أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

لماذا زار كيسنجر الصين؟

31 يوليو، 2023


اختلفت الآراء حول أسباب زيارة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق في عهد الرئيس الأسبق نيكسون، للصين في شهر يوليو 2023، وكذلك حول الأسباب التي سعى لتحقيقها من ورائها، وعما إذا كان قد سافر للصين كمواطن أمريكي للقاء أصدقائه القدامى في الحكومة الصينية والذين حافظ على علاقاته بهم منذ أول زيارة له لبكين عام 1971، أم أنه سافر كمبعوث غير رسمي من إدارة الرئيس جو بايدن لتخفيف حدة التوتر في العلاقات بين البلدين والبحث عن طرق لتعزيز المصالح المُشتركة؟ 

وأياً كان الأمر، فإن زيارة كيسنجر، الذي بلغ عامه المئة، كانت محل جدل ونقاش واسعين. فهو ليس مجرد وزير خارجية أسبق، بل هو عميد الدبلوماسية الأمريكية بلا منازع وله مكانة خاصة في إعادة رسم الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين. فقد قام بتغيير الموقف الأمريكي تجاه بكين بأكمله، وبعد أكثر من عقدين من إنكار الوجود السياسي لهذه الدولة الكبيرة، تم الاعتراف بالصين الشعبية وتأييد حقها في شغل مقعد الصين في الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي. 

واقعية كيسنجر:

انطلاقاً من تفكيره الواقعي وتقديره للمصالح والأخطار، رأى كيسنجر أن إقامة العلاقات مع الصين تُحقق المصالح الأمريكية. وعلى مدى سنوات طويلة، زار كيسنجر الصين أكثر من 100 مرة، وعبّر عن اعتقاده بوجود مصالح مشتركة قوية بين البلدين وأن عليهما الوصول إلى صيغ دبلوماسية للتعايش بينهما حتى مع استمرار التنافس التجاري ووجود اختلافات في وجهات النظر. فالولايات المتحدة والصين هما ركنا الاقتصاد العالمي ولا يمكن لإحداهما أن تزيل الأخرى أو تلغي وجودها، ولا يشارك كيسنجر الاعتقاد السائد في بعض دوائر السياسة الأمريكية بأن النظام الصيني عدواني أو توسعي بالضرورة، ولكن بعض مظاهر السلوك الصيني تنبع من الشعور بالخوف من تهديدات الخارج أكثر منه نزوع لتمدد النفوذ والسيطرة، وأن ما تسعى إليه بكين هو اعتراف واشنطن بها وتعاملها معها على أساس من المساواة والاحترام المتبادل، ومن ثَم ضرورة البحث عن قواعد لتنظيم المنافسة والتعايش السلمي بينهما.  

ويؤكد عمق الصلة بين كيسنجر والصين، حجم الحفاوة التي حظي بها الرجل في بكين، فالتقى عدداً من كبار المسؤولين، كان منهم وزير الدفاع، لي شانغ فو، الخاضع لعقوبات أمريكية؛ بسبب دوره في شراء صفقة سلاح من روسيا عام 2017، والذي رفضت بكين الموافقة على لقائه وزير الدفاع الأمريكي، أوستن، إلا بعد إلغاء تلك العقوبات. كما التقى كيسنجر السفير وانغ يي، مدير لجنة الشؤون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، والذي شغل منصب وزير الخارجية لمدة 10 سنوات ابتداءً من عام 2013، وعاد مرة أخرى لهذا المنصب في 25 يوليو 2023 بعد أن أعلن البرلمان الصيني إقالة وزير الخارجية السابق، تشين غانغ، وتعيين وانغ يي بدلاً منه.

ويؤكد هذه الحفاوة أيضاً، حرص الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على استقبال كيسنجر، وأن يكون اللقاء في أحد المباني الرسمية المخصصة لاستقبال كبار الزوار الأجانب، ولاحظ كيسنجر أنه نفس المبنى الذي التقى فيه رئيس الوزراء الصيني الأسبق، شوين لاي، منذ نحو 52 عاماً. 

