دخل التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية مرحلة جديدة، بعد قيام الحرس الثوري، في 20 يونيو 2019، بإسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية من طراز "جلوبال هوك". ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية، كما أعلن الرئيس دونالد ترامب، تراجعت عن توجيه ضربة عسكرية لبعض الأهداف الإيرانية ردًا على تلك الخطوة، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذا الخيار مازال مطروحًا وإن كانت الأولوية للمفاوضات، خاصة أن إيران سعت عبر تلك الخطوة إلى توجيه رسائل عديدة وتحقيق أهداف أخرى ترتبط برؤيتها لاتجاهات السياسة الأمريكية إزاءها خلال المرحلة القادمة. فضلاً عن أن الإجراءات "النووية" التصعيدية التي سوف تتخذها في الفترة القادمة من شأنها عرقلة جهود التسوية وتصعيد حدة التوتر بين الطرفين.
أهداف عديدة:
لا يبدو أن الهدف الأساسي الذي سعت إيران إلى تحقيقه عبر إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية يكمن فقط في منعها من انتهاك مجالها الجوي، وهو المبرر الذي ما زال يثير جدلاً واسعًا بعد أن أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن الطائرة كانت تحلق في الأجواء الدولية وبعد أن قامت إيران بعرض حطام قالت أنه يعود إلى الطائرة، وإنما ثمة أهدافًا أخرى سعت إيران إلى تحقيقها من خلال ذلك، يتمثل أبرزها في:
1- تقييم ردود الفعل الأمريكية: لا ينفصل التصعيد الإيراني الجديد عن ما جرى في الفترة الماضية من عمليات تخريبية طالت سفن شحن وناقلات في منطقة الخليج. إذ يبدو أن إيران تحاول في هذا السياق استشراف الخيارات التي يمكن أن تستند إليها الولايات المتحدة الأمريكية للرد عليها.
وبمعنى أدق، فإن إيران سعت عبر ذلك إلى اختبار السقف الذي يمكن أن تصل إليه ردود الفعل الأمريكية بعد أن أسقطت طائرة الاستطلاع، ومدى إمكانية لجوء إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخيار العسكري في التعامل مع إجراءاتها التصعيدية، خاصة أنها مقبلة على اتخاذ خطوات أخرى لتنشيط برنامجها النووي في يوليو القادم.
ومن دون شك، فإن ذلك يعود، في قسم منه، إلى الارتباك الذي تتسم به القراءة الإيرانية للمسارات التي يمكن أن تتجه إليها السياسة الأمريكية تجاهها، والذي فرضه إصرار واشنطن على تجديد دعوتها باستمرار للتفاوض بموازاة حرصها على رفع مستوى العقوبات التي تفرضها على طهران، مع التلويح باستخدام القوة في بعض الأحيان لمنع الأخيرة من استهداف مصالحها.
2- توجيه رسائل إقليمية: كان لافتًا أن إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية لم يكن الخطوة التصعيدية الأولى من نوعها، حيث جاء بعد الاتهامات التي وجهتها وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، في 16 يونيو الجاري، إلى حركة الحوثيين وإيران بإسقاط طائرة أمريكية مسيرة في اليمن ومحاولة استهداف طائرة أخرى خلال حادث الناقلتين في خليج عمان، حيث قالت القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية، المسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، في بيان لها أنه "تم إسقاط طائرة أمريكية من طراز "MQ-9" وتشير تقديراتنا إلى أن ذلك تم بواسطة صاروخ من نوع "أرض-جو" أطلق من منظومة دفاع تابعة للحوثيين من طراز "SA-6"، مضيفة أن "إطلاق الصاروخ من المنظومة نفذ بمساعدة إيرانية".
وهنا، فإن الرسالة التي تسعى إيران إلى توجيهها هى أن لها دور ونفوذ إقليمي يمكن من خلاله أن ترفع كلفة الإجراءات العقابية المتتالية التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها.
3- إشعال أزمة دولية: تحاول إيران من خلال تلك الخطوة الجديدة الإيحاء بأن استمرار التصعيد المتبادل بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يفرض أزمة دولية طارئة، وهو ما تهدف عبره إلى ممارسة ضغوط مضادة على القوى الدولية المعنية بالأزمة وتداعياتها في المنطقة من أجل التدخل لتقليص حدة التوتر.
