أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

شهادات المناعة:

كيف تستعيد بعض الدول الحياة الطبيعية في ظل "كورونا"؟

13 أبريل، 2020


في أقل من شهرين، دخل أكثر من نصف سكان العالم في عزلة وإغلاق شبه كاملين جراء تفشي وباء كورونا في كافة أنحاء العالم، وهو ما ترتب عليه توقف عجلة الاقتصاد، وفقدان الملايين لوظائفهم، وتأثرت خطوط إنتاج المواد الأساسية، للدرجة التي دفعت بعض رؤساء الدول ورجال الأعمال بل وبعض الأصوات في منظمة الصحة العالمية لمطالبة الحكومات بإيجاد آلية "للتعايش مع الوباء". وأصبح العالم يعيش بين مطرقة الفيروس وسندان التدهور الاقتصادي، والبحث عن حل لمعادلة في غاية التعقيد، تتمثل في الموازنة بين البعد الصحي والبعد الاقتصادي، وهي معادلة لا تأتي نتائجها بنتائج مرضية بصورة كاملة في كل الأحوال.

وفي هذا الإطار، ظهرت في ألمانيا سياسة "شهادات المناعة"، ثم تبعتها بريطانيا تحت مسمى "باسبور المناعة"، ومن قبلهما الصين التي استحدثت سياسة "الكود الملون"، وهي الآلية التي تسمح للأفراد الذين كونوا مناعة ضد الفيروس أو البعيدين عن احتمالات الإصابة بممارسة بعض أنشطة الحياة اليومية "العادية".

من اختبارات الإصابة إلى الأجسام المضادة: 

منذ تفشي الوباء، ركزت الإجراءات الصحية على تطبيق اختبارات الفيروس على أوسع نطاق ممكن لتسريع الخروج من هذه الأزمة من خلال عزل بؤر الوباء، وتطبيق التباعد الاجتماعي لوقف تفشي الفيروس؛ غير أن هذه الإجراءات -في مجملها- تهدف في النهاية إلى إبطاء معدلات انتشار الفيروس، ومن ثم تخفيف العبء على البنية الصحية من سيناريو استيعاب أعداد كبيرة من المصابين خلال فترة زمنية محدودة بصورة تفوق قدرتها على استيعابهم.

وتشير العديد من التوقعات إلى استمرار تفشي الفيروس، ولو بوتيرة بطيئة، لشهور قادمة، بل إن دولًا مثل الكويت تتوقع استمرار كورونا إلى 2021، وهو ما دفع إلى التفكير في آليات تتمكن من خلالها الدول من التعايش مع الفيروس.

وفي هذا الإطار، أعلنت ألمانيا الأسبوع الماضي نيتها تطبيقَ اختبارات جديدة تُعرف باختبارات الأجسام المضادة (Antibody tests)، بدءًا من منتصف الشهر الجاري، وتركز هذه الاختبارات على تحديد الأفراد والفئات الذين كونوا مناعة ضد الفيروس، ومن ثم إصدار ما أسمته بـ"شهادات المناعة" لهم، وهي الشهادات التي تسمح لهم بإنهاء العزلة وكسر الحجر الصحي، وممارسة بعض الأنشطة اليومية العادية، والانتقال تدريجيًّا للحياة بعد كورونا.

ومنذ إعلان ألمانيا الفكرة التي تحدثت عنها العديد من وسائل الإعلام، وعلى الرغم من عدم إعلان الحكومة الألمانية إلى الآن عن موافقتها النهائية على أيٍّ من الأطر المقترحة للتطبيق من قبل الأطقم البحثية التي تعمل على الخطة التنفيذية؛ سريعًا ما تبنت دولٌ أخرى الفكرة، على رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

فقد أشار وزير الصحة البريطاني إلى إمكانية إصدار ما أسماه "باسبور المناعة" (Immunity Passport) أو "أسورة المناعة" (Immunity Wristband) للفئات التي تعافت من المرض، أو الذين أصيبوا بالفيروس دون ظهور أي أعراض واستطاعوا التغلب عليه، وتبين ذلك من خلال اختبارات المناعة. ومن جانبها، أعلنت الولايات المتحدة أن المفتاح الأساسي للعودة للعمل يتمثل في اختبارات المناعة، في إشارة إلى نيتها تطبيقَ السياسة ذاتها في أقرب وقت ممكن.

