أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

بين التبسيط والتمييز:

مقاربة اجتماعية لـ"تصنيف" الأشخاص والأشياء في العالم

13 مايو، 2024


عرض: هند سمير

تمثل التصنيفات جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية؛ إذ تساعدنا على تنظيم العالم من حولنا وفهمه بشكلٍ أفضل، فهي وسيلة لتجميع الأشياء والأفكار المتشابهة معاً بناءً على خصائص مشتركة، بما يمكن من التعامل معها بشكل أسهل. بالتالي؛ توجه التصنيفات الخطابات والسلوكيات في المجتمعات حول العالم. لكن من المهم الحذر من تأثيرها في تفكيرنا وتصرفاتنا، ولاسيما أنها قد تؤدي إلى التبسيط المفرط أو التمييز الظالم؛ بما يثير مشكلات أخلاقية في المجتمعات.

وفي مقاربة اجتماعية جديدة، يطرح الكاتب غريغوري أل. ميرفي، كتاباً بعنوان "التصنيفات التي نعيش وفقاً لها.. كيف نصنف الأشخاص والأشياء؟". إذ يتناول الطابع العام للفئات، من أين أتت؟ وكيفية ارتباطها بالعالم والمجتمع واللغة، مع التطبيق على دراسات الحالة، كما يركز على فكرة الحاجة الإنسانية إلى التصنيف. فعلى الرغم من أن كل شيء -كائن، شخص، حدث- فريد بذاته، مع تاريخه، وتركيبه، ومجموعة من الخصائص المميزة له، فإنه يتم أحياناً تجميع الأشياء في تصنيفات تتجاهل تلك الجوانب الفريدة.

أسس التصنيفات:

يثير الكاتب في بداية بحثه في مسألة التصنيفات في المجتمعات عدداً من الأسئلة، التي يرى أننا كبشر نواجهها، من أبرزها: ما طبيعة التصنيفات؟ هل هي حقيقية؟ هل توجد في الطبيعة، أم أنها من ابتكار البشر؟ هل تحدد لغتنا التصنيفات التي نملكها؟ ما تأثير استخدام التصنيفات؟ يشير الكاتب إلى أن التصنيفات، في بعض الأحيان، يُنظر لها على أنها محددة بقواعد، وفي بعض الأحيان، بقواسم مشتركة فضفاضة، وأحياناً أخرى بخصائص فيزيائية عميقة، إلا أن الواقع، يثبت أنه يمكن النظر للتصنيف الواحد بهذه الطرق المتباينة في أوقات مختلفة.

كما يشير الكاتب إلى أن العديد من الأشخاص يحاولون إخبارنا بتصنيفاتنا، أو ما يجب أن تكون عليه هذه التصنيفات، منهم على سبيل المثال: السلطات القانونية، والعلماء، والمعلمين، والشركات الكبيرة، والزوج/ الزوجة.. وغيرهم. لكن هل يجب الاستماع إليهم؟ للإجابة عن مثل هذا السؤال لا بد أن نعرف من أين جاءت التصنيفات وكيف نفكر بها وفيها؟ 

هنا، يجادل الكاتب بأن الفكرة الفلسفية حول ما إذا كانت التصنيفات قائمة بذاتها في العالم أم أنها شيء يبتكره البشر ليست حقيقية؛ إذ إن التصنيفات ما هي إلا مزيج من الاثنين من وجهة نظره. وللتدليل على ذلك، يسوق الكاتب الأمثلة، فتصنيفات "الكرة" في كرة القدم تعتمد على القواعد التي وضعها البشر، في حين أن تصنيفات "الأشجار" تعتمد على وجودها الطبيعي في العالم، كما أن التصنيفات البشرية تعتمد إلى حدٍّ ما على العالم الخارجي.

حتى التصنيفات الاجتماعية أو المبنية بشكلٍ اصطناعي، يجب أن تستجيب للواقع بطريقةٍ ما، على الرغم من أنه ربما يكون واقعاً يتحدد بالاتفاقات والهياكل الاجتماعية. على سبيل المثال، يعمل تصنيف العُزاب فقط إذا كان هناك أشخاص ذكور بالغون وغير متزوجين، فهذه الخصائص ذات مغزى في ثقافتنا، أما إذا كنت متزوجاً أم لا، فهي حقيقة اجتماعية تتحدد بقواعد في المجتمع. لذلك؛ فحتى هذه التصنيفات الاجتماعية تعتمد إلى حدٍّ ما على العالم. فهي ليست مبتكرة بشكل صرف، وفي الوقت ذاته لا يصلح أن تكون عشوائية، بل يجب أن تعكس واقع الهياكل الاجتماعية التي بناها المجتمع. 