واتسمت كلمات الرئيس الصيني عن كيسنجر بالدفء والحميمية، فوصفه بـ"الصديق القديم للصين"، وأنه واحد من أصحاب البصيرة السياسية في الولايات المتحدة. وقال "إن الشعب الصيني يُقدر معنى الصداقة ولا يمكن أن ينسى مساهمته - أي كيسنجر- التاريخية في تطوير العلاقات الصينية الأمريكية"، والتي كان من شأنها- في تقدير الرئيس شي - تغيير العالم بأسره، وأضاف أن العلاقات الصينية الأمريكية سوف تبقى دوماً لصيقة باسم كيسنجر. 

كما تحدث الرئيس الصيني، في اجتماعه مع كيسنجر، والذي حضره وزير الخارجية الحالي، وانغ يي، عن العلاقات بين بكين وواشنطن وأنها "على مُفترق طرق"، وأن على البلدين اتخاذ قرارات جديدة يمكن أن يترتب عليها إقامة علاقات مستقرة وتحقيق نجاح ورفاهية مشتركة، وأن على الولايات المتحدة أن تُراعي مبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين. وحذر الرئيس شي من أنه لم يعد من الممكن تطويق أو احتواء الصين، ونبه القادة الأمريكيين إلى خطورة استمرارهم في الاعتقاد بإمكانية فرض آرائهم على بكين في الموضوعات محل الخلاف؛ مثل التجارة، والتكنولوجيا، وتايوان، وحقوق الإنسان.

ومن الواضح أن القيادة الصينية تُثمن الدور الذي قام به كيسنجر في تأسيس العلاقات بين البلدين. ويدل على ذلك ملاحظة وزير الخارجية الحالي أن الدور الذي قام به كيسنجر "لا يوجد له مثيل"، وإشادته بحكمة كيسنجر الدبلوماسية وشجاعة نيكسون السياسية. ولا تخلو هذه الكلمات من تلميحات إلى أن إدارة بايدن الحالية تفتقد هاتين الصفتين: الحكمة والشجاعة. 

وحسب بيان الخارجية الصينية، ناقش شي وكيسنجر الحرب في أوكرانيا التي تقف فيها الصين موقفاً داعماً لروسيا. ولم يتم الكشف عن مضمون النقاش الذي دار بين الرجلين، ولكن الأرجح أن كيسنجر سعى لدق "إسفين" بين الصين وروسيا، فهو يؤمن بالتهديد الذي تُمثله العلاقات بين البلدين على المصالح الأمريكية، ويؤكد أن عناصر الاختلاف بينهما أكبر بكثير مما يربطهما. ومن أقواله الشهيرة، "أنه لم يستمع في حياته إلى صيني يشيد بروسيا، ولا إلى روسي يشيد بالصين". وهو قول يتضمن الكثير من المُبالغة. 

وناقش بينغ وكيسنجر أيضاً، آفاق التقدم في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهو موضوع محل اهتمام من الرجلين. فالصين تقوم باستثمارات هائلة في هذا المجال، تجعلها المنافس الأول للولايات المتحدة فيه، وكيسنجر مهتم بالموضوع وشارك في تأليف كتاب بعنوان: "عصر الذكاء الاصطناعي ومُستقبل الجنس البشري" صدر في عام 2022.

أهداف مختلفة:

لم يكن كيسنجر هو أول مسؤول أمريكي كبير يزور الصين هذا العام، فقد سافر من قبله كل من جون كيري، وزير الخارجية الأسبق والمبعوث الرئاسي لشؤون البيئة والمُناخ، وأنتوني بلينكن، وزير الخارجية، وجانيت يلين، وزيرة الخزانة. كما زارها عدد من عمالقة الاقتصاد والتكنولوجيا في الولايات المتحدة، مثل إيلون ماسك، مالك "تويتر" و"تسلا"، وبيل غيتس، مؤسس "مايكروسوفت"، وتيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة "آبل". وهذا ما يُعطي الانطباع برغبة إدارة بايدن في شرح وجهة النظر الأمريكية بشكل مباشر للقادة الصينيين، ونقل تطلعها لتحسين العلاقات بين البلدين. وفي هذا السياق، رأى البعض أنه ربما يكون أحد أهداف زيارة كيسنجر إيجاد قناة خلفية للتفاوض بين واشنطن وبكين. 

