أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

«كورونا» ومساحة الجهل البشري

17 مايو، 2020


ما زال العالم عاجزاً بكل طاقاته وإمكانياته عن حل لغز فيروس «كورونا» الفتاك. وقد مضت نصف سنة وهذا العجز يزداد ولا ينقص، وتعبر عنه التناقضات الصارخة تجاه مستقبل الفيروس ومستقبل التعامل معه.

العلماء في عامة الفنون يشعرون في بداية تحصيلهم بأنهم يسيطرون على تخصصهم يوماً بعد يومٍ، ويبحثون ويجتهدون ويحققون إنجازاتٍ مهمة، ويقدمون إضافاتٍ للعلوم التي أبدعوا فيها، ولكنهم حين يستمرون ويتضلعون بالعلم، تصاب الغالبية العظمى منهم بتواضع مهم؛ لأنهم يبدأون يوماً بعد آخر في اكتشاف مساحات الجهل لديهم، ومساحات الجهل في كل العلوم البشرية.

يذكرنا فيروس «كورونا» اليوم بمساحات الجهل البشري التي لا تنتهي، ونحن في القرن الحادي والعشرين. ومع كل التقدم العلمي والتقني ومع كل الدعم السياسي والاقتصادي، فإن هذا الفيروس ما زال ينتصر على البشرية جمعاء. إنه تذكير واقعي بمدى غير المعلوم والمجهول في كافة العلوم التي لم يتقدم البشر نحوها بعد.

معلوم أن البشر سينتصرون في هذه المعركة، كما انتصروا من قبل وسيفعلون من بعد، لكونهم المخلوق العاقل المفكر المبدع الوحيد في هذا الكوكب، ومقصود هذا السياق أن يعرف البشر مساحة الجهل لديهم حتى في أكثر العلوم خصوصية للحفاظ على حياتهم وصحتهم، وهي العلوم الطبية بأصنافها، وليس التقليل من قيمة العلم والعلماء الذين هم وحدهم من سيُخرج العالم من أزمته مع هذا الفيروس الخطير. الأزمات الكبرى تغير العالم، وأزمة «كورونا» غيرته بالفعل وتستمر في تغييره، ولن يعود بعدها كما كان قبلها، لا على مستوى الفلسفة والأفكار، ولا على مستوى الواقع المعيش، ولهذا سيخسر في المستقبل من لم يستطع استيعاب هذه التغييرات الكبرى التي جرت، والتغييرات الأكبر التي ستجري.

الصراع بين الدول والأمم والأفراد مستمر منذ بدء البشرية، وهو ثابتٌ مستمرٌ من ثوابت الحياة، وقصة العيش بسلام دائم بين البشر هي طموحٌ إنساني مشروعٌ ونبيلٌ، يدفع إليه العلم والعقل الذي لا يتمتع به كثيرٌ من البشر؛ لأنهم لا يدركون عواقبه عليهم، وها نحن نشهد اليوم وبعد أزمة «كورونا» أن الولايات المتحدة تشنُّ حرباً إعلامية وسياسية ضد الصين، معلنة بدء صراع جديد في العالم بين الإمبراطوريتين القويتين: الإمبراطورية الأميركية غير المسبوقة في تاريخ البشرية، لا بتقدمها العلمي والاقتصادي فحسب؛ بل بتقدمها في المبادئ الإنسانية الكبرى التي تلتزم بها، والإمبراطورية الصينية الصاعدة بقوة علمياً وتقنياً، ولكن من دون مبادئ إنسانية قابلة للانتشار على المستوى الدولي.

يبدو أن الصين لن تواجه أميركا فقط لو ثبتت مسؤوليتها بأي شكلٍ عن انتشار وتفشي هذا الفيروس؛ بل ستقف مع أميركا كل الدول الغربية الكبرى، وغالبية دول العالم التي تأذت من هذه الأزمة، وخسرت كثيراً على مستويات متعددة، بمعنى أنه سيكون سهلاً تشكيل جبهة دولية لمعاقبة الصين ومحاسبتها وتحميلها أثماناً باهظة، حتى من دون حربٍ خشنة وخطرة.

