أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

مسارات قلقة:

هل حان وقت نزع عسكرة الإرهاب في إفريقيا؟

30 مارس، 2021


 يكشف أحدث مؤشر لشدة الإرهاب في العالم، عن تصاعد العنف في بؤر الإرهاب الساخنة في إفريقيا، بالإضافة إلى زيادة خطر وقوع هجمات إرهابية في العديد من البلدان في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك بعض البلدان التي كانت تُعتبر آمنة نسبيًا في السابق. لقد أضحت إفريقيا جنوب الصحراء اليوم موطنًا لسبعة من أكثر عشرة مواقع خطرة في العالم، وذلك استنادًا إلى بيانات تم جمعها عن 198 دولة، مما يجعلها المنطقة الأسوأ أداءً في محاربة الإرهاب على مستوى العالم. 

وتُشير هذه البيانات -كذلك- إلى أن تمدد وفعالية الجماعات الإرهابية في إفريقيا آخذان في الازدياد. فقد شهد الربع الأخير من العام الماضي -على الرغم من جائحة (كوفيد-19)- ارتفاعًا بنسبة 13٪ في الحوادث الإرهابية عبر القارة مقارنة بالفترة السابقة. ولا شك أن مسار هذه الاتجاهات يعد سببًا رئيسيًا للقلق حول نجاعة استراتيجيات محاربة الإرهاب على مختلف الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية. ولعل أبرز مثال على التمدد الإرهابي في العمق الإفريقي، وخلق بؤر ملتهبة جديدة، قيام الولايات المتحدة في 11 مارس 2021، بوضع الجماعة المسلحة الأوغندية، المعروفة باسم القوات الديمقراطية المتحالفة والتي تنشط في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ منتصف التسعينيات، على قائمة الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم "داعش". تقول وزارة الخارجية الأمريكية إن "داعش (فرع جمهورية الكونغو الديمقراطية) مسؤول عن العديد من الهجمات في مقاطعات شمال كيفو وإيتوري، في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. ما الذي حدث خطأ -إذن- في الحرب العالمية على الإرهاب في إفريقيا؟

مطالب نزع العسكرة:

طبقًا لتقرير حديث للبنتاغون أعده مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، وهو مؤسسة أبحاث تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية؛ فإن الوضع الأمني في القارة يدعو للقلق الشديد، حيث يُظهر ارتفاعًا بنسبة 43% في عمليات الجماعات الجهادية المتشددة، وزيادة حادة في أحداث العنف خلال عام 2020، وهو ما يؤكد منحى التصعيد المتواصل خلال العقد الماضي. طيلة نحو عقدين من الزمان كانت قوات العمليات الخاصة الأمريكية تخوض حربًا سرية -في أغلبها- عبر مختلف أرجاء القارة الإفريقية، حيث تعاونت مع حلفاء محليين ضد عدد كبير من الجماعات الإرهابية العنيفة. 

وعليه، فقد شكك كثير من الخبراء في الفرضية الأساسية لجهود مكافحة الإرهاب الأمريكية في القارة الإفريقية، حيث تمت المطالبة بتوجيه الأموال المخصصة للكوماندوز الأمريكيين في إفريقيا من أجل إنفاقها بشكل أكثر فاعلية في مجالات المساعدات الإنسانية والتنمية الاقتصادية في البلدان التي يتزايد فيها خطر العنف المتطرف. 

وإن زيادة معدلات التطرف الإرهابي العنيف في القارة يُشير بما لا يدعو للشك إلى عدم إحراز قيادة العمليات الخاصة الأمريكية في إفريقيا أي تقدم في إضعاف بنية الجماعات الإرهابية والحد من أنشطتها العنيفة. إن حقيقة زيادة عنف الجماعات الإسلامية المتشددة خلال ذروة جائحة (كوفيد-19)، عندما كان من المفترض أن تؤدي المصاعب الاقتصادية وإغلاق الحدود إلى تقييد حركة هذه الجماعات الإرهابية؛ يُظهر أن قيادة العمليات الخاصة الأمريكية لم تقم بتعديل خطة مكافحة الإرهاب الخاصة بها بشكل فعال لتعكس الديناميكيات المتغيرة التي شهدها العالم في عام 2020. 

و يشير تقرير البنتاغون إلى جملة من النتائج المذهلة عن الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء القارة الإفريقية. وتشمل هذه الجماعات أذرع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ليبيا والجزائر ونيجيريا والجماعات الموالية لها في تونس والمغرب، والصومال، وكينيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجنوب إفريقيا، ودول الساحل، وكذلك تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وحركة الشباب في شرق إفريقيا. 