اللغة والتصنيفات:

يُشير الكاتب إلى أنه بالرغم من أن الفئات أو التصنيفات والكلمات ليستا نفس الشيء، فإن العديد من الكلمات تُدلل على فئات، وكثيراً ما يُعرف وجود فئة لشيء ما بسبب اسمه (الكلمة التي تُطلق عليه). فمن الممكن أن يكون للفئات أسماء تتألف من كلمة واحدة أو أكثر، وهو ما يجعل اللغة تزيد من معرفتنا بالفئات أو التصنيفات بشكلٍ كبير؛ إذ تقوم الكلمات بتحديد الفئات ونقل معلومات إضافية عنها؛ ومن ثم فإن الكاتب، يرى ذلك دليلاً على أن التصنيفات تسبق اللغة، وليس العكس.

ومع ذلك؛ فإن ثمة غموضاً في اللغة يأتي بأشكال مختلفة، بما في ذلك الكلمات المتشابهة، والكلمات التي تحمل أكثر من معنى. الكلمات المتشابهة؛ تُسبب الالتباس عندما تحمل كلمتان مختلفتان من حيث المعنى نفس الحروف. أما تعدد المعنى فيحدث عندما تحمل كلمة واحدة معانٍ متعددة ومرتبطة، كما في "البنك" الذي يمكن أن يعني المبنى أو الشركة المالية. وعلى الرغم من أن هذه الظواهر تُشكِّل تحدياً لفهم الفئات، فإنه من ناحية أخرى قد تُسهل اللغة التمييز بينها.

الثقافة والفئات:

يتناول الكتاب تكوين الفئات والتصنيفات في الثقافات المختلفة، وكيف يتأثر ذلك باللغة والبيئة، فهناك تشابه بين الثقافات في تحديد الفئات العامة مثل: الجنسيات والأنواع. مع ذلك، تختلف الفئات الأكثر تحديداً وفقاً للاهتمامات الثقافية والبيئية، فالثقافات الحضرية في أوروبا وأمريكا الشمالية فقدت المعرفة بالفئات الطبيعية نتيجة الانفصال عن الطبيعة، وقلة التفاعل معها في الحياة اليومية. ويرى الكاتب أن المعرفة العميقة بالفئات الطبيعية كانت شائعة بين الأجيال السابقة التي كانت أكثر تفاعلاً مع البيئة، بينما يتعرض الأطفال اليوم للمعلومات عبر الوسائط المتعددة مثل: الأفلام الوثائقية، ووسائل التواصل الاجتماعي. 

ويستعرض الكاتب أنواع الفئات التي لا تُعد ضمن نطاق العالم الطبيعي، مثل: الديانات والمأكولات والملابس والتنظيمات السياسية والعلاقات الأسرية. ويشير إلى أن هذا النوع من الفئات يختلف من ثقافة لأخرى. ولكن على الرغم من اختلاف الفئات بين الثقافات، فإن هناك بعض الفئات ذات الواقعية الموضوعية، مثل، تصنيف السيارات؛ إذ يمكن الاتفاق عليها بشكل عام بين مختلف الثقافات، وفي إحدى الدراسات التي تم إجراؤها لفهم كيفية تصنيف الأشياء في ثقافات مختلفة، طُلب من طلاب الجامعات في الولايات المتحدة والصين والأرجنتين، تسمية الأشياء بلغتهم الأم. وأظهرت الدراسة اختلافاً كبيراً في التسميات بين الثقافات المختلفة، بينما كان هناك اتفاق كبير حول التصنيفات الأساسية للأشياء.

كما أوضحت الدراسة أن اللغة ليست العامل الحاسم في تشكيل التصنيفات؛ إذ إن تشابه الأشياء يعتمد بشكلٍ أساسي على وجهة نظر الأفراد دون وجود تأثير كبير للغة. على سبيل المثال، يمكن أن يحمل شيئان نفس الاسم، ولكن لا يُعدان متشابهان في الحقيقة. وعامةً تُظهر الدراسة؛ وجود اتفاق قوي بين الثقافات واللغات المختلفة فيما يتعلق بالتصنيفات الأساسية؛ مما يوحي بأن قدرات التفكير التصنيفي للأفراد متشابهة حول العالم، على الرغم من اختلاف اللغات والثقافات.

التصنيفات القانونية:

يتناول الكتاب التصنيفات القانونية وتأثيرها في حياة الأفراد والمجتمعات. ويوضح الكاتب كيف يتم تحديد الفئات القانونية وتطبيقها في التشريعات واللوائح، مع التركيز على كيفية تفسير وتطبيق هذه الفئات في الممارسة القانونية والقضائية، وللتوضيح يعطي الكاتب مثالاً حول قانون يمنع دخول المركبات إلى الحديقة؛ مما يثير تساؤلات حول تعريف المركبة وأنواع السيارات التي ينطبق عليها القانون، وكيف يمكن أن تكون الفئات القانونية غير واضحة ومليئة بالتداخلات؛ مما يتطلب قرارات قانونية وقضائية لتحديد الحدود وتطبيق القوانين.