ورغم أن قوى دولية عديدة تدخلت بالفعل في المرحلة الماضية، وكانت آخرها اليابان، التي قام رئيس وزراءها شينزو آبي بزيارة طهران في الفترة من 12 إلى 14 يونيو الجاري، إلا أن إيران اعتبرت أن الهدف الأساسي من الجهود التي بذلتها تلك القوى كان إقناعها بالاستجابة للدعوات الأمريكية لإجراء مفاوضات معها من أجل الوصول إلى اتفاق آخر يستوعب مجمل التحفظات التي تبديها إدارة الرئيس ترامب على الاتفاق النووي الحالي وكانت سببًا في انسحابها منه وإعلانها إعادة فرض عقوبات عليها في 8 مايو 2018.
وهنا، فإن إيران تحاول دفع تلك القوى إلى التدخل من أجل إقناع واشنطن، بدلاً من الضغط على طهران، لدفعها إلى إجراء تغيير في سياستها، خاصة فيما يتعلق بتقليص حدة العقوبات التي تفرضها عليها.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن مساعي دول الترويكا الأوروبية من أجل إنقاذ الاتفاق النووي، الذي قد يواجه تحديات عديدة خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل إصرار إيران على المضى قدمًا في تنفيذ إجراءاتها التصعيدية المرتبطة برفع كمية ما تنتجه من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67%، ليتجاوز حاجز الـ300 كيلو جرام، التي نص عليها الاتفاق النووي.
وفي هذا السياق، يقوم وزير الدولة لشئون الشرق الأوسط البريطاني اندرو موريسون بزيارة طهران في 23 يونيو الجاري، وذلك عقب الزيارة التي أجراها كبير المستشارين الدبلوماسيين للرئيس الفرنسي ايماويل بون للعاصمة الإيرانية قبل ذلك بأربعة أيام، وقبلهما زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، في 10 من الشهر نفسه، حيث كان تقليص حدة التوتر هو العنوان الأبرز لتلك الزيارات.
إيران ردت على كل هذه الزيارات برسالتين: الأولى، الإيحاء بأن مفتاح حل الأزمة الحالية يكمن في تراجع واشنطن عن سياستها الحالية، على الأقل فيما يتعلق بالإصرار على رفع سقف العقوبات التي تفرضها عليها، وهو ما انعكس في تصريحات حسام الدين آشنا مستشار الرئيس حسن روحاني، في 21 يونيو الجاري، التي قال فيها أنه "إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يريد حربًا مع إيران فعليه أن يخفف العقوبات"، مضيفًا: "الحرب والعقوبات وجهان لعملة واحدة.. إذا كنت لا تريد حربًا فعليك أن تفعل شيئًا ما بشأن العقوبات".
وهنا، قد لا يمكن استبعاد أن تكون إيران قرأت تراجع الإدارة الأمريكية عن توجيه الضربة العسكرية على نحو خاطئ، بمعنى أنها اعتبرت أن هذا التراجع مؤشر على عدم امتلاك واشنطن خيارات عديدة في التعامل معها، وأنها بدأت في انتزاع زمام المبادرة من الأخيرة التي دخلت خطواتها، وفقًا لرؤية طهران، في إطار رد الفعل على الإجراءات التي تتخذها الأولى.
والثانية، تأكيد أن الإجراءات التصعيدية الجديدة في البرنامج النووي سوف تدخل مرحلة التنفيذ في 7 يوليو القادم، وهو موعد انتهاء المهلة الحالية التي منحتها إيران للدول الأوروبية لرفع مستوى التعاملات التجارية والبنكية.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن إيران حرصت من خلال إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية على توجيه تحذير إلى المجتمع الدولي من خطورة وصول التوتر الحالي إلى درجة لا يمكن التكهن بالخيارات التي قد يستند إليها الطرفان فيها، على نحو يمكن، في رؤيتها، أن يدفع القوى الدولية إلى التدخل لدى واشنطن من أجل البحث في بدائل أخرى للتعامل مع الخلافات العالقة معها.