وتؤكد الوثائق أن هدف قيادة القوات الخاصة في إفريقيا كان يتمثل في تعطيل والحد من حركة القاعدة والمنظمات المتطرفة العنيفة المنتسبة إلى داعش في شرق إفريقيا، وحوض بحيرة تشاد، والساحل، والمغرب العربي، من خلال التعاون مع شركاء أفارقة وغربيين. ومع ذلك وجد التقرير أن الجماعات الإرهابية لم يتم النيل من قدراتها وتعطيلها على مدى العامين الماضيين؛ بل ما حدث هو العكس تمامًا. لقد ازداد عدد ضحايا هذه الجماعات المسلحة بمقدار الثلث مقارنة بالعام السابق، كما شهدت المناطق التي تثير قلقًا رئيسيًا لقوات الكوماندوز الأمريكية مثل الصومال ومنطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد بعضًا من أكثر الزيادات في معدلات العنف على مستوى القارة. على سبيل المثال، في العام الماضي كان الوضع بالغ القتامة في الصومال. لقد تم إرسال قوات العمليات الخاصة الأمريكية إلى الصومال في عام 2002، وتم تنفيذ ضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار منذ عام 2011. و

على الرغم من العمليات البرية من قبل القوات الخاصة الأمريكية والشركاء الصوماليين، بالإضافة إلى أكثر من 200 غارة جوية منذ عام 2017؛ فإن حركة الشباب المجاهدين لا تزال تمثل أكبر شبكة للقاعدة وأكثرها نشاطًا وفعالية في العالم. اتضح ذلك في زيادة أنشطة العنف التي تورطت فيها حركة الشباب خلال العام الماضي بنسبة 33%، إضافة إلى زيادة المعارك التي خاضها الشباب وقوات الأمن في عام 2020 بنسبة 47%.

"أفرقة" محاربة الإرهاب:

في 16 فبراير 2021، عُقدت قمة مجموعة دول الساحل الخمس (التي تضم موريتانيا، ومالي، وبوركينافاسو، والنيجر، وتشاد) وشارك فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل افتراضي. وربما تشكل هذه القمة نقطة تحول كبرى في استراتيجية فرنسا لمحاربة الإرهاب في الساحل الإفريقي. إذ بعد أكثر من ثماني سنوات من التدخل العسكري، تجد فرنسا نفسها في نفس المأزق الأمريكي في أفغانستان. ربما يدفعها ذلك إلى تخفيف تواجدها العسكري في المنطقة، مع التركيز -في المقابل- على دور الحلفاء المحليين والدوليين. لم يتدنَّ التأييد الشعبي الفرنسي لعملية برخان من قبل بنفس الدرجة السائدة اليوم. 

فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام في أوائل يناير 2021 أن 51٪ من الفرنسيين فقدوا دعمهم للتدخل العسكري في منطقة الساحل. يعني ذلك أن الحكومة الفرنسية تواجه أدنى مستوى للدعم الشعبي منذ أن بدأت حملتها في الساحل قبل ثماني سنوات. وتم التعبير عن هذا القلق العام بشكل واضح عندما دعا المجلس الوطني ومجلس الشيوخ إلى مزيد من النقاش حول مستقبل الدور الفرنسي في منطقة الساحل. 

المثير للتأمل هو أن هذا التحول الفرنسي صوب الانسحاب التدريجي يأتي في أعقاب نشر 600 جندي فرنسي إضافي في منطقة الساحل، ليصل عدد قوة برخان إلى 5100. وذلك تطبيقًا لمقررات قمة يناير 2020 في باو الفرنسية. خلال هذا العام المنصرم، فقدت فرنسا 12 جنديًا إضافيًا (ليصل إجمالي خسائرها البشرية 57 شخصًا منذ بداية تدخلها في يناير 2013) في حرب تبدو -من وجهة نظر مواطنيها– وكأنها لا تنتهي أبدًا.

ويعكس هذا النهج الفرنسي الجديد -في جوهره- تحركًا باتجاه "أفرقة" الصراع وأساليب مواجهته في الساحل. ترغب فرنسا من دول الساحل تعزيز مناهجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمعالجة جذور التطرف العنيف. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون دول الساحل قادرة على استعادة السيطرة الكاملة على أراضيها وتحقيق الاستقرار السياسي. ولا شك أن هذا الهدف يمثل جوهر مشكلة التطرف والإرهاب في المنطقة، حيث تعاني الدولة في منطقة الساحل من الهشاشة والضعف العام. 