وجاءت التعليقات الرسمية الأمريكية في مُجملها مخالفة لهذا التفسير وذات طابع انتقادي لكيسنجر. فصرح الناطق باسم البيت الأبيض بأن هذه الزيارة "هي زيارة خاصة لمواطن أمريكي". واتصالاً بذلك، أشار جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلى أسفه أن مواطناً أمريكياً يستطيع أن يجري هذه اللقاءات رفيعة المستوى، وأن يمتلك علاقات واتصالات لا تمتلكها الحكومة الأمريكية في الصين، ثم عبّر عن تطلعه والعاملين معه إلى الاستماع لكيسنجر عما استمع إليه وعرفه وشاهده. وأكد ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الطابع الشخصي لهذه الزيارة، وأن كيسنجر سافر كمواطن بصفته الشخصية، وليس مبعوثاً أو ممثلاً للإدارة الأمريكية. 

ومع ذلك، فإنه لا ينبغي أخذ هذه التصريحات على عواهنها، فهناك احتمال أن الخارجية الأمريكية لا ترغب في الاعتراف بفشل المبعوثين الرسميين للحكومة، وأنها لجأت إلى كيسنجر للمساعدة في هذا الشأن. وربما أن كيسنجر نسق زيارته مع إحدى أجهزة المخابرات الأمريكية، وفي كثير من الأحيان فإن ما تقوم به هذه الأجهزة لا تكون وزارة الخارجية على علم به قبل حدوثه. ومن أمثلة ذلك، الزيارة التي قام بها الرئيس الأسبق، باراك أوباما، إلى كوبا في مارس 2016، والتي خططت لها وكالة المخابرات المركزية، وزيارة مدير الوكالة الأسبق، مايك بومبيو، لكل من كوريا الشمالية والجنوبية في إبريل 2018 دون أن يصطحب معه أي ممثل لوزارة الخارجية. 

وهناك بعض المعلقين الذين ركزوا على الدافع الشخصي لكيسنجر من وراء زيارته الصين، وأن هدفه الرئيسي هو التسويق لنفسه وإعادة تسليط الأضواء عليه، وأنه سوف يستغل هذه الزيارة في القيام بعدد من المقابلات الصحفية والتلفزيونية التي سوف تحمل رسالة واحدة؛ وهي "أنني أستطيع أن أُدير السياسة الخارجية الأمريكية بشكل أفضل مما هي عليه الآن". وأشار البعض إلى أنه ربما استفاد من هذه الزيارة لإبرام عقود استشارات لصالح الشركة التي يملكها. 

مسار جديد:

إجمالاً، لن يستطيع أحد في الوقت الراهن إثبات أو نفي عما إذا كان كيسنجر قد زار الصين بصفته الشخصية أم أنها تمت بتنسيق مع أحد الأجهزة الرسمية الأمريكية؟ ولكن الأرجح، أن كيسنجر دشن مساراً جديداً للتفاوض بين واشنطن وبكين يقوم على المصالح المشتركة والثقة والاحترام المُتبادل.

ويبقى السؤال، هل سوف تتمكن إدارة بايدن من السير قُدماً في هذا المسار أم تبقى تسعى إلى احتواء الصين ومواجهتها؟ وذلك لأن الولايات المتحدة تتحدث بلسانين؛ الأول دبلوماسي يتمثل في أنشطة المبعوثين الأمريكيين الذين ترسلهم إلى بكين، والآخر عسكري ظهر أخيراً في تصريحات وزير الدفاع، أوستن، بعد مباحثاته مع نظيره الأسترالي، في يوم 28 يوليو 2023، من أن واشنطن سوف تقف بقوة إلى جانب حلفائها ضد توسع النفوذ الصيني في منطقة "الإندوباسيفيك". ومن قبله، تصريحات وزيرة الجيش الأمريكي، كريستين وورموث، في حديثها أمام مؤتمر معهد "أسبن" الذي انعقد خلال الفترة 18 من 21 يوليو 2023، والذي أشارت فيه إلى ضرورة أن تستعد الولايات المتحدة لأي مواجهة عسكرية مُحتملة وأن يكون لديها القدرة على ردع الصين.