شهد عام 2018 فشلًا للجهود الأممية والدولية في تحقيق اختراق كبير بمسار الحل السياسي للأزمة الليبية، حيث فشلت الخطة التي أطلقها المبعوث الأممي إلى ليبيا "غسان سلامة"، في سبتمبر 2017، "خطة العمل الجديدة من أجل ليبيا"، لإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية بنهاية عام 2018، والتي كانت تقوم على: عقد مؤتمر وطني للمصالحة الوطنية الشاملة، وتنظيم استفتاء على دستور جديد لليبيا، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في موعد أقصاه سبتمبر 2018. وهي الخطوات التي لم يُنفذ أيٌّ منها. كما فشل أيضًا تطبيق اتفاق باريس المُوقَّع بين أطراف الأزمة الليبية في مايو 2018، والذي كان ينص على اعتماد الدستور وقانون الانتخابات وتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 ديسمبر 2018.
وفي محاولةٍ لتفادي الانهيار التام لفرص الوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية؛ تقدم المبعوث الأممي إلى ليبيا في إحاطته أمام مجلس الأمن الدولي، في 8 نوفمبر 2018، بمقترحات جديدة لتسوية الأزمة الليبية، شملت: عقد ملتقى وطني جامع خلال الأسابيع الأولى من عام 2019، لإتاحة الفرصة لليبيين لبلورة رؤية مشتركة حول الفترة الانتقالية واغتنامها من أجل التخلي عن استخدام القوة، واعتماد جدول زمني لتحقيق تقدم في توحيد المؤسسات، يليه إجراء انتخابات بحلول ربيع 2019. وهي الخطوات التي تضمنها البيان الختامي لـ"مؤتمر باليرمو" حول ليبيا، الذي عُقد في إيطاليا يومي 12 و13 نوفمبر 2018، بحضور أطراف الأزمة الليبية وعددٍ من القوى الإقليمية والدولية ودول الجوار الليبي، والذي أكد أيضًا أهمية احترام نتائج الانتخابات، ومحاسبة أولئك الذين يُعرقلون إجراءها. وشدد على رفض الحل العسكري في ليبيا، واعتماد الاتفاق السياسي الليبي المتفق عليه (اتفاق الصخيرات)، في 17 ديسمبر 2015، كإطار وحيد قابل للتطبيق من أجل مسار دائم نحو الاستقرار في ليبيا.
ومن ثمّ، فالأزمة الليبية تدخل عامها التاسع بإطار جديد للحل، وسط تساؤلات حول مدى احتمالية نجاحه في إنهاء الأزمة المستمرة منذ عام 2011، أو فشله على غرار المبادرات الأممية والدولية الأخرى، وذلك في ظل التحديات السياسية والأمنية التي تشهدها ليبيا. وفي إطار هذا التساؤل يُمكن استشراف مستقبل الأزمة الليبية في عام 2019 على نحو ما يلي تفصيله.
غموض "المؤتمر الجامع":
على الرغم من اقتراب موعد انعقاده المحدد بالأسابيع الأولى من عام 2019، إلا أنه لم يتم حتى الآن تحديد الهدف النهائي من هذا الملتقى، والأطراف المشاركة فيه، وطريقة ومعايير اختيارها، وما هي ضمانات تنفيذ مخرجاته والتزام أطراف الأزمة بها. يُضاف إلى ما سبق التضارب بشأن الموعد النهائي لهذا المؤتمر، فعقب إعلان أنه تم تحديد شهر فبراير 2019 موعدًا لانعقاده، خرجت البعثة الأممية لتنفي صحة تحديد موعد لعقد المؤتمر.
