أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

استراتيجية جديدة:

دوافع جولة ماكرون في أربع دول في وسط إفريقيا

07 مارس، 2023


بدأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 2 مارس 2023، جولة إلى أربع دول وسط القارة الإفريقية، شملت الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تأتي هذه الجولة في إطار مساعي فرنسا لتعزيز نفوذها المتراجع في إفريقيا.

جولة في وسط القارة

جاءت جولة ماكرون الحالية في وسط إفريقيا في ظل استمرار السخط الشعبي من الوجود الفرنسي. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبعاد جولة ماكرون الأخيرة على النحو التالي:

1- زيارة جدلية إلى الغابون: بدأ ماكرون جولته الإفريقية من الغابون، حيث حضر هناك قمة "مؤتمر الغابة الواحدة"، والخاصة بالحفاظ على الغابات المطيرة، وتعهد ماكرون بتقديم نحو 100 مليون يورو لحماية الغابات المدارية، إذ تشكل غابات حوض الكونغو، والتي تمتد في ست دول، ثاني أكبر غابة استوائية في العالم، بعد غابات الأمازون، وواحدة من أكبر أحواض الكربون في العالم، واستهدفت قمة ليبرفيل حشد أكبر قدر من الدعم والتمويل الدولي للحفاظ على النظم البيئية هناك. 

وأثارت زيارة ماكرون إلى ليبرفيل جدلاً واسعاً داخل الغابون، حيث اعتبرتها المعارضة دعماً ضمنياً لرئيس الغابون الحالي، علي بن بونغو أونديمبا، قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة خلال عام 2023. ووصل الأخير للسلطة في عام 2009 بعدما خلف والده، عمر بونغو، الذي ظل في الحكم منذ عام 1967 حتى وفاته، وكان الرئيس الحالي قد أعيد انتخابه عام 2016 في عملية انتخابية أثارت كثيراً من الجدل.

2- تعزيز التعاون الاقتصادي مع أنغولا: تحظى لواندا بأهمية خاصة بالنسبة لباريس، في ظل المشروعات الواسعة التي تنخرط فيها شركة الطاقة الفرنسية "توتال"، لذا سعى ماكرون خلال زيارته إلى أنغولا لتعزيز التعاون الاقتصادي من خلال توقيع بعض الاتفاقيات الجديدة، والتي ارتكزت أغلبها على القطاع الزراعي، في ظل مساعي لواندا تعزيز أمنها الغذائي. وربطت بعض التقديرات بين زيارة ماكرون إلى أنغولا، المستعمرة البرتغالية السابقة، والمساعي الفرنسية الراهنة لتعزيز التعاون والنفوذ في الدول الإفريقية الناطقة بالإنجليزية والبرتغالية.

3- توسيع الشراكة مع برازفيل: سعى الرئيس الفرنسي خلال زيارته إلى جمهورية الكونغو برازفيل إلى توسيع نطاق الشراكة بين البلدين في عدة مجالات، لعل أبرزها التعليم والصحة والثقافة، فضلاً عن التعاون الأمني والعسكري. وعمد ماكرون إلى توقيع اتفاقية تعاون استراتيجية مع نظيره الكونغولي، ديني ساسو نغيسو، لتعميق التعاون المشترك.

4- دعم فرنسي لكينشاسا: اختتم ماكرون جولته بزيارة الكونغو الديمقراطية، المستعمرة البلجيكية السابقة، والتي تواجه تحديات أمنية متزايدة في ظل التقدم المستمر لحركة "23 مارس" المتمردة، والمدعومة من رواندا، في شرق الكونغو، حيث تحرص باريس على استمرار تعاونها مع كينشاسا، على الرغم من علاقات الأولى الوثيقة برواندا، لذا يمكن أن تفضي زيارة ماكرون إلى إعادة الزخم للمبادرة الفرنسية التي تستهدف الوساطة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، ودعم جهود الوساطة الإفريقية في هذا الشأن، خاصة وأن ثمة تقارير فرنسية كشفت عن وصول وفد من حركة "23 مارس" المتمردة إلى لواندا بالتزامن مع وجود ماكرون في أنغولا.

وسبق وصول ماكرون إلى الكونغو الديمقراطية احتجاجات واسعة نظمها بعض المتظاهرين أمام السفارة الفرنسية في كينشاسا، ملوحين بالأعلام الروسية في رسالة ضمنية مفادها رفض زيارة الرئيس الفرنسي، واتهام باريس بدعم حركة "23 مارس" المتمردة المدعومة من رواندا.