ومن الأمثلة الأخرى على الفئات القانونية، تعريف الجرائم وتصنيفها إلى جرائم جنائية وجنح، وكيفية تطبيق العقوبات على المتهمين بمختلف الجرائم، وتأثير هذه الفئات القانونية في حياة الأفراد، مثل، فقدان حق التصويت بسبب تصنيف الجريمة باعتبارها جناية بدلاً من جنحة، وهُنا يشير الكاتب إلى أهم الصعوبات المتعلقة بتحديد الفئات القانونية وتطبيقها، مع التركيز على الحاجة إلى التوازن بين التصنيف الصارم والمرونة في النظام القانوني. كما أن تحديد الفئات القانونية يمكن أن يكون تحدياً، ويتطلب تقديراً وحكمة لتحديد الحدود بطريقة عادلة ومُنصفة.

فئات نفسية: 

يتناول الكتاب حالة مثيرة للاهتمام تتعلق بتصنيفات الاضطرابات النفسية المستخدمة لتصنيف الأمراض العقلية حول العالم، ويدلل الكاتب على أن الأمراض العقلية والاضطرابات السلوكية حقيقية؛ إذ يعاني منها   الملايين في الولايات المتحدة وحدها. لكن ما ليس واضحاً هو ما إذا كانت الفئات التي تم تصنيف الأفراد وفقاً لها حقيقية أم لا، مثل: الفصام والاكتئاب ثنائي القطب واضطراب الشخصية الحدية.

وعلى الرغم من استخدام الأطباء النفسيين للتصنيفات التي تعلموها في دراستهم العلمية، فإن استخدامها في الواقع العملي يُمكن أن يختلف من طبيب لآخر؛ مما يؤدي إلى صعوبة في البحث العلمي وتطوير فهم علمي للأمراض العقلية. ومن هنا، قامت الجمعية الأمريكية لطب النفس بنشر دليل تشخيصي يحدد الفئات الرئيسية للاضطرابات العقلية، ويعرف باسم الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، المعروف اختصاراً بـ (DSM) ويهدف الدليل إلى توحيد المصطلحات والتأكد من فهم الجميع لها.

وتشير الدراسات إلى أن الفئات النفسية قد تكون غير واضحة ومتنوعة؛ مما يجعل تحديد الاضطرابات العقلية مهمة صعبة. كما أظهرت بعض الأبحاث أن الأطباء النفسيين يعاملون الفئات كنماذج؛ إذ يوافقون على حالات معينة كنماذج مثالية، بينما يختلفون في التصنيف للحالات غير المثالية؛ لذلك فإن تحديد الفئات النفسية يستمر في التطور مع كل إصدار جديد من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية. 

استنتاجات أساسية:

يشير الكاتب إلى أن تصنيفات البشر تكون مربكة، ولها جوانب متعددة؛ مما يجعل هنالك حاجة إلى فهم دقيق، وتفكير نقدي، والنظر في الجوانب الأخلاقية في عمليات التصنيف الخاصة بنا في المجتمعات. ففي الواقع؛ إذا كان هناك استنتاج رئيسي على الإطلاق، فإنه يتمثل في أن تصنيفاتنا لها عدد من الأسس المختلفة وحتى المتناقضة. فليست فقط التصنيفات المختلفة تأتي من مصادر مختلفة، وتستند إلى استدلالات مختلفة، ولكن الفئة الواحدة (على سبيل المثال، العرق) يمكن أن تكون لها أسس مختلفة. وهذا ينطوي على نتيجة مهمة، وهي أن علينا أن نتحمل المسؤولية، ونتخذ أحياناً قرارات صعبة حول التصنيفات. 

وعلى الرغم من هذا التنوع بين التصنيفات، فإن هناك بعض الرؤى المشتركة التي يمكن استخلاصها من المناقشة التي استعرضها الكتاب، والمتمثلة في: 

• التنوع والتعقيد: إن تصنيفات البشر ليست موحدة بل متنوعة، نابعة من مصادر مختلفة مثل: الأنظمة القانونية، والقوالب النمطية في المجتمعات... إلخ، ويفسر هذا التنوع التعقيد الواضح في التصنيفات.

• الأسس المتناقضة: حتى داخل الفئة الواحدة، مثل العرق، يمكن أن تكون هناك أسس متناقضة للتصنيف؛ مما يؤدي إلى الغموض والتضارب.

• المسؤولية في التصنيف: يستلزم تنوع وتعقيد التصنيفات أن نتحمل مسؤولية أنظمتنا التصنيفية، فالمبادئ البسيطة والقواعد التقليدية غير كافية، ولا بد من البحث الدقيق وفي بعض الأحيان اتخاذ قرارات صعبة.

• الأخلاق المشتركة: على الرغم من الطبيعة المتنوعة للفئات البشرية، فإن البحث المستعرض في هذا الكتاب يبرز أهمية الاعتراف بالتحيزات ومعالجتها، وتعزيز الشمولية والإنصاف، والاعتراف بالقيود التي تعاني منها الفئات بمرور الوقت.

المصدر:

Gregory L. Murphy, " Categories We Live By ..How We Classify Everyone and Everything", The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 2023.