اختتم وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، جولته الإفريقية، في 26 يناير 2023، والتي تضمنت جنوب إفريقيا وأنغولا ومملكة إسواتيني وإريتريا، في ثاني جولة له في القارة الإفريقية خلال الستة أشهر الأخيرة، وهي الزيارة التي جاءت بالتزامن مع تحركات أمريكية وصينية لافتة في إفريقيا.
جولة لافروف الثانية
ركزت جولة سيرجي لافروف الأخيرة على جنوب القارة الإفريقية، على عكس جولته السابقة، في يوليو 2022، والتي استهدفت وسط إفريقيا، حيث تضمنت أوغندا والكونغو برازفيل وإثيوبيا، بالإضافة إلى مصر. وفي هذا السياق، يمكن توضيح أبعاد جولة لافروف الثانية على النحو التالي:
1- توسيع التنسيق مع جنوب إفريقيا: بدأ لافروف جولته الإفريقية من جنوب إفريقيا، في 23 يناير 2023، حيث تترأس بريتوريا الدورة الحالية لمجموعة البريكس، ويتوقع أن يشهد الاجتماع المقبل للمجموعة، في بريتوريا، في أغسطس المقبل، طرح مقترح انضمام المزيد من الدول الأعضاء لمنظمة البريكس.
وعقد لافروف اجتماعات موسعة مع نظيرته الجنوب إفريقية، ناليدي باندور، والرئيس سيريل رامافوزا، حيث تم بحث سبل تعزيز التعاون التجاري بين البلدين، إذ تعد بريتوريا أحد أكبر الشركاء التجاريين لروسيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين نحو 1.14 مليار دولار في 2021، وتستهدف الدولتان تعزيز التعاون في مجالات الفضاء والتكنولوجيا عالية الدقة وبناء المدن الذكية، ناهيك عن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
وتكمن أهمية زيارة لافروف الأخيرة إلى جنوب إفريقيا في أنها تأتي قبيل استضافة الأخيرة المناورات العسكرية المشتركة، والتي تضم روسيا والصين، حيث يفترض أن تقام في الفترة من 17 إلى 27 فبراير الجاري، وهو ما يتزامن مع ذكرى بداية الحرب الروسية الأوكرانية.
وأثار التعاون المشترك بين روسيا وجنوب إفريقيا استياء الولايات المتحدة الامريكية، إذ أعربت واشنطن مؤخراً عن استيائها من التدريبات العسكرية المشتركة التي ستستضيفها جنوب إفريقيا مع روسيا والصين، فضلاً عن انتقاد الإدارة الأمريكية لبريتوريا على خلفية رسو سفينة تجارية روسية خاضعة للعقوبات الغربية في قاعدة بحرية بجنوب إفريقيا.
2- تعزيز التعاون مع إسواتيني: شكلت مملكة إسواتيني المحطة الثانية من جولة لافروف الإفريقية، إذ عقد خلالها لقاءات مع نظيرته هناك، توليسيل دلادلا، والقادة العسكريين في مبابان، حيث تم الاتفاق على تعزيز التعاون الأمني بين البلدين، بالإضافة إلى التنسيق بشأن إرسال طلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة للإفراج عن الأسمدة الروسية المحتجزة في الموانئ الأوروبية. وأعلنت موسكو مؤخراً أنها ستعمل على إرسال الأسمدة مجاناً لمبابان. ومن ناحية أخرى، ناقش لافروف مع دلادلا المنتدى البرلماني الروسي الإفريقي الذي تستعد موسكو لاستضافته في مارس 2023، ويفترض أن تشارك فيه إسواتيني.
3- تدعيم التفاهمات مع أنغولا: تشكل أنغولا أهمية خاصة بالنسبة لروسيا، لاسيما بالنسبة لشركات النفط والتعدين الروسية، والتي تمتلك مشروعات واسعة هناك، فقد أجرى لافروف مشاورات مع نظيره الأنغولي، تيتي أنطونيو، والرئيس، جواو لورنكو. وأشاد لافروف بموقف أنغولا المتوازن داخل الأمم المتحدة، فقد كانت لواندا من بين الدول التي امتنعت عن التصويت لصالح قرار إدانة التدخل الروسي في أوكرانيا في مارس 2022، على الرغم من أنها عادت للتصويت لصالح القرار في أكتوبر الماضي.
وفي هذا السياق، تسعى موسكو لتعزيز نفوذها في أنغولا، خاصة وأن الأخيرة كانت قد عززت تعاونها مع الغرب خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من العلاقات التاريخية التي تربط موسكو ولواندا منذ استقلال الأخيرة عن البرتغال في عام 1975.
4- زيارة مفاجئة إلى إريتريا: كان لافروف يخطط لزيارة بوتسوانا في ختام جولته الإفريقية، غير أنه تم إلغاء الزيارة بشكل مفاجئ، وهو ما قد يرجع إلى ارتباطها بعلاقات وثيقة بالغرب، إذ تسعى إلى تعزيز دورها كمصدر رئيسي للماس في العالم، خاصة في ظل العقوبات المفروضة على روسيا، أكبر منتج للماس، كما كانت بوتسوانا من بين الدول الإفريقية التي صوتت لإدانة التدخل الروسي في أوكرانيا.
ولم تعلن موسكو عن اتجاه وزير خارجيتها إلى إريتريا في ختام جولته الإفريقية. وأعلن وزير الإعلام الإريتري، يماني غبريميسكل، أن مباحثات لافروف ركزت على تعزيز التعاون المشترك في عدة مجالات، لاسيما الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والتعليم، غير أن زيارة لافروف إلى أسمرة عكست قلقاً روسياً من مساعي الولايات المتحدة الراهنة لاستقطاب إريتريا بعيداً عن موسكو، في ظل الحديث عن تفاهمات جرت بين الجانبين مؤخراً، بموجبها شرعت إريتريا في سحب قواتها من شمال إثيوبيا مقابل رفع تدريجي للعقوبات الأمريكية المفروضة على أسمرة، لذا تستهدف روسيا الحفاظ على نفوذها التقليدي في إريتريا، وهو ما قد يفسر الانتقادات الحادة التي وجهها لافروف للغرب خلال زيارته إلى أسمرة.
دوافع روسية متعددة
يمكن القول أن هناك مجموعة من الدوافع التي تفسر أسباب هذه الجولة، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- التحضير للقمة الإفريقية الروسية: تأتي جولة لافروف في إطار التحضير للقمة الإفريقية الروسية التي تستعد موسكو لاستضافتها، نهاية يوليو 2023، في مدينة سان بطرسبرج، حيث تسعى إلى إنجاح هذه القمة، من خلال ضمان حضور أكبر عدد ممكن من قادة الدول الإفريقية، في محاولة لدحض الادعاءات الغربية بتراجع النفوذ الروسي، والتأكيد على فشل مساعي فرض العزلة على موسكو. وستشكل هذه القمة أحد أبرز الاختبارات أمام استمرارية النفوذ الروسي هناك، لذا تعول روسيا كثيراً على إنجاح هذه القمة.
2- بحث ملف الحبوب والأسمدة: شكل ملف الحبوب والأسمدة أحد أبرز القضايا التي أثارها لافروف خلال جولته الإفريقية الأخيرة، حيث عمد إلى توجيه انتقادات حادة للاتحاد الأوروبي، على خلفية احتجازه لنحو 280 ألف طن من الأسمدة، معتبراً أن العقوبات التي يعمد الغرب على فرضها على موسكو تفضي إلى معاقبة الدول النامية، خاصة الإفريقية، وبالتالي يستهدف لافروف من إثارة هذا الملف التأكيد على مسؤولية الغرب عن التحديات التي تعاني منها الدول الإفريقية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك لإثارة سخط دول القارة ضد الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين.
3- إضعاف هيمنة الدولار الأمريكي: تسعى روسيا حالياً لحشد دعم إفريقي لمساعيها في وضع حد لهيمنة الدولار الأمريكي، من خلال توسيع الاعتماد على العملات الوطنية في العمليات التجارية بين موسكو والدول الإفريقية. وفي هذا السياق، يتوقع أن تجري مناقشة الاعتماد على العملات الوطنية في التبادلات التجارية بين الدول الأعضاء في البريكس، كبديل لهيمنة الدولار الأمريكي، خلال اجتماعها المقبل في بريتوريا، خاصة وأن الكتلة كانت بالفعل قد بدأت في منح القروض من خلال بنك التنمية الجديد الخاص بالمجموعة بعملاتها الخاصة، كما رجحت هذه التقديرات أن تعمل موسكو على طرح هذا المقترح خلال القمة الإفريقية الروسية المقبلة في يوليو المقبل.
كما تدرس البريكس إصدار عملة موحدة لها، وهو المقترح الذي ستقوم المجموعة ببحثه خلال اجتماعها المقبل، في أغسطس 2023، وتسعى موسكو لدعوة بعض الدول الإفريقية لحضور هذا القمة لبحث ملف العملة الجديدة.
4- استقطاب الدول الإفريقية للبريكس: تستهدف روسيا، وكذلك الصين، استقطاب المزيد من الدول الإفريقية للانضمام إلى المنظمة. وفي هذا الإطار، ألمحت تقديرات إلى أن جولتي وزيري الخارجية الروسي والصيني الأخيرتين في القارة الإفريقية استهدفتا جذب أكبر عدد ممكن من الدول الإفريقية الراغبة في الانضمام للكتلة، وطرح هذا الأمر خلال قمة أغسطس، وذلك للرد على التحركات الأمريكية الراهنة لاستقطاب الدول الإفريقية، من خلال طرحها لفكرة انضمام الاتحاد الإفريقي إلى مجموعة دول العشرين.
تنافس دولي حاد
هناك عدد من الانعكاسات المحتملة التي ربما تفرزها جولة لافروف إلى إفريقيا، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- تكريس التنافس الدولي في إفريقيا: عكست جولة لافروف حجم التنافس الدولي المتنامي على إفريقيا، حيث جاءت هذه الزيارة في أعقاب جولة مماثلة قامت بها وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، إلى القارة السمراء، شملت السنغال وجنوب إفريقيا وزامبيا، وذلك في أعقاب القمة الإفريقية الأمريكية التي استضافتها واشنطن في ديسمبر 2022، كما أجرى وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين جانج، مطلع يناير 2023، جولة إفريقية، تضمنت مصر وإثيوبيا وأنغولا والغابون وبنين.
ويلاحظ أن الجهود الأمريكية لتعزيز النفوذ في إفريقيا ترتبط كذلك بمساعي واشنطن لعزل موسكو، خاصة مع إصدار مجلس النواب الأمريكي، في إبريل 2022، قانون "مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في إفريقيا"، غير أن هذه الجهود الأمريكية لم تنجح، خاصة وأنها تسببت في إثارة مزيد من السخط الإفريقي ضد واشنطن.
2- جولة مرتقبة لشمال إفريقيا: تعكس التحركات الدبلوماسية التي تجريها روسيا في إفريقيا مساعي موسكو لتعزيز حضورها في مختلف أجزاء القارة، فبينما ركزت جولة لافروف في يوليو 2022 على دول وسط إفريقيا، إلى جانب مصر، ركزت الجولة الأخيرة له على منطقة الجنوب الإفريقي، فيما رجحت بعض التقديرات احتمالية أن يعمل لافروف على القيام بجولة جديدة لشمال إفريقيا، في فبراير 2022، يتوقع أن تستهدف تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وذلك بالتزامن مع التوسع المطرد في النفوذ الروسي في الساحل وغرب إفريقيا.
في الختام، تتزايد حدة التنافس الدولي الراهن في إفريقيا، حيث تسعى القوى الدولية المختلفة إلى تعزيز نفوذها واستقطاب مزيد من دول القارة لدعم مصالحها في مواجهة الآخرين. وتسعى واشنطن لتحجيم النفوذ الصيني المتنامي في إفريقيا، والضغط على الدول الإفريقية للانضمام إلى الحلف الذي تقوده واشنطن لإحكام العزلة المفروضة على موسكو، وهو الأمر الذي سعى وزير الخارجية الروسي إلى تجنبه من خلال جولته الأخيرة.