دوافع فرنسية متعددة

تعتبر جولة ماكرون الأخيرة في وسط إفريقيا الرحلة الـ18 له إلى القارة منذ وصوله للسلطة في 2017، حيث لم يسبق لأي رئيس فرنسي سابق أن قام بهذا العدد من الزيارات خلال فترة ولايته، وهو ما يعكس محورية القارة الإفريقية لحكومة ماكرون، فضلاً عن تعدد الدوافع التي يسعى الرئيس الفرنسي إلى تحقيقها من خلال هذه الجولة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- إقامة شراكات جديدة: يستهدف ماكرون من جولته البحث عن شراكات جديدة في إفريقيا، ووضع حد لاتساع نطاق المشاعر المعادية لباريس. وفي هذا السياق، جاءت جولة ماكرون هذه المرة إلى دول لم يقم بزيارتها سابقاً منذ وصوله للسلطة في 2017. وسبق وأن أكد ماكرون نهاية 2022 عن سعيه لتوسيع الحضور الفرنسي في وسط القارة، وعدم التركيز على الساحل والصحراء فقط.

2- مواجهة التمدد الإيطالي: شهدت المنافسة بين فرنسا وإيطاليا تراجعاً خلال السنوات الأخيرة، غير أنها عادت للظهور مجدداً مع وصول رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجا ميلوني، إلى السلطة، في أكتوبر 2022، حيث وجهت انتقادات حادة للدور الفرنسي في القارة الإفريقية، متهمة إياها باستغلال ثروات دول القارة، كما عمدت خلال زيارتها إلى الجزائر، في يناير 2023، للذهاب إلى مقام الشهيد، رمز الثورة الجزائرية وشهدائها ضد الاستعمار الفرنسي.

وزارت ميلوني كذلك حديقة إنريكو ماتى، مؤسس شركة "إيني" الإيطالية وأحد أكبر داعمي النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، وأثارت تحركات ميلوني غضب باريس، لاسيما في ظل تطلع الحكومة الإيطالية لتعزيز نفوذها في إفريقيا، والتحول لمركز إقليمي لإيصال إمدادات الغاز من القارة إلى شمال ووسط أوروبا. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى جولة ماكرون الأخيرة في وسط إفريقيا على أنها تهدف إلى منع تمدد النفوذ الإيطالي في القارة على حساب المصالح الفرنسية.

3- قلق من النفوذ الصيني والروسي: ثمة انزعاج فرنسي متزايد من تزايد النفوذ الروسي، لاسيما بين الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، فضلاً عن قلق باريس من التمدد الصيني المتنامي في إفريقيا. وعلى الرغم من إعلان ماكرون أن بلاده تنأى بنفسها عن التنافس الدولي الراهن في إفريقيا، فإنه ندد بشكل صريح بالنفوذ المتزايد لعناصر فاغنر الروسية في القارة، واصفاً إياهم بالمرتزقة المجرمين الذي يعملون على دعم الأنظمة الفاشلة.

وفي هذا السياق، تأتي جولة ماكرون الإفريقية في أعقاب جولة أخرى قام بها وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في يناير 2023، وتضمنت جنوب إفريقيا وأنغولا وبوتسوانا وإيسواتيني وموريتانيا والسودان ومالي، فضلاً عن جولة وزير الخارجية الصيني، تشين جانغ، في الشهر ذاته، وشملت إثيوبيا والغابون وأنغولا وبنين ومصر.

ومن بين الدول الأربع التي زارها ماكرون في جولته الأخيرة، كانت ثلاث دول منها، وهي أنغولا والغابون وجمهورية الكونغو، قد امتنعت الشهر الماضي عن التصويت لصالح قرار للأمم المتحدة الذي يدعو إلى انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.

4- تأمين المصالح الاقتصادية: تبقى المصالح الاقتصادية هي المحرك الرئيسي للرئيس الفرنسي، إذ يسعى إلى تأمين الصناعات الكبرى لباريس في إفريقيا، لاسيما تلك المتعلقة بمصادر الطاقة والثروات المعدنية، فضلاً عن ضمان الوصول إلى أسواق إفريقية إضافية، حيث تنشط هناك حوالي 1100 مجموعة استثمارية فرنسية ونحو 2100 شركة كبيرة في إفريقيا، وهو ما يجعل باريس ثالث أكبر مستثمر في القارة بعد بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

ولذلك رافق ماكرون في جولته الإفريقية وفد من رجال الأعمال الفرنسيين، الذين سعوا للبحث عن مجالات جديدة للاستثمار في إفريقيا، في ظل قلق باريس من تراجع نفوذها الاقتصادي لصالح فاعلين آخرين، لاسيما الصين وتركيا، فضلاً عن تنامي وتيرة التمرد ضد النفوذ الفرنسي داخل تكتلي "الإيكواس" و"المجموعة الاقتصادية والنقدية لدول وسط إفريقيا"، واللتان تعتمدان الفرنك الإفريقي المرتبط بالسوق المالية الفرنسية.

مقاربة فرنسية جديدة 

جاءت جولة ماكرون الإفريقية بعد يومين فقط من إعلانه تفاصيل استراتيجية بلاده في إفريقيا، والتي تعكس تحولاً في سياسة باريس الإفريقية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تقليص الانخراط العسكري: أكد ماكرون انتهاء عصر التدخل العسكري الفرنسي المباشر في إفريقيا، وأن الأشهر القليلة المقبلة ستشهد انخفاضاً ملحوظاً للقوات الفرنسية هناك، مع التركيز في المقابل على تدريب وتجهيز قوات الدول الإفريقية الحليفة لفرنسا. 

ولا يستهدف ماكرون إغلاق القواعد الفرنسية في إفريقيا، ولكنه يسعى لتحويلها إلى أكاديميات عسكرية والدفع نحو انخراط الشركاء الأفارقة في إدارة هذه القواعد. كما نقلت مصادر فرنسية عن مسؤولين في الإليزيه أن باريس تتبنى فلسفة جديدة تقوم على العمل على الخطوط الخلفية بدلاً من القتال في الصفوف الأمامية.

2- تغيير لغة الخطاب الأبوية: تعكس الاستراتيجية الفرنسية الجديدة وجود تغير في لغة خطاب باريس تجاه الدول الإفريقية، إذ تتجنب الخطب الأبوية التي لم يعد الأفارقة يقبلونها، في محاولة لتخفيف حدة المشاعر المناهضة للدور الفرنسي في القارة. وأكد ماكرون أن بلاده ستتبنى علاقة أكثر احتراماً مع الدول الإفريقية تقوم على التواضع والإصغاء لمطالب هذه الدول.

3- توظيف القوة الناعمة: تتجه باريس لتغيير أدوات انخراطها في إفريقيا من خلال الاعتماد على القوة الناعمة بدلاً من الحضور العسكري المباشر، وهو ما انعكس في تصريحات ماكرون، التي سبقت جولته الأخيرة، بشأن "الاستراتيجية الدبلوماسية الفرنسية" في إفريقيا، حيث اعترف خلالها بتراجع النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية اقتصادياً واستراتيجياً.

كما أكد ضرورة الاعتماد على رجال الأعمال والمجتمع المدني في تعزيز الحضور الفرنسي هناك، فضلاً عن تأكيده دور الشخصيات الرياضية والمثقفين في هذا الشأن، لاسيما بالنسبة للشباب الإفريقي الذي بات رافضاً بقوة كافة أشكال الوجود العسكري الأجنبي. وفي هذا السياق، قدم ماكرون لنظيره الغابوني مجموعة كبيرة من الأغاني التراثية والحكايات المحلية التي جمعها باحث فرنسي في الغابون في خمسينيات القرن الماضي.

ومن ناحية أخرى، تسعى فرنسا لاستثمار المهاجرين الأفارقة لديها، حيث تعتبر الوجهة الأولى لهم، بنحو 20% من إجمالي هذه الهجرة سنوياً. ويصل عددهم في الداخل الفرنسي لحوالي 10 ملايين شخص، لذا تعتمد المقاربة الفرنسية الجديدة على الاستفادة من النخب الإفريقية الموجودة لديها في تعزيز صورتها في بلدانهم الأصلية.

وفي الختام، أكد ماكرون رغبة بلاده في تبني سياسة جديدة تجاه إفريقيا، بيد أن هذا الموقف لم يعد يُنظر إليه بثقة في الداخل الإفريقي، خاصة وأنه سبق وألقى خطاباً مماثلاً، في نوفمبر 2017، في جامعة واغادوغو ببوركينا فاسو، ووعد خلاله بتبني مقاربة جديدة أكثر احتراماً للهويات والدول الإفريقية، بيد أن الممارسات الفعلية لاحقاً لم تجسد هذه المقاربة الجديدة، لذا أصبحت كلمات ماكرون أقل حماسة بالنسبة للدول الإفريقية، ومن ثم لا يُرجح أن يشهد الدور الفرنسي في إفريقيا تغييرات حقيقية خلال الفترة المقبلة، على الأقل في المدى المنظور.