أشارت تقارير فرنسية إلى سحب باريس بقية قواتها الموجودة في جمهورية أفريقيا الوسطى قبل نهاية 2022، وذلك بعد أسابيع قليلة من اكتمال انسحاب القوات الفرنسية من مالي، وهو ما يعكس مؤشراً مهماً بشأن استمرار تراجع نفوذ باريس في الساحل وغرب أفريقيا، لاسيما في ظل تصاعد الحضور الروسي في هذه المنطقة.
الاستعداد لمغادرة بانغي:
أشارت مصادر فرنسية الأسبوع الماضي إلى اتجاه القوات الفرنسية لمغادرة بانغي خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- انسحاب فرنسا من أفريقيا الوسطى: أشارت تقارير إلى استعداد فرنسا لسحب آخر 130 عسكرياً لها موجودين في أفريقيا الوسطى، وأن الانسحاب سيبدأ من منتصف أكتوبر الجاري، ويكتمل بحلول ديسمبر المقبل.
وترتكز القوات الفرنسية في قاعدة "مبوكو" بمطار العاصمة بانغي، والتي تضم أيضاً عناصر بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب، بالإضافة إلى وحدة تابعة لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى "مينوسكا"، حيث كانت القوات الفرنسية مسؤولة عن تقديم الدعم اللوجستي أثناء وجودها في هذه القاعدة، فضلاً عن الدور الذي لعبته سابقاً في تقديم التدريبات لقوات أفريقيا الوسطى.
2- تراجع الدور الفرنسي: شهدت جمهورية أفريقيا الوسطى، منذ حصولها على الاستقلال من فرنسا في عام 1960، تدخلات متكررة من قبل القوات الفرنسية، وكان آخرها في عام 2013، عندما أرسلت باريس عملية "سانغاريس" إلى بانغي لدعم القوات الحكومية في التعامل مع العنف الداخلي. وبلغ عدد القوات المشاركة في هذه العملية نحو 1600 عسكري، قبل أن تختتم أعمالها في عام 2016. ومع نهاية عملية "سانغاريس" انخفض عدد هذه القوات، خاصة بعد إعلان باريس في 2021 تعليق تعاونها العسكري مع بانغي، بسبب تقارب الأخيرة مع موسكو.
3- تنامي الحضور الروسي: عملت موسكو على استغلال تراجع الوجود العسكري الفرنسي في بانغي بعد عام 2016 لتعزيز حضورها هناك، حيث أرسلت موسكو منذ عام 2018 مجموعة من المدربين العسكريين إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، قبل أن ترسل المئات من عناصر فاجنر الروسية شبه العسكرية في 2020.
تفسيرات مختلفة:
تباينت التقديرات بشأن أسباب اتجاه باريس لسحب قواتها من أفريقيا الوسطى، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- انزعاج باريس من موسكو: تصاعد الحضور الروسي في أفريقيا الوسطى بشكل لافت خلال الفترة الماضية، حتى أصبحت إحدى الدول الحليفة لموسكو، كما لم تشهد أعداد عناصر فاجنر في بانغي أي تراجع منذ بداية الحرب الأوكرانية، بل شهدت زيادة ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة، حيث يقدر العدد الإجمالي لعناصرها في أفريقيا الوسطى بنحو 1400 عنصر، وباتت الشركات التابعة لفاجنر تتحكم في إنتاج مناجم الذهب والماس في بانغي.
وعلى الرغم من بدء التقارب بين بانغي وموسكو منذ عدة سنوات، فإن باريس عمدت خلال الفترة الماضية إلى التمسك بوجودها العسكري في أفريقيا الوسطى، تحسباً لأي تحول محتمل في المشهد الداخلي، يمكن أن يمهد الطريق أمام استعادة باريس نفوذها هناك، لكن يبدو أن المعطيات الداخلية جعلت فرنسا تدرك صعوبة تخلي موسكو عن نفوذها المتنامي في بانغي، وهو ما دفع باريس لسحب قواتها.
2- اتجاه تواديرا لتمديد حكمه: شهدت الفترة الأخيرة تحركات مكثفة من قبل رئيس أفريقيا الوسطى، فوستين تواديرا، لتعديل الدستور للحصول على فترة رئاسية ثالثة في الانتخابات المقبلة في مارس 2026، وهو ما أثار حفيظة باريس، كون تواديرا حليفاً مقرباً من موسكو.
وعلى الرغم من إصدار المحكمة الدستورية في بانغي، في 23 سبتمبر 2022، قراراً يقضي ببطلان خطوات الرئيس تواديرا والبرلمان لتعديل الدستور، فإن غالبية التقديرات تشير إلى أنه من غير المرجح أن يتخلى تواديرا عن مساعيه للاستمرار في السلطة بعد نهاية فترة ولايته الثانية، وذلك عن طريق الدفع نحو إجراء الانتخابات المحلية وإنشاء غرفة عليا للبرلمان، تتولى عملية التغيير الدستوري بشكل قانوني.
3- توظيف الفراغ الأمني: لاتزال الميليشيات المحلية التابعة لتحالف "سيليكا" تشن حرب استنزاف ضد قوات الجيش في أفريقيا الوسطى وعناصر فاجنر الروسية، وهو التحالف الذي كان قد أطاح بالرئيس السابق، فرانسوا بوزريزي، في عام 2013. وفي هذا السياق، ألمحت بعض التقديرات إلى أن باريس ربما تستهدف زيادة الضغوطات على بانغي وفاجنر، من خلال خلق فراغ أمني متعمد في البلاد.