ويذهب البعض إلى أن الهدف الأساسي من هذا الملتقى هو حشد أكبر عدد ممكن من القوى الاجتماعية الليبية للحصول على دعمها لمجموعة من الإجراءات والخطوات الهادفة لإخراج الأزمة الليبية من حالة الجمود، وذلك في مواجهة القوى والمؤسسات السياسية (مجلس النواب، المجلس الأعلى للدولة) التي أصبحت عائقًا أساسيًّا أمام إنجاز الحل السياسي، فضلًا عن تجديد شرعية وصلاحية اتفاق الصخيرات المُوقَّع في ديسمبر 2015 كإطار وحيد لحل الأزمة الليبية. غير أنه توجد مخاوف من فشل هذا الملتقى في تحقيق أهدافه حال لم تحظَ مخرجاته بدعم القوى التي تسيطر فعليًّا على الأرض.
عقبات أمام الاستحقاقات:
رغم تأييد عددٍ من القوى الدولية والإقليمية لمقترح المبعوث الأممي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بحلول ربيع 2019، وإقرار مجلس النواب الليبي في طبرق لقانون الاستفتاء في 26 نوفمبر 2018 تمهيدًا لإجراء الاستفتاء على الدستور الليبي الجديد؛ إلا أنه توجد مجموعة من العقبات قد تحول دون إجراء هذه الاستحقاقات، كما حدث سابقًا. ويتمثل أبرز هذه العقبات فيما يلي:
1- غياب التوافق حول قانون الاستفتاء، حيث أعلن المجلس الأعلى للدولة في الغرب الليبي، في جلسته بتاريخ 10 ديسمبر، رفضه لقانون الاستفتاء لتعارضه مع الاتفاق السياسي الليبي، وتقسيمه ليبيا إلى ثلاث دوائر انتخابية (طرابلس، برقة، فزان)، واشتراطه أن يحظى الدستور بموافقة 50%+1 في كل إقليم على حدة، داعيًا مجلس النواب إلى استكمال المشاورات للتوافق حول قانون الاستفتاء بما يضمن إنجازه. كما رفض عدد من قوى الشرق الليبي قانون الاستفتاء، على رأسها الجيش الوطني الليبي الذي اعتبر الناطقُ باسمه العميد "أحمد المسماري" أن إقرار قانون الاستفتاء بصيغته الحالية سيطيل من عمر الأزمة. فيما اتهم عضو المجلس الرئاسي عن الشرق المقاطع لجلساته "علي القطراني"، مجلس النواب بخلط الأوراق، منتقدًا تقسيم ليبيا إلى ثلاث دوائر.
2- استمرار تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا، ما يزيد من صعوبة تنظيم استفتاء على الدستور أو إجراء انتخابات في البلاد. ففي الشرق الليبي، لا تزال الاشتباكات مستمرة بين قوات الجيش الوطني الليبي والإرهابيين بالمنطقة القديمة وسط مدينة درنة، وذلك رغم إعلان المشير "خليفة حفتر"، في يونيو 2018، تحريره مدينة درنة، آخر معاقل تنظيم "داعش" بالشرق. وفي الغرب الليبي، لا تزال الميليشيات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة هي المهيمنة على المشهد هناك، فقد شهدت العاصمة الليبية طرابلس، لنحو شهر، منذ أواخر شهر أغسطس وحتى أواخر سبتمبر 2018، اشتباكات دامية بين مجموعات مسلحة تنتمي لمدينتي مصراتة وترهونة وأخرى متواجدة بطرابلس أسفرت عن مقتل نحو 115 شخصًا، وإصابة 560، بالإضافة إلى 17 مفقودًا.
كما لا تزال تهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي قائمة، حيث نفذ العديد من الهجمات ضد مؤسسات الدولة الليبية، فقد هاجم أربعةٌ من عناصره مقرَّ وزارة الخارجية الليبية في طرابلس، في 25 ديسمبر 2018، ما أسفر عن مقتل 3 أشخاص. كما هاجم التنظيم مقر المؤسسة الوطنية للنفط، في سبتمبر 2018، ما أسفر عن مقتل شخصين، فضلًا عن مهاجمته مقر اللجنة العليا للانتخابات في طرابلس، في مايو 2018، وهو ما أسفر عن مقتل نحو 20 شخصًا. ويضاف إلى ما سبق، التدهور الشديد في الأوضاع الأمنية بالجنوب الليبي الذي تنشط فيه جماعات الجريمة المنظمة التي تقوم بعمليات التهريب والاتّجار في المخدرات والأسلحة، فضلًا عن كونه معبرًا رئيسيًّا للهجرة غير الشرعية.
3- مخاوف من عدم قبول طرفي الصراع بنتائج الانتخابات والاستفتاء على الدستور، لا سيما وأن أحد الأسباب الرئيسية للانقسام الليبي هو رفض جماعات الإسلام السياسي الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في يونيو 2014 التي فاز بها التيار المدني والفيدرالي. فضلًا عن إعلان الجيش الوطني الليبي في الشرق رفضه مشروع الدستور الليبي، ووصفه بالمعيب، واتهام المتحدث باسمه العميد "أحمد المسماري"، في أكتوبر 2018، أعضاء الهيئة التأسيسية للدستور بـ"الحصول على رشوة من رئيس حكومة الوفاق الوطني "فائز السراج"، قدرها 15 مليون دينار لتمرير الدستور".
تصاعد سيناريو الفيدرالية:
وقد بدأت إرهاصاتها في قانون الاستفتاء على الدستور الليبي الذي قسّم ليبيا إلى ثلاث دوائر انتخابية بحسب الأقاليم التاريخية الثلاثة في ليبيا، وهي: طرابلس في الغرب (وتشمل: سرت، ومصراتة، وطرابلس، والزاوية)، وبرقة في الشرق (وتشمل: البطنان، والجبل الأخضر، وبنغازي الكبرى، وأجدابيا)، وفزان في الجنوب (وتشمل: أوباري، وسبها، وغدامس)، وأعطى القانون للأقاليم الثلاثة أوزانًا متساوية، حيث اشترط أن يحظى الدستور بموافقة 50%+1 في كل إقليم على حدة، وثلثي المقترعين على مستوى الوطن لإقراره. وهو ما أثار القلق حول بقاء ليبيا دولة مركزية موحدة في المستقبل، حيث يرى البعض أن تقسيم ليبيا إلى ثلاث دوائر انتخابية -وفقًا لأقاليمها التاريخية- سيُكرّس الانقسام الاجتماعي والقبلي والسياسي في البلاد، وسيعطي دفعة قوية لدعاة الفيدرالية والمطالبين بتبني المحاصصة المناطقية في توزيع المناصب السياسية وعائدات النفط.
تحديات التسوية:
1- استمرار التباين الشديد بين الشرق والغرب، رغم المحاولات الإقليمية والدولية والأممية للتقريب بينهما، وهو ما برز في رفض المجلس الأعلى للدولة في طرابلس قانون الاستفتاء الذي أقره مجلس النواب في طبرق، ورفض الجيش الليبي في الشرق لمشروع الدستور، خاصة وأن إقرار الدستور تنظر له الأمم المتحدة وعدد من القوى الدولية كخطوة أولى نحو حل الأزمة الليبية.
2- احتدام التنافس الفرنسي الإيطالي في ليبيا، إذ تدعم كل منهما أطرافًا متنافسة في الصراع الليبي. ففي الوقت الذي تدعم فيه باريس قوات "خليفة حفتر" بالشرق الليبي، وتدفع باتجاه توحيد المؤسسة العسكرية تحت سيطرته لمكافحة التنظيمات الإرهابية؛ فإن روما تقيم علاقات وثيقة مع الغرب الليبي ممثلًا في مدينتي طرابلس ومصراتة، وذلك حفاظًا على مصالحها الاقتصادية، خاصة في مجال الطاقة، حيث شركة "إيني" الإيطالية التي لديها استثمارات كبيرة في قطاع الطاقة الليبي، وكذلك على مصالحها الأمنية، حيث إن الغرب الليبي هو نقطة الانطلاق الأساسية لأغلب المهاجرين غير الشرعيين. وترى إيطاليا في هيمنة "حفتر" على المشهد العسكري والأمني الليبي تأكيدًا للنفوذ الفرنسي هناك، وهو ما يجعل الاستراتيجية الإيطالية في ليبيا مرتبطة بشكل أو بآخر بالميليشيات المسلحة في طرابلس ومصراتة.
