أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

سيكولوجيا الخوف:

السمات النفسية للمتطرفين اليمينيين

04 سبتمبر، 2019


أثار تنامي نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة، وتصاعد الخطاب اليميني في الغرب، تساؤلات حول الدوافع النفسية لهذا التنامي، وعلاقته بسمات الشخصية وأنماط التفكير والحالات الوجدانية المختلفة. وعلى الرغم من كثافة الطرح الخاص بأسباب تنامي نفوذ اليمين المتطرف في الغرب؛ إلا أنه غالبًا ما يتم تجاوز التفسيرات النفسية المحركة له والتي تضمنت العديد من النظريات والرؤى والدراسات التي تقدم تفسيرات مستمدة من الواقع لهذا التنامي. واستنادًا إلى ما تشير له نتائج العديد من الدراسات من أن الاحتياجات النفسية تحفز تبني الأيديولوجيات والمواقف السياسية؛ يمكن طرح العديد من الرؤى ذات الجدوى في هذا الصدد، والتي قد تساعد في التنبؤ ليس فقط بالأشخاص الأكثر تهيؤًا للانغماس في الفكر اليميني المتطرف، وإنما ترجح أيضًا رؤى حول السياق النفسي الذي يعزز تصاعد الرؤى اليمينية المتشددة، وتمتد لطرح تفسيرات لسيكولوجيا اتخاذ القرار لدى القيادات اليمينية والتنبؤ بردود أفعالها.

خطابات "الخوف":

لم تكن النتائج اللافتة التي حققها حزب "البديل لألمانيا" اليميني المتطرف في شرق ألمانيا الأيام الماضية سوى واحدة من سلسلة قفزات للتيار اليميني المتطرف في الغرب بشكل عام حدثت خلال السنوات القليلة الماضية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، وأثارت التساؤل حول دوافع هذا الصعود، وجاء هجوم كرايستشيرش ليدفع القضية أكثر إلى صدارة الاهتمام الدولي، ولعل المتتبع لهذا الصعود سيجده متزامنًا مع العديد من التطورات الدولية التي يتمحور معظمها في المجمل حول "تراجع الشعور بالأمن". والحقيقة أن تحليلات السياسة الكلية تكشف أن الظروف المجتمعية التي سبقت ظهور الأنظمة المتطرفة في القرن العشرين اتسمت بمكاسب سريعة الزوال، والتي تمثلت في فترة قصيرة من الرخاء (مثل التوسع الإقليمي والثروة الاقتصادية) تلتها خسائر ضخمة، وسهلت هذه الظروف المجتمعية المحبطة الزخم ليس فقط للأنظمة الفاشية (اليمين المتطرف) ولكن أيضًا للأنظمة الشيوعية (اليسار المتطرف).

وهو ما دفع نحو إجراء العديد من الدراسات النفسية التي دعمت بدورها وجود علاقة بين القلق والأيديولوجيات السياسية المتطرفة. فعلى سبيل المثال، ومقارنة مع المعتدلين؛ فإن المتطرفين سياسيًّا يتسمون بمعدلات قلق أقوى بشأن المستقبل، ومشاعر عدم يقين يتحايلون عليها بتبني قناعات أيديولوجية متطرفة. فاليمينيون أكثر حساسية حيال التهديدات، وهذه المخاوف غير المنطقية هي التي تؤدي إلى "نظرة مشوهة" للواقع، وهو ما يسهل اجتذابهم باستخدام خطاب "الخوف".

وفي تجربة قام بها مجموعة من الباحثين في عام 2012 تضمنت تعريض مجموعة من الليبراليين والمحافظين لسلسلة من الصور الإيجابية والسلبية على شاشة كمبيوتر مع تسجيل حركات أعينهم؛ اتّجه الليبراليون لتتبع الصور الإيجابية والممتعة، بينما اتجه المحافظون إلى تأمل الصور المهددة والمزعجة، مثل حطام السيارات والإصابات وغيرها، وهو ما يطلق عليه علماء النفس اسم "التحيز السلبي" الذي يقوم على أنه عندما ينحاز الانتباه نحو الجانب السلبي، تكون النتيجة تقييمًا مفرطًا للتهديد، ومن هنا ينظر اليمينيون إلى العالم بوصفه مكانًا مخيفًا للغاية، وهو ما يفسر اتجاه العديد من وجهات النظر المحافظة الرئيسية إلى أن تكون متجذرة في الخوف؛ الخوف من المهاجرين، والإرهاب، والفقر، وغير ذلك.

