أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

مخاوف "البلوتوقراطية":

مستقبل الرأسمالية العالمية بين النموذجين الأمريكي والصيني

27 يناير، 2020


عرض: د. إسراء أحمد إسماعيل - خبير في الشئون السياسية والأمنية

لا يُعتبر النظام الرأسمالي مجرد نظام اقتصادي يتم تطبيق آلياته في منطقة معينة خلال سياق زمني محدد، بقدر ما يعد ثمرة نتاج تطور تاريخي ممتد، يعكس قيم العمل واحترام القانون وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن هذا النظام من إنقاذ العديد من دول العالم من التعرض لأزمات اقتصادية طاحنة، دفعت المجتمعات للوقوف والاحتجاج والمطالبة بتغيير أو تعديل هذا النظام الرأسمالي الذي انحرف عن مساره الرئيسي، وتحول إلى ما يطلق عليه "الرأسمالية المتوحشة" أو على أقل تقدير "البلوتوقراطية"، مما دعا البعض للقول بأفول الرأسمالية.

وفي هذا الإطار، نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالًا بعنوان: "صراع الرأسمالية: المعركة الحقيقية من أجل مستقبل الاقتصاد العالمي"، أعده الخبير الاقتصادي "برانكو ميلانوفيتش"، الذي حاول فيه التمييز بين نموذج الرأسمالية الليبرالية القائم على الجدارة والذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، ونموذج الرأسمالية السياسية الذي تمثله الصين، مع بيان مميزات وعيوب كل منهما، ورؤيته الاستشرافية لمستقبل الرأسمالية. 

الرأسمالية تحكم العالم

أكد "ميلانوفيتش" أنه رغم كل التغيرات المتسارعة فإن الرأسمالية ما زالت النظام المهيمن عالميًّا مع استثناءات طفيفة، فالرأسمالية هي الوسيلة الوحيدة المستمرة للإنتاج. وفي حين يشير البعض إلى أنها تواجه تهديدًا متجددًا من الاشتراكية، فإن الحقيقة هي أن الرأسمالية موجودة لتبقى وليس لها منافس. أما المعركة الحقيقية فهي تدور داخل الرأسمالية نفسها، حيث أصبح هناك نموذجان يتصارعان ضد بعضهما بعضًا.

في التاريخ البشري، غالبًا ما يعقب انتشار نظام أو دين معين، انقسام بين أشكال مختلفة من هذا النظام أو العقيدة، فبعد انتشار المسيحية -على سبيل المثال- في جميع أنحاء البحر المتوسط والشرق الأوسط، مزقتها النزاعات الأيديولوجية، والتي أنتجت في نهاية المطاف الكنائس الشرقية والغربية. كذلك الأمر مع الإسلام، الذي أعقب توسُّعَه انقسامٌ بين السنة والشيعة. والشيوعية التي تعد المنافس الأول للرأسمالية في القرن العشرين انقسمت إلى السوفيتية والماوية. وفي هذا الصدد، لا تختلف الرأسمالية عن هذا السياق التاريخي، فقد أصبح هناك نموذجان لها يختلفان في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الرأسمالية السياسية والجدارة الليبرالية

في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وعدد من الدول الأخرى (مثل: الهند وإندونيسيا، واليابان)، يهيمن شكل من أشكال الرأسمالية على النظام الاقتصادي للدولة وهو "رأسمالية الجدارة الليبرالية" Liberal meritocratic capitalism، والذي يُشير إلى نظام يركز على نمو القطاع الخاص، ويحاول أن يضمن تكافؤ الفرص للجميع. وإلى جانب هذا النظام، نجد نموذج "الرأسمالية السياسية" الذي تمثّله الصين ودول أخرى (مثل: ميانمار، وسنغافورة، وفيتنام، وأذربيجان، وروسيا، والجزائر، وإثيوبيا، ورواندا)، وهذا النموذج يتميز بنمو اقتصادي مرتفع، لكنه يقيد الحقوق السياسية والمدنية الفردية. هذان النموذجان من الرأسمالية اللذان تمثلهما الولايات المتحدة والصين، يتنافسان دائمًا مع بعضهما، وهذه المنافسة هي التي ستشكل مستقبل الاقتصاد العالمي.