وفي واقع الأمر، لم تكن ألمانيا أول من فكر في تصنيف السكان لتخفيف إجراءات الحجر الصحي، فقد استخدمت الصين "الهواتف الذكية" للغرض نفسه، من خلال بث تطبيقات إلكترونية محلية على المنصات الصينية التي يستخدمها كافة الأفراد في الصين، مثل "وي تشات"، و"علي باي"، والتي تعطي للسكان ترميزًا بالألوان (Color Coding) بناء على حالتهم الصحية من خلال تصنيف السكان إلى ثلاث فئات: الحمراء، والصفراء، والخضراء. فالأفراد الذين تظهر عليهم الإصابة بأعراض الفيروس -مثل ارتفاع الحرارة- يُرمز لهم باللون الأحمر، بينما يُعطَى اللون الأصفر للأفراد الذين خالطوا من يندرجون تحت فئة اللون الأحمر، بينما يُعطى اللون الأخضر لباقي الأفراد أو للمتعافين، وهم الذين يستطيعون التحرك بحرية مع الالتزام بمعايير الوقاية، مثل: الكمامات، والقفازات، وغسل اليدين.

أبعاد سياسة "المناعة المضادة":

تعمل وزارة الصحة الألمانية وعدد كبير من المجموعات البحثية والمستشفيات على فحص عينات دم من حوالي مائة ألف شخص، لاختبار الأجسام المضادة. بحيث يعني وجود أجسام مضادة للفيروس أن الجسم قادر على محاربة الفيروس، وقد يشير ذلك إلى كون الشخص كان حاملًا للفيروس دون ظهور أي أعراض عليه، إذ إنه تمكن من تكوين مناعة مضادة له، كما يعني ذلك أيضًا أن الشخص لن يتسبب في عدوى آخرين بالفيروس. ويستهدف الباحثون تكرار الاختبارات على أكبر عدد ممكن من السكان، لتتبع تطور الفيروس. وتُعوّل الدول على سياسة المناعة لتحقيق عددٍ من الأهداف على النحو التالي: 

‌1- تحديد خط الدفاع الأول: في إطار البحث عن سبل لإعادة الناس إلى العمل، ووقف نزيف البطالة، واستعادة خطوط الإنتاج الأساسية؛ تأمل الدول في أن تُمكِّنها هذه السياسة من تحديد الفئة "المحصنة" للبدء في تدوير عجلة الاقتصاد، ولو بمعدل أقل من المعتاد في البداية، ثم يتدرج الأمر حتى استعادة الطاقة الإنتاجية الكاملة، دون المخاطرة بصحة وأرواح الجمهور العام. 

وعلى جانب آخر، تفيد هذه السياسة داخل دائرة الخدمات الصحية ذاتها، حيث يعد العاملون في القطاع الصحي من أكثر الفئات المعرضة للإصابة بالفيروس، وتساعد تحديد الأطقم خاصة من الأطباء الذين كونوا مناعة ضد الفيروس على إعادة توزيع الأطباء بالمناطق الأكثر خطرًا أو بؤر انتشار الفيروس، وفقًا لشهادات المناعة، بما يساعد في تقليل حالات الوفاة بين الأطقم الطبية والحفاظ على الكوادر والعنصر البشري الذي يعاني من نقص حاد. كما أنها ستساعد في إعطاء أولوية للمواد الوقائية "المحدودة" إلى الفئات غير المحصنة من الفيروس.

‌2- إمكانية العمل في مسارين متوازيين: في حالة ثبوت نجاح هذه السياسة، تتمكن الدول من تحقيق التوازن بين المسارين، الصحي والاقتصادي، على حد سواء. وبالتالي، يمكن تنفيذ خطط تخفيف الحجر الصحي التي وضعتها بعض الدول تحت وطأة الخوف من العواقب الاقتصادية للإغلاق الكامل. ففي هذه الحالة يمكن تطبيق هذه الخطط على أسس علمية تجنب المجتمعات -إلى حد كبير- تأثيرات إنهاء الحجر الصحي، التي قامت بها بعض الدول مثل إيران، وتم اعتبارها مخاطرة كبيرة، وفي الوقت نفسه دعم المسار الاقتصادي، واستعادة العمل مرة أخرى مع التفكير في إعادة توزيع العمالة "المحصنة" بحسب الأولويات. فعلى سبيل المثال، يمكن إعطاء الأولوية للقطاعات المرتبطة بخطوط إنتاج الأغذية والمحاصيل. وبالتالي تعطي هذه الآلية للحكومات بعض الأدوات التي قد تُمكِّنهم من تخفيف التداعيات الاقتصادية للوباء.