وتشير العديد من الدراسات النفسية إلى تصاعد وتيرة التحول نحو تبني الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة في ظل ظروف عدم اليقين في الدول الغربية (على سبيل المثال، الولايات المتحدة، والعديد من دول الاتحاد الأوروبي). وتُحدث الأزمات تأثيرات مماثلة في البلدان التي تنشط فيها التيارات السياسية التي تجمع بين القومية والتطرف اليساري مثل فنزويلا (أي هوغو تشافيز، ونيكولاس مادورو)، أو الإكوادور (أي إيفو موراليس)، أو نيكاراجوا (أي دانيال أورتيغا)، وهو ما بدا أيضًا مؤخرًا في المكسيك (وهي دولة تعاني من انتشار الجرائم والفساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية) عندما فاز الزعيم القومي اليساري "أندريس مانويل لوبيز أوبرادور" في الانتخابات الرئاسية بأغلبية ساحقة. 

وتستند الدلائل التي تشير إلى وجود علاقة بين القلق والتوجه اليميني المتطرف إلى أن الاحتياجات والأوضاع الأمنية تتنبأ بالمواقف اليمينية في البلدان ذات المستويات العالية من التنمية البشرية والمواقف اليسارية في البلدان ذات مستويات التنمية البشرية المنخفضة؛ علاوة على ذلك، تتنبأ الاحتياجات الأمنية بمواقف يمينية ثقافيًّا ويسارية اقتصاديًّا.

السمات النفسية:

على الرغم من صعوبة الجزم بمجمل السمات النفسية للتطرف السياسي اليميني؛ إلا أن هناك عددًا من السمات الرئيسية الدالة والمدعومة بالأدلة التجريبية ويمكن إجمال أبرزها فيما يلي:

1- تجنب الغموض والعمليات العقلية المعقدة: أظهرت دراسة في مجلة "ترنزليشن إيشوز" أن سيكولوجيكال ساينس (Translational Issues in Psychological Science) استنتجت من برنامج تحليل النص لتفسير لغة "ترامب" من الخطب والمناقشات والوثائق المكتوبة أنه (أي ترامب) يبرز من بين السياسيين الآخرين، بمن فيهم زملاؤه الجمهوريون والرؤساء السابقون، بأنه منخفض بشكل استثنائي في "التفكير التحليلي"، ودفعت هذه النتيجة الباحثين القائمين على الدراسة إلى استنتاج أن أسلوب التفكير التحليلي المنخفض ساهم في زيادة شعبية الرئيس "ترامب"، وعلى الرغم من أن التفكير التحليلي قد يرى آراء وإجابات "دونالد ترامب" سطحية؛ فإن الكثير من اليمينيين ينظرون إليها على أنها واضحة وموثوقة، وهذا التصور المبسط للعالم هو ما يدفع اليمينيين إلى الثقة المطلقة في أحكامهم، ويبرر الهيمنة الاجتماعية لقادتهم.

ويبدو اليميني مقارنة بالاتجاهات السياسية الأخرى أكثر ميلًا لإشباع احتياجاته النفسية بتجنب العمليات المعرفية المعقدة أو البيئات التي تتسم بالغموض، أي إنه يسعى إلى ما يطلق عليه علماء النفس اسم "الانغلاق المعرفي"، أي الاتجاه نحو صياغة رأي واضح وسريع ودائم حول قضية ما، بدلًا من الدخول في دائرة الارتباك والغموض، حيث تتميز الأيديولوجيات المتطرفة بتصور مبسَّط نسبيًّا للعالم يوفر حماية معرفية من عدم اليقين وما يترتب عليه من شعور بالتهديد الشخصي والاجتماعي. وقد توصل عالم النفس "جوست" في عام 2003 إلى وجود علاقة وثيقة بين الحاجة العالية للانغلاق المعرفي (والمتغيرات المرتبطة بها مثل عدم تحمل الغموض، وتجنب عدم اليقين، وتجنب التعقيد المعرفي) ودعم المعتقدات السياسية اليمينية.

أيضًا دعمت نتائج العديد من الدراسات هذا التفسير، حيث حللت إحدى الدراسات الهامة التي أجراها تيتلوك وأرمور وبيترسون في عام 1994، محتوى الخطب حول العبودية التي قدمها السياسيون قبل فترة وجيزة من الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، ووجدت انخفاضًا في التعقيد المعرفي بين السياسيين المتطرفين نسبيًّا مقارنة بالمعتدلين، وتشير الدلائل إلى أن اليمينيين المتطرفين ينظرون إلى الأحداث الاجتماعية والسياسية بطريقة أكثر بساطة. على سبيل المثال، على الرغم من أن اليسار واليمين قد طرحا حلولًا مختلفة لأزمة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي؛ فقد اعتقد اليمينيون أن حل هذه الأزمة كان بسيطًا مقارنة بالمعتدلين الذين آمنوا بأن هناك حاجة إلى حلول أكثر تعقيدًا، وتنعكس هذه البساطة المعرفية أيضًا في ميل المتطرفين السياسيين إلى تصديق نظريات المؤامرة. وتحتوي نظرة اليميني للعالم على وعد بنظام اجتماعي يمكن التنبؤ به بأقل قدر من التعقيد، وحد أدنى من خطر التغيير.

إن النظرة اليمينية للعالم تنطوي على فهم متحيز للعلاقات بين الجماعات التي من المحتمل أن تكون دافعًا لتفضيل اتخاذ إجراءات صارمة وعدائية ضد الجماعات الخارجية في النزاعات.

2- الإقصاء والتنميط: للحفاظ على الشعور بالأمن واليقين يذهب اليمينيون بشكل عام إلى الانصياع للصور النمطية، حيث تشير الدراسات -على سبيل المثال- إلى أن ذوي الاتجاه السياسي المحافظ يميلون إلى استخدام الصور النمطية الشائعة أكثر من الليبراليين، وقد توصلت دراسة أجرتها "ستيرنا" وآخرون إلى أن اليمينيين المتطرفين يميلون للتقييم السلبي والتوزيع الأقل للموارد على الأشخاص الذين يختلفون أو ينحرفون عن الصور النمطية لمجموعتهم (الأشخاص المختلفون عنهم) بصرف النظر عما إذا كانت الصور النمطية هذه حقيقية أو زائفة، وبالتالي فإنّ اليمينيين ليسوا فقط أكثر عرضة لاستخدام الصور النمطية من الليبراليين، ولكنهم يستخدمون هذه الصور في إصدار تقييمات لتنظيم المجتمع ليصبح أكثر يقينًا وتوافقًا مع توقعاتهم.

إن ثقة الفرد المفرطة في التفوق الأخلاقي لمعتقداته الأيديولوجية الخاصة تعيق التفاعل والتعاون الجاد مع المجموعات الأيديولوجية المختلفة. وتزيد القناعاتُ السياسيةُ المتطرفة بشكل عام الرغبةَ في استخدام العنف للوصول إلى الأهداف الأيديولوجية، وتتفاقم هذه العمليات بسبب ميل الناس إلى تعريض أنفسهم انتقائيًّا للأفراد والأفكار التي تثبت صحة قناعاتهم، وبالتالي فإن أبرز سمات ذوي الاتجاه السياسي اليميني تتمثل في قبولهم للسلطة والتقيد بالمعايير الاجتماعية ("الخضوع")، والحساسية حيال التهديدات التي يتعرض لها نظامهم الاجتماعي، فقد أظهرت العديد من الدراسات أن ذوي نمط الشخصية الاستبدادية أكثر استجابة للرسائل المهددة، أو أن الأفراد (المتطرفين) من اليمين يظهرون استجابات نفسية -وأيضًا فسيولوجية- أقوى للمنبهات السلبية أو المهددة.