وفي الوقت الذي كانت تدعم فيه فرنسا إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا بنهاية العام الجاري، كانت إيطاليا تعارض ذلك بشدة، وترى أن إجراءها سيزيد من تعقيدات الأزمة الليبية. وقد وصف وزير الداخلية الإيطالي "ماتيو سالفيني"، في أغسطس 2018، الإصرار الفرنسي على إجراء الانتخابات بأنه "أمر خطير وسيئ من قبل المستعمرين المتغطرسين مثل الوزراء الفرنسيين". كما حمّل وزيرا الداخلية والدفاع الإيطاليان فرنسا مسئولية تردي الأوضاع في ليبيا على خلفية الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس في سبتمبر 2018. واتهمت وزيرة الدفاع الإيطالية "إليزابيتا ترينتا" فرنسا بـ"وضع مصالحها أولًا فوق مصالح الشعب الليبي وفوق مصالح أوروبا نفسها"، وقد أقر رئيس البرلمان الأوروبي "أنطونيو تاياني"، في ديسمبر 2018، بوجود خلافات بين دول الاتحاد الأوروبي حول إدارة الوضع في ليبيا، معتبرًا أن هذه الخلافات ليست في مصلحة أي طرف، وقد تتسبب في عدم التوصل إلى حل، داعيًا إلى صياغة موقف مشترك.
3- الأدوار السلبية لبعض القوى الإقليمية في الأزمة الليبية، ويأتي على رأسها المحور التركي-القطري الداعم للتنظيمات المتطرفة في الغرب الليبي، حيث تم ضبط حاويتين بميناء "الخمس" تحتويان على شحنة أسلحة صوتية قابلة للتعديل وذخيرة قادمة من تركيا، في 19 ديسمبر 2018، رغم أن الأوراق الرسمية المُرفقة مع الحاوية تحتوي على بيانات تُفيد بأنها حاوية تحتوي على مواد غذائية، وهو ما أثار انتقادات ليبية، وقامت حكومة الوفاق الوطني بفتح تحقيق، فيما أعربت البعثة الأممية عن قلقها، ودعت خبراء الأمم المتحدة للتحقيق في هذه الواقعة. وفي محاولة من جانب تركيا لاحتواء الغضب الليبي، أرسلت وزير خارجيتها "جاويش أوغلو"، في 22 ديسمبر 2018، إلى طرابلس، حيث التقى رئيسَ حكومة الوفاق "فائز السراج"، وأكد له أن واقعة شحنة الأسلحة لا تمثل سياسة أو نهج تركيا، واتفق الجانبان على فتح تحقيق مشترك لبحث ملابسات الحادثة وكشف المتورطين.
ختامًا، يبدو أن هناك العديد من التحديات الداخلية والخارجية أمام فرص إيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية وإتمام الاستحقاقات الدستورية والانتخابية في البلاد، مما يزيد من احتمالات استمرار الصراع الليبي خلال عام 2019، خاصة في ظل عدم التوافق الإقليمي والدولي حول الحل في ليبيا، وتركيز القوى الدولية اهتماماتها بالأساس على الأزمتين السورية واليمنية، فضلًا عن انخراط عدد من القوى الإقليمية والدولية في أدوار تنافسية تزيد من تعقيدات الأزمة، وهو ما يظهر بوضوح في التنافس الإيطالي الفرنسي.