كما أنها تفتقر إلى القدرات العسكرية والأمنية بما يجعلها غير قادرة على مواجهة الجماعات المتمردة العنيفة المختلفة بشكل فعال. لم يكن مستغربًا أن يناقش الخبراء الفرنسيون فكرة الحوار المباشر مع الإرهابيين وجماعات العنف المسلح، وهو ما يعكس نفس خبرة الولايات المتحدة مع طالبان.

ولعل ما يزيد الأمور تعقيدًا، أن جزءًا كبيرًا من سكان الساحل الذين يُفترض أنهم مستفيدون من الحملة الدولية لمحاربة الإرهاب بقيادة فرنسا ينظرون إلى الوجود العسكري الفرنسي على أنه شكل من أشكال الاحتلال الاستعماري الجديد. قد لا يكون هذا رأي الأغلبية الشعبية، ولكن عادةً ما يتم تضخيمه عبر التغطية الإعلامية الواسعة والاحتجاجات المتكررة، خاصة في مالي، حيث يكون الوجود الفرنسي أكثر وضوحًا. وبالنظر إلى التاريخ الاستعماري، فليس من المستغرب أن يشك بعض سكان الساحل في المشاركة العسكرية الفرنسية في المنطقة. ثمة اتهامات أخرى لفرنسا بالغطرسة، وتبني أجندات خفية. ومع ذلك، هناك أيضًا أسباب للتشكيك في أهمية وفعالية نموذج التعاون العسكري.

تصاعد العنف العرقي:

 لقد أدت سياسات مكافحة الإرهاب في مواجهة الجماعات الجهادية العنيفة إلى ظهور مليشيات عرقية محلية. ونتيجة لذلك، تفاقمت التوترات الطائفية والعرقية، ولا سيما بالقرب من مثلث الحدود بين مالي والنيجر وبوركينافاسو. ومن المعروف أن هذه الدول الثلاثة تواجه انتشار أعمال عنف متطرفة مميتة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، والتي أودت بحياة الآلاف وشردت مئات الآلاف على الرغم من وجود القوات الإقليمية والدولية. في يناير 2021، قُتل ما لا يقل عن 100 شخص في قريتين في النيجر، وذلك وسط أجواء الانتخابات الرئاسية في البلاد.

 وقد تكرر الأمر نفسه في شهر مارس 2021 بعد إعلان فوز "محمد بازوم" بمنصب الرئيس، حيث قام مسلحون على متن دراجات نارية بمهاجمة سلسلة من القرى بالقرب من حدود النيجر المضطربة مع مالي، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 137 شخصًا في أعنف هجمات تعيها الذاكرة الحديثة. ولا شك أن هذه النتائج الكارثية لمناهج مكافحة الإرهاب في الواقع الإفريقي جعلت هناك شبه اتفاق عام على أن سياسة مكافحة الإرهاب الغربية في منطقة الساحل تعتمد على العسكرة المفرطة، وأنها اتسمت بعدم الفعالية. وعليه يقترح الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا، ولو بلغة متفاوتة قليلًا، أن هذه السياسة يجب "إعادة التوازن" إليها، أو "إعادة التفكير فيها"، للتأكيد على قضايا الحوكمة والحلول السياسية، بما في ذلك "التفاوض مع الإرهابيين". لقد كانت لغة القوة والعمل العسكري جزءًا من خطاب المجتمع الدولي والقوى الأكثر انخراطًا في المنطقة فيما يتعلق بمنهج محاربة الإرهاب. بيد أن اللهجة السائدة الآن تختلف بشكل واضح، حيث يتم الاعتراف بالإخفاق على نطاق واسع، كما عبر عن ذلك تقرير البنتاغون آنف الذكر.

وختامًا، يبدو من المرجّح أن الممارسة العملية لا تزال تؤكد منحى الأمننة في مواجهة الإرهاب، حيث إن المؤسسات المستثمرة في الحلول العسكرية لها تأثير أكبر بكثير بسبب ثقلها البيروقراطي والافتراضات الرائجة كتلك القائلة بأن النجاح العسكري وهزيمة الإرهابيين يجب أن يأتي أولًا. إن الاهتمام بواقع الحكومات الوطنية وسياق المجتمعات المحلية يأتي بشكل موسمي، ولا يحظى بالأولوية في عقيدة مكافحة الإرهاب المدعومة دوليًا. بيد أن خبرة السنوات الماضية تشير إلى وجود دوافع قوية لواضعي السياسات للتخلي عن نزعة العسكرة ليس بحسبانها غير فعالة فحسب، ولكن لأنها في الغالب تُفضي إلى مزيد من أعمال العنف.