3- التعصب والسلطوية: يتسم المتطرفون السياسيون اليمينيون بكونهم أقل تسامحًا مع الجماعات والآراء المختلفة مقارنة بالمعتدلين، فمن خلال الجمع بين البساطة المعرفية والثقة المفرطة، قد يواجه المتطرفون أحكامهم كمنطلقات أخلاقية تعكس حقيقة بسيطة وعالمية، ويعني هذا الشعور بالتفوق الأخلاقي أن القيم والمعتقدات المختلفة -ومجموعات الأشخاص الذين يؤيدونها- تعتبر أدنى من الناحية الأخلاقية، وغالبًا ما تفسر النظريات السابقة عدم التسامح على أنه ظاهرة يمينية في الغالب. على سبيل المثال، اليمينيون أكثر تحيزًا ضد الأقليات العرقية من اليساريين، وتؤكد النتائج المتراكمة أن الأشخاص المتطرفين من اليسار واليمين -على حد سواء- متحاملون حيال المجموعات المرتبطة بأيديولوجيات مختلفة. بالنسبة لكلٍّ من اليسار واليمين، فإن هذا التحيز يُعزَى إلى تعارض أيديولوجي قائم على افتراض أن الأشخاص الذين لديهم هوية اجتماعية مختلفة لديهم أيضًا معتقدات أيديولوجية مختلفة. وإن كانت طبيعة التوجه السياسي قد تعد مؤشرًا على عدم التسامح، فإن التطرف السياسي يتنبأ بشكل موثوق بعدم التسامح.

وقد حاول عالم النفس "كيرلينجر" في عام 1984 الإجابة على ما إذا كانت الليبرالية والمحافظة تتعارضان حقًّا وذلك من خلال دراسة العديد من المفاهيم والمقاييس للمعتقدات الليبرالية والمحافظة لعدة عينات أمريكية. وأشارت النتائج إلى أن الليبراليين يقدرون المساواة بين الناس، في حين يعتقد المحافظون أن عدم المساواة بين الناس أمر طبيعي. وفي الوقت الذي يدعم فيه المحافظون المؤسسات الدينية والممارسات التقليدية التي تدعم الوضع الراهن، ويشكون في العلم والجهود المبذولة نحو الهندسة الاجتماعية للمشكلات الاجتماعية، ويميلون للعنصرية؛ نجد أن الليبراليين يميلون إلى الحرية المطلقة، وهي أيضًا النتيجة التي توصل لها "جوست" في عام 2003، والذي أجمل الاختلافات بين الاتجاهين في عنصرين رئيسيين، الأول يتمثل في الموقف من العادات والتقاليد التي يقدسها المحافظ، بينما يسعى الليبرالي إلى التمرد عليها، والثاني يتمثل في الموقف من انعدام المساواة التي يتقبلها المحافظ ويرفضها الليبرالي. وتقوم التفضيلات الفردية الخاصة بهذين البعدين على دوافع نفسية، ممثلة في اتجاه المحافظ نحو رفض عدم اليقين والانصياع للمسلمات والتوافق مع الجماعة، وعكسه في حالة الليبرالي.

وتتناسب هذه الملاحظات مع تاريخ طويل من النظريات في العلوم الاجتماعية حول الجذور الاجتماعية والنفسية للأيديولوجيا اليمينية، وخاصة أيديولوجيا اليمين المتطرف التي ترى أن تنامي الفكر اليميني المتطرف مرتبط بصورة أساسية بالشعور بالتهديد وانعدام اليقين، وهو ما يتبعه اللجوء إلى تعزيز الانتماء للمجموعة كسياج يحمي من التهديدات غير المتوقعة. على سبيل المثال، أكد علماء النفس على دور الخوف والتهديد في تحفيز ودعم الحركة النازية في ألمانيا، وبالتالي -وفقًا لهذا الرأي- ينجح المستبدون المحتملون في كسب الأصوات استنادًا إلى "القلق الاجتماعي"، بينما لا يزال الخوف من عقاب السلطات الخارجية بدلًا من المبادئ الاختيارية هو المحدد الرئيسي لسلوكهم.