‌3- دعم جهود العلاج بالبلازما: منذ انتشار الفيروس، تعكف العديد من الأطقم البحثية وشركات الأدوية والمؤسسات الصحية على إيجاد بروتوكول لعلاج الفيروس، ومن بين المحاولات العديدة ظهر خط يركز على العلاج بالبلازما، وقد اعتبرته بعض التقارير علاجًا واعدًا، وقد حقق نجاحات ملحوظة في عدة دول من بينها الصين، غير أن ذلك مرهون بوجود أجسام مضادة، تم تكوينها في أجسام المتعافين من الفيروس. فعلى سبيل المثال، أعلنت الكويت عن قيام بنك الدم بقبول التبرعات من المتعافين بالدم لاستخراج بلازما الأجسام المضادة، وبالتالي قد تدعم اختبارات المناعة جهود العلاج بالبلازما، من خلال إمكانية اكتشاف أعداد كبيرة من المتعافين الذين لم يشعروا بإصابتهم بالمرض، وبالتالي الحصول على كم أكبر من عينات الدم التي تحتوي على أجسام مضادة.

الجدل حول إمكانيات التطبيق:

على الرغم من اعتبار شهادات المناعة فكرة جديرة بالتطبيق للموازنة بين الجوانب الصحية والاعتبارات الاقتصادية، والانتقال التدريجي للحياة بعد العزل، فإنها قد أثارت جدلًا واسعًا، خاصة بين المتخصصين، ما بين مؤيدين يرون أنها خطوة واعدة، ومتحفظين ومشككين في النتائج التي يتوقعها متخذو القرار. ومن بين العوائق التي أثارها هذا الاتجاه ما يلي: 

‌1- تحديات فنية: وفقًا لآراء بعض المتخصصين، لا يزال الوقت مبكرًا على الوثوق في هذه الخطوة، فالفيروس لا يزال جديدًا، وهناك بعض الجوانب غير المعروفة عن المناعة ضده. كما أشار أحد خبراء المناعة والأمراض المعدية بجامعة إدينبرج أنه حتى الآن لا توجد ضمانات كافية تؤكد أن الأفراد الذين كونوا أجسامًا مضادة لديهم مناعة من إعادة العدوى مرة أخرى.

ويدعم من هذا الرأي تسجيل دول -مثل اليابان- حالات لمرضى تعافوا من الفيروس، ثم أصيبوا به مرة أخرى. وعلى الرغم من ندرة تكرار هذه الحالات وفقًا لما هو معلن، إلا أن نسبتهم غير معروفة. وبالمقارنة بحالة فيروس السارس، وهو أحد الأجيال السابقة من فيروس كورونا، لا يملك المتعافون منه مناعة على المدى البعيد ضد الفيروس، فقد تستمر المناعة لمدة عام بعد العدوى. وبالتالي لا يزال من المبكر الاعتماد على مناعة الأجسام المضادة.

‌2- إمكانية ظهور "سوق سوداء": في حالة تطبيق سياسات الشهادات، يخشى البعض من محاولات تزوير الشهادة، وظهور سوق سوداء لذلك، خاصة مع طول فترة الحجر، أو بين الشباب الذين يعتقدون أنهم قادرون على مواجهة الفيروس لانتمائهم لفئة عمرية بمأمن عن الخطر نسبيًّا، وصعود استيائهم من البقاء بالمنزل، وخشيتهم من فقد فرص العمل أو الرغبة في العودة إلى العمل، وهو الأمر الذي يعطي نتائج عكسية، ويقلل من جهود إجراءات التباعد الاجتماعي وزيادة احتمالات تضاعف انتقال الفيروس. 

‌3- مخاوف الانقسام المجتمعي ووصم المرضى: على جانب آخر، يخشى بعض علماء الاجتماع من انقسام وتمييز اجتماعي، ووصم المرضى أو الفئات التي لم تحصل على شهادات المناعة التي تمكنها من إنهاء الحجر، وبالتالي ينقسم المجتمع إلى فئات قادرة على الحياة وفئات معزولة، مما قد يتسبب في بعض الاضطرابات الاجتماعية لو امتدت هذه الأزمة لمدة طويلة.

ختامًا، تستدعي الأزمةُ الحالية التي يمر بها العالم بأسره ظهورَ أفكار وحلول خارج الصندوق، سياسات جديدة لم نختبرها من قبل استجابة لوضع استثنائي وأزمة معقدة ذات وجهين متضادين، فالنجاح على المستوى الصحي تُقابله خسارة فادحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والعكس صحيح، وتسارع كافة الدول الآن الزمن للوصول إلى مسار ثالث يوازن بين البعدين ويضع إطارًا جديدًا للتعايش مع كورونا.