تمنح الرأسمالية السياسية استقلالية أكبر للنخب السياسية، وتتميز بارتفاع معدلات النمو، ويؤكد "ميلانوفيتش" أن النجاح الاقتصادي للصين يقوِّض ادعاء الغرب بوجود رابط ضروري بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية. فرغم أن الرأسمالية الليبرالية تتمتع بالعديد من المميزات، أهمها الديمقراطية وسيادة القانون؛ إلا أنها تواجه تحديات هائلة تمثلت في عدم المساواة، واتساع الفجوة بين الطبقات، مما يمثل أخطر تهديد لاستمرار الرأسمالية الليبرالية على المدى البعيد.

ومن ناحية أخرى، يحتاج النموذج الرأسمالي السياسي الذي تمثله الصين إلى استمرار النمو الاقتصادي بشكل مطرد لإضفاء الشرعية على الحكم، وهو إلزام قد يصبح تحقيقه أكثر صعوبة على المدى البعيد، ويتطلب منها محاولة الحد من الفساد المتأصل في النظام. ويضيف "ميلانوفيتش" أن الاختبار الحقيقي لهذا النموذج، سيتمثل في مدى قدرته على كبح جماح الطبقة الرأسمالية المتنامية، التي غالبًا ما تدخل في علاقات صراعية مع الدولة. 

مساوئ الرأسمالية الليبرالية

تُعتبر الهيمنة العالمية للنموذج الرأسمالي أحد التغيرات العصرية البارزة التي شهدها العالم، أما التغير الآخر فيتمثل في إعادة توازن القوة الاقتصادية العالمية بين الغرب وآسيا. فلأول مرة منذ الثورة الصناعية، تقترب معدلات الدخول في آسيا من مثيلتها في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، ففي عام 1970 أنتج الغرب 56% من الناتج الاقتصادي العالمي، بينما أنتجت آسيا 19% فقط، أما اليوم فقد تحولت هذه النسب إلى 37% و43% على التوالي، ويعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى النمو الاقتصادي المتسارع لدول مثل الصين والهند.

وأثمر نظام "رأسمالية الجدارة الليبرالية" عن نخبة تتمتع بالتنوع من حيث الجنس والعرق، ولكنه تسبب -في الوقت نفسه- في تعميق اللا مساواة تحت ذريعة الجدارة، حيث يمكن للأثرياء أن يزعموا أن مكانتهم وثراءهم مستمد من عملهم وجدارتهم، مما يعرقل الحراك الاجتماعي المنشود. وأوضح "ميلانوفيتش" أن هذه النخب الثرية تركز على الاستثمار في مجالين، الأول: الاستثمار في تعليم أبنائها، بما يضمن استمرار هذه النخبة من خلال احتفاظ الأجيال القادمة بدخول مرتفعة، ومكانة اجتماعية مرموقة.

أما المجال الثاني، فيتمثل في إرساء السيطرة السياسية، من خلال الاستثمار في توسيع نطاق النفوذ السياسي، سواءً في الانتخابات، أو من خلال مراكز البحوث، والجامعات، وما إلى ذلك، بحيث تضمن هذه النخبة أنها من تُحدد قواعد اللعبة، ويتم بسهولة تحويل رأس المال الاقتصادي إلى الجيل التالي، وبالتالي فإن التعليم المكتسب ورأس المال المتوارث يؤديان إلى استنساخ النخبة الحاكمة.

الصين والرأسمالية السياسية

يرى "ميلانوفيتش" أنه من المفارقات أن الشيوعية في دول مثل الصين وفيتنام هي التي أرست الأساس لتحول هذه الدول تجاه النظام الرأسمالي، حيث لعبت الثورات الشيوعية في الصين وفيتنام نفس الدور الذي لعبه صعود البرجوازية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وكانت هاتان الثورتان المتزامنتان بمثابة المحفز لتأسيس طبقة رأسمالية من شأنها دفع الاقتصاد إلى الأمام. 