هذه الحرب المتوقعة هي حربٌ قد بدأت أصلاً منذ صعود الصين كمنافسٍ قوي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وهي حربٌ مستمرة وتتطور، وقد كان آخر فصولها قبل ظهور فيروس «كورونا» الحرب التجارية الأميركية الصينية، ومعركة الجيل الخامس في تقنية الاتصالات، بين مالكتها الصين ومحاربتها أميركا، وفكرة استخدام الفضاء للحروب العسكرية الجديدة، والتي حذر منها الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل أزمة «كورونا».

الصين قدمت نموذجاً مختلفاً في تاريخها الحديث، واستطاعت النجاة من الاشتراكية والانخراط في الرأسمالية من دون سقوط النظام كما جرى في النموذج السوفياتي، ويحكمها حزب شيوعي واحدٌ ليس معنياً بأي طروحاتٍ إنسانية في التعامل مع الشعوب، ويقودها رئيس طموحٌ جداً يمتلك رؤية واسعة لتطوير بلاده، وإثباتها قائداً دولياً لا يمكن الاستهانة به ولا تجاهله، ولديها كثير من القوانين التي تختلف عن غالبية دول العالم، وبخاصة فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية، أو بحقوق الإنسان، في تفاصيل كثيرة لا يتسع لها هذا السياق.

في غضون تصاعد المواجهة الدولية مع «كورونا»، بدأت تتصاعد المعركة الانتخابية الحاسمة داخل أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، وهي الإمبراطورية الأميركية، بين الرئيس ترمب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، ومن دون أي تطوراتٍ مهمة وغير معتادة تبدو النتيجة محسومة لمصلحة الرئيس ترمب، فبايدن لا يبدو بأي مقياس منافساً جاداً للرئيس، وحتى حزب بايدن نفسه يبدو مشككاً في قدرة «النعسان» بايدن - كما يسميه الرئيس - على منافسته في الانتخابات القادمة.

بضعة أشهر تفصلنا عن هذه الانتخابات المهمة لكل العالم، ونتيجتها سيكون لها تأثير كبير دولياً وليس محلياً فحسب، وهذا أمرٌ طبيعي يليق بمكانتها وقوتها، وستكون معركة بين أميركا القائدة والرائدة للعالم وبين تيار أوباما الانعزالي داخل الحزب الديمقراطي، تيار أوباما وبايدن ونانسي بيلوسي الجديد داخل الحزب.

على الرغم من كل إنجازات الرئيس ترمب الاقتصادية المبهرة، وتحجيمه للبطالة بشكل مطَّرد داخل أميركا، فإن فيروس «كورونا» فرض تحدياً جديداً وخطراً حقيقياً على كل منجزاته، والفاصل سيكون إدارته لهذه الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر، وأقل الخسائر فادحة للأسف؛ لأنها خسارة لأرواح البشر مهما صغرت، غير أن الأزمة منحت الرئيس منصة انتخابية غير مسبوقة؛ حيث يخرج يومياً للحديث عن إدارته للأزمة وتطوراتها، وبالطبع يتعرض لمنافسه بايدن وتيار أوباما في الحزب الديمقراطي، وما يطلق عليه «أوباما غيت» لضرب هذا التيار بأجمعه، لا بايدن فحسب.

الخوف من المجهول إحدى الغرائز العميقة في أذهان البشر، وقد سعى البشر في تاريخهم الطويل لتغطيتها بالسحر والشعوذة والخرافات، إلى أن بدأ العلم يأخذ مساحة مهمة من تلك التغطية ويزيح الخرافات، ولكن الخرافات تتصاعد كلما فشل العلم أو بدا عاجزاً، وهو ما ينتشر في العالم اليوم، بحسب كل ثقافة وأمة على حدة، فيخرج الوعاظ الجدد من كل دين أو ثقافة، مزبدين مرعدين يوجهون الناس، ويسعون للاستحواذ على عقولهم مجدداً، وهذه نتيجة طبيعية لعجز العلم وتضخم مساحة المجهول، ولن يحل هذه الأزمة ولا غيرها إلا العلم، والعلم فقط.

أخيراً، فالشعر أحياناً يختصر المعاني ويوجز القول، ويصيب كبد الحقيقية، ومن ذلك البيت الشهير:

وإذا ما ازددت علماً

ازددت علماً بجهلي

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط