزين في القيادة الشمالية. وعليه فإن صحت الأخبار عن انشقاق قادة وجنود المنطقة، وانضمامهم للتيغراي، فإن معنى ذلك إطالة أمد الصراع، وإعطاء فرصة لنمو الروح الانفصالية لدى أبناء الإقليم بما يُكرر التجربة الإريترية مرة أخرى. قبل إعلان التدخل العسكري في التيغراي كان هناك جدل محتدم يدور حول ما إذا كان ينبغي على تيغراي أن تشكل دولة مستقلة خاصة بها، أو أن تظل جزءًا لا يتجزأ من إثيوبيا. اتسم هذا الجدل بالحدية، بمعنى أنه مع أو ضد خيار الانفصال. وعلى الرغم من أن حركة استقلال تيغراي كانت خامدة بلا حراك في ظل الفيدرالية العرقية على مدى العقود الثلاثة الماضية، فإنها عادت إلى الحركة مرة أخرى في ظل الهجوم على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي واستخدام سلاح الجو الفيدرالي في المعارك الدائرة شمال البلاد. وتزداد المخاوف مع وجود بند يسمح بالانفصال وفقًا لنص المادة 39 من الدستور الإثيوبي والمزاج العدائي تجاه الحكومة الفيدرالية المتنامي في تيغراي، من أن يلوح شبح الانفصال مرة أخرى في الأفق. ومع استمرار أمد المعارك، سوف يمثل الإقليم تحديًا مركزيًّا لأديس أبابا ما لم يتم تبني حلول تفاوضية بما يسمح باحتواء القوميين التيغراي تحت مظلة الاتحاد الإثيوبي.
وختامًا، فإن تعقيدات المشهد في منطقة القرن الإفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة سوف تجعل وجود دولة فاشلة بحجم إثيوبيا أمرًا لا يمكن تحمل تبعاته إقليميًّا ودوليًّا، كما أن القبول بانفصال دولة أخرى يكاد يكون مستحيلًا في ظل منظومة العلاقات الإفريقية البينية السائدة. يبدو أن رئيس الوزراء "آبي أحمد" حاول أن يمشي على نهج الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" ومغامراته في القوقاز وشرق البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا. إذ يرى "آبي أحمد" أن الفرصة سانحة في ظل انكفاء الولايات المتحدة على نفسها لتقرر من يخلف الرئيس "دونالد ترامب"، وهو ما يجعل القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) بدون توجيه واضح من واشنطن حول كيفية الرد على التوتر المتصاعد في القرن الإفريقي. إن تصعيد النزاع العسكري في تيغراي سوف يهدد في كل الأحوال جهود ترسيخ عملية السلام الإثيوبية الإريترية، ويزيد من معاناة النازحين واللاجئين الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية الدولية، وربما يدعو كذلك قوى خارجية أخرى مثل تركيا إلى التدخل بما يعقد بصورة أكبر من ديناميات المشهد العام في إثيوبيا والقرن الإفريقي.