وفي الصين، حدث التحول من شبه الإقطاع إلى الرأسمالية بسرعة، بفضل قوة سيطرة الدولة، مقارنة بأوروبا، حيث تم القضاء على الهياكل الإقطاعية ببطء على مر القرون، ولعبت الدولة دورًا أقل أهمية في التحول نحو الرأسمالية، وبالتالي فليس من المستغرب أن تكون للرأسمالية في الصين وفيتنام وأماكن أخرى في المنطقة ميزة استبدادية.

يتسم نظام الرأسمالية السياسية بثلاث خصائص، الأولى: تدار الدولة عبر بيروقراطية تكنوقراطية تدين بشرعيتها للنمو الاقتصادي. الثانية: على الرغم من وجود قوانين لدى الدولة، إلا أنها تطبق بشكل تعسفي لصالح النخبة، حيث يمكنها رفض تطبيق القانون عندما يكون في غير صالحها، أو تطبيقه بكل قوة لمعاقبة المعارضين، ويقود ذلك إلى السمة الثالثة، وهي: تمتع الدولة بالسيادة والحسم. ويتسبب الشد والجذب بين السمتين الأولى والثانية (البيروقراطية التكنوقراطية، والتطبيق المتحيز للقانون) في انتشار الفساد في النظام الرأسمالي السياسي.

منذ آلاف السنين، كانت الصين دولة مركزية قوية سعت دائمًا إلى منع طبقة التجار من أن تشكل مركزًا للقوة، ووفقًا للباحث الفرنسي "جاك جيرنيت" فإن التجار الأثرياء في عهد أسرة "سونج" في القرن الثالث عشر لم ينجحوا أبدًا في تكوين جماعة ضغط، لأن الدولة كانت دائمًا على استعداد لمواجهتهم وتقييدهم، وإلى الآن لم تتمكن طبقة رجال الأعمال من تشكيل جبهة متماسكة تتمتع بأجندة سياسية واقتصادية خاصة للدفاع عن مصالحها بقوة، ومن المرجح أن يستمر هذا النمط من الرأسماليين الذين يسعون إلى الثراء دون ممارسة السلطة السياسية في الصين وفي الدول الرأسمالية السياسية الأخرى.

صراع النظم

يتعارض نموذج الرأسمالية الصيني "الرأسمالية السياسية" مع النموذج الغربي للرأسمالية "رأسمالية الجدارة الليبرالية"، وذلك في الوقت الذي يشهد فيه العالم اتساع نطاق الدور الصيني على مختلف الأصعدة، لذلك من المرجح أن تحل "الرأسمالية السياسية" محل "رأسمالية الجدارة الليبرالية" في العديد من البلدان حول العالم، وقد أوضح "ميلانوفيتش" أن ميزة الرأسمالية الليبرالية تكمن في نظامها السياسي القائم على الديمقراطية، حيث توفر الديمقراطية أدوات تصحيحية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تضر بالصالح العام.

من ناحية أخرى، فإن الرأسمالية السياسية تمتاز بإدارة أكثر كفاءة للاقتصاد، ومعدلات أعلى للنمو، ويضيف الكاتب أن حقيقة أن الصين كانت الدولة الأكثر نجاحًا على الصعيد الاقتصادي خلال نصف القرن الماضي تضعها في موقع يمكِّنها من تصدير نموذجها الاقتصادي والسياسي إلى دول العالم، وقد تجلى ذلك من خلال "مبادرة الحزام والطريق"، وهو مشروع طموح لربط عدة قارات من خلال بنية تحتية مطوَّرة بتمويل صيني.

وتمثل المبادرة تحديًا أيديولوجيًّا لطريقة تعامل الغرب مع التنمية الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. فبينما يركز على بناء المؤسسات، فإن الصين تضخ الأموال لبناء المشروعات، وبالتالي ستعمل "مبادرة الحزام والطريق" على ربط الدول الشريكة للصين بمجال نفوذها الحيوي.

مستقبل الرأسمالية

استشهد "ميلانوفيتش" بمقولة فيلسوف الليبرالية الحديثة "جون رولز": "إن المجتمع الصالح يجب أن يعطي أولوية مطلقة للحريات الأساسية على الثروة والدخل"، ومع ذلك، يؤكد أن التجربة تُظهر أن الكثير من الناس مستعدون لمقايضة الحقوق الديمقراطية مقابل الحصول على دخل أكبر، ففي عالم اليوم المليء بالنشاط التجاري المحموم، نادرًا ما يتمتع المواطنون بالوقت أو المعرفة أو الرغبة في المشاركة في القضايا المدنية العامة ما لم تكن تهمهم مباشرة.

وتكمن المشكلة في أنه من أجل إثبات تفوقها ومواجهة التحدي الليبرالي، تحتاج الرأسمالية السياسية إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة باستمرار. لذا، ففي حين أن مزايا الرأسمالية الليبرالية طبيعية وتلقائية، فإن مزايا الرأسمالية السياسية تحتاج لإثباتها باستمرار، كما أن لدى الرأسمالية السياسية ميلًا أكبر لصنع سياسات تُسفر عن تداعيات اجتماعية سلبية، يصعب تصحيحها لأن النخبة السياسية تفتقد الحافز لتغيير المسار، مما يترتب عليه استياء شعبي بسبب انتشار الفساد في ظل غياب حكم القانون.

وتحتاج الرأسمالية السياسية إلى إثبات إيجابياتها بشكل مستمر، وقد يُنظر إلى هذا على أنه ميزة من وجهة نظر الداروينية الاجتماعية، حيث يدفع الضغط المستمر إلى شحذ قدرتها على إدارة المجال الاقتصادي ومواصلة الإنجاز. وهنا يثور التساؤل: هل سيوافق الرأسماليون الجدد في الصين مستقبلًا على استمرار تقييد حقوقهم وخضوعهم لوصاية الدولة المستمرة، أم سيحاولون تنظيم أنفسهم والتأثير في السياسات الحكومية كما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا؟ 

ويشير "ميلانوفيتش" إلى أن مرور ما يقرب من 2000 عام من الشراكة غير المتكافئة بين الحكومة الصينية والشركات ورجال الأعمال يمثل عقبة رئيسية أمام تحول الصين واتّباعها المسار الغربي.

الاقتراب من البلوتوقراطية

ماذا يحمل المستقبل للمجتمعات الرأسمالية الغربية؟ يوضح "ميلانوفيتش" أن الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على ما إذا كانت "رأسمالية الجدارة الليبرالية" ستتمكن من تطوير نفسها نحو مرحلة أكثر تقدمًا تجاه ما يمكن تسميته "رأسمالية الناس" “people’s capitalism”، حيث يتم توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، الأمر الذي يتطلب توسيع نطاق ملكية رأس المال في المجتمع، بما يتجاوز القيمة الحالية التي تبلغ 10% في يد الأثرياء.

ولتحقيق قدر أكبر من المساواة، يجب على الدول تطوير حوافز ضريبية لدعم الطبقة الوسطى، وفرض ضرائب أعلى على الأثرياء، وتطوير التعليم العام المجاني، ومع الوقت سيسفر التأثير التراكمي لهذه التدابير عن زيادة ملكية رأس المال في المجتمع، ودعم المهارات، بهدف تحقيق قدر أكبر من المساواة في ملكية الأصول، سواء المالية أو المهارية.

ختامًا، يؤكد الكاتب أن الأمر لن يتطلب سوى وضع بعض السياسات المتواضعة لإعادة توزيع الموارد، وإذا فشل الغرب في معالجة مشكلة عدم المساواة المتنامية، فإن "رأسمالية الجدارة الليبرالية" تخاطر بالسير باتجاه "الرأسمالية السياسية"، فكلما اندمجت القوة الاقتصادية والسياسية مع بعضهما في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية، تتحول الرأسمالية الليبرالية إلى بلوتوقراطية (التي تعبر عن أحد أشكال الحكم التي تتميز فيها الطبقة الحاكمة بالثراء)، مع اكتسابها بعض ملامح الرأسمالية السياسية، خاصةً ما يتعلق بإعادة إنتاج نفس النخبة إلى أجل غير مسمى في المستقبل.

المصدر: 

Branko Milanovic, “The Clash of Capitalisms: The Real Fight for the Global Economy’s Future”, Foreign Affairs, January/February 2020, pp. 10-21.