4- تطبيق الاستراتيجية الفرنسية الجديدة: يمثل قرار باريس بسحب قواتها الموجودة في بانغي أحد ملامح الاستراتيجية الفرنسية الجديدة، والتي تستهدف توسيع انتشارها في خليج غينيا، والتحول من الانخراط العسكري المباشر إلى الاعتماد أكثر على القوات المحلية.
كما تتزامن تلك الاستراتيجية مع تنامي وتيرة السخط الشعبي في غالبية دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا من الوجود العكسري الفرنسي، وبالتالي تستهدف باريس تخفيف المشاعر المعادية لها في المنطقة عبر تقليص الانخراط العسكري المباشر.
انعكاسات محتملة:
هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن سحب فرنسا قواتها من أفريقيا الوسطى، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- البحث عن بديل للقوات الفرنسية: كانت القوات الفرنسية في قاعدة "مبوكو" مسؤولة عن توفير الدعم اللوجستي للقوات الأوروبية والأممية الموجودة هناك، بالتالي أشارت تقديرات إلى أن الأوروبيين بدؤوا حالياً البحث عن بدائل أخرى لتوفير الخدمات اللوجستية لقواتها.
وفي هذا السياق، أشارت تقديرات إلى إجراء فرنسا حالياً مشاورات مع "مينوسكا"، فضلاً عن التشاور مع رواندا، في محاولة لإقناع أي منهما لنشر قواته في قاعدة "مبوكو" العسكرية، للحيلولة دون وقعها تحت سيطرة عناصر فاجنر الروسية.
2- تصاعد محتمل للتهديدات الأمنية: على الرغم من توقيع حكومة الرئيس تواديرا في فبراير 2019 لاتفاق سلام مع 14 جماعة مسلحة، فإن الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2020 أدت إلى عودة أعمال العنف مرة أخرى، بسبب إعادة انتخاب الرئيس فوستين تواديرا لولاية جديدة.
وفي إطار تمسك الأخير بتعديل الدستور للترشح لولاية ثالثة، تتزايد احتمالية تفاقم الأوضاع الأمنية، في ظل اتجاه الجماعات المسلحة لتصعيد وتيرة هجماتها الإرهابية، لاسيما مع وجود مساحات واسعة من أراضي أفريقيا الوسطى خارج سيطرة الحكومة.
3- مستقبل غامض لبعثة "مينوسكا" في بانغي: تستمر الهجمات الإرهابية التي تستهدف مينوسكا. وكان آخرها في مطلع أكتوبر 2022، والتي أدت إلى مقتل ثلاثة من جنود البعثة وإصابة آخرين. وفي هذا السياق، ألمحت تقديرات إلى وجود شكوك حول استمرارية بعثة "مينوسكا" في أفريقيا الوسطى، وذلك بعدما كانت هذه البعثة قد بدأت أعمالها في 2014، ولا تزال تضم حالياً نحو 14200 جندي، بيد أن الخسائر المتتالية في عناصر البعثة، والتي بلغت نحو 147 قتيلاً حتى الآن، ربما تدفع البعثة إلى مراجعة وجودها في بانغي، خاصةً مع خروج القوات الفرنسية التي كانت البعثة الأممية تعتمد عليها في توفير الخدمات اللوجستية.
4- تراجع الحضور الفرنسي: باتت غالبية التقديرات تتفق على تراجع النفوذ الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا، على الرغم من مساعي باريس تغيير استراتيجيتها في المنطقة، للحيلولة دون تقويض نفوذها تماماً. وبعد أن كانت فرنسا تهيمن على نحو ثلث دول القارة في مرحلة ما، بدأ النفوذ الفرنسي يتراجع بشكل مضطرد منذ مطلع القرن الحالي.
كما انخفضت القيمة الإجمالية للصادرات الفرنسية للدول الأفريقية إلى النصف بين عامي 2000 و2021، في ظل وجود منافسيين دوليين آخرين، حيث تجاوزت الصين الحصة الفرنسية من السوق الأفريقي منذ عام 2007، وأصبحت بكين تمتلك حالياً أكثر من ثلاث أضعاف حصة باريس، بل أن ألمانيا باتت تتفوق على فرنسا كأكبر الموردين الأوروبيين لأفريقيا. أما من حيث حجم الاستثمار في القارة السمراء، فتحتل هولندا المركز الأول بين الدول الأوروبية، وتعكس مؤشرات التجارة الفرنسية مع أفريقيا أن شركاء باريس الرئيسيين في أفريقيا باتوا من خارج دول غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية.
ووفقاً لنتائج استطلاع الرأي السنوي "أفريكا ليدز" (AfricaLeads) الأخير الذي تجريه "جمعية أرباب العمل الفرنسية"، فإن صورة فرنسا تتدهور بشكل مستمر في أفريقيا، فقد باتت باريس تحتل المرتبة التاسعة في ترتيب الدول الأكثر فائدة بالنسبة لدول القارة الأفريقية، فيما تصدرت الولايات المتحدة وكندا وألمانيا الترتيب.
وفي الختام، تشهد الفترة الحالية بداية الانهيار الفعلي لنفوذ باريس التاريخي في القارة الأفريقية بشكل عام، وغربها بشكل خاص، ويبدو أن حالة مالي، مرشحة للتكرار في العديد من دول غرب أفريقيا، غير أن هناك بعض التقديرات ألمحت إلى أن باريس تسعى إلى محاولة خلق حالة من الفراغ الأمني لدى الدول التي تسعى للتخلص من النفوذ الفرنسي، لمحاولة التأكيد على أهمية دورها في المنطقة، والحيلولة دون استمرار انحسار دورها في المنطقة.