أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

الابتكار الزراعي:

كيف تحافظ دول الخليج على أمنها الغذائي في الأزمات العالمية؟

06 يونيو، 2022


تعد مخاوف انعدام الأمن الغذائي في العالم قديمة، ويتحقق الأمن الغذائي عندما يُتاح لجميع السكان، في جميع الأوقات، الحصول على مصادر غذاء كافية ومأمونة ومحققة للفوائد الغذائية. ويقوم الأمن الغذائي على أربع ركائز؛ هي توافر الغذاء، والوصول إلى الغذاء، والاستفادة من الغذاء، واستدامة واستقرار مصادره.

وفي هذا الإطار، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي من بين الأكثر أماناً للغذاء، وفقاً لمؤشر الأمن الغذائي العالمي، والذي يأخذ في الاعتبار مدى توافر الإمدادات الغذائية، والقدرة على تحمل تكاليفها، وجودتها وسلامتها. ومع ذلك، تظل دول الخليج معتمدة بشكل كبير في مصادرها الغذائية على الاستيراد، حيث إنها تستورد حوالي 85% من غذائها.

ومن الطبيعي أثناء حدوث اضطراب في سلاسل التوريد العالمية، بسبب الأوبئة أو الظروف الجيوسياسية؛ فإن الاعتماد على الواردات يترك الدول المُستوردة للغذاء عُرضة للأزمات، وهو ما لم نره في دول الخليج. فعلى الرغم من جائحة كورونا، واندلاع الحرب الأوكرانية – الروسية الراهنة؛ استطاعت هذه الدول احتواء تداعيات تلك الأزمات على أمنها الغذائي.

تطور سياسات الخليج:

منذ القدم، كان إنتاج الغذاء محدوداً في دول الخليج العربية، حيث كانت تعتمد في الغالب على صيد الأسماك والرعي البدوي وزراعة التمور وإنتاج الخضراوات على نطاق محدود؛ نظراً لأنها تقع في واحدة من أكثر المناطق جفافاً في العالم، إذ يُصنف المناخ فيها على أنه صحراوي حار، وفقاً لتصنيف "كوبن" للمناخ. وبالتالي تم تقييد الإنتاج الغذائي المحلي في دول الخليج بسبب الظروف الزراعية والبيئية غير المواتية، مثل ندرة الموارد المائية، وارتفاع درجات الحرارة، وعدم جودة التربة. 

وتشير الدراسات إلى أن نسبة 19.5% فقط من إجمالي مساحة الأراضي في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، هي أراض زراعية (أي أراضي المحاصيل والمراعي)، و1% فقط هي أراض صالحة للزراعة (أراضي المحاصيل)، وهي نسبة أقل من المتوسط العالمي البالغ 10.6%. 

ومنذ سبعينيات القرن الماضي وبعد تهديد الولايات المتحدة بفرض حظر غذائي على دول "أوبك"، رداً على "الصدمة النفطية الأولى"؛ تبنّت دول مجلس التعاون الخليجي عدة سياسات لزيادة الإنتاج الغذائي المحلي لتحقيق أعلى مستوى ممكن من الاكتفاء الذاتي. وبالتالي فإنه منذ السبعينيات، قدمت حكومات دول الخليج دعماً سخياً لضمان الإمدادات الغذائية، مما أدى إلى التوسع في إنتاج الغذاء. 

سلاسة الإمدادات:

لم يشكل الأمن الغذائي أزمة لدول مجلس التعاون الخليجي إلا تحت ظروف معينة. فمن الثابت أن هذه الدول غنية برأس المال، وليس لديها قيود على النقد الأجنبي لاستيراد المواد الغذائية. ومن ثم، فإن الاستقرار المالي لدول مجلس التعاون الخليجي أتاح لها قدرة شرائية عالية، جعلتها أقل عُرضة لمخاطر تقلبات أسعار الغذاء من مصادر استيراده من الخارج، ومكّنتها من سد فجوة الإنتاج المحلي. ونتيجة لذلك، تم تصنيف دول مجلس التعاون الخليجي الست في عام 2018 على أنها الأكثر أماناً غذائياً في المنطقة العربية، ومن بين أكثر البلدان أماناً غذائياً في العالم.

حلول مُبتكرة:

تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات محددة لتحقيق الأمن الغذائي المُستدام على المدى الطويل. فالأمن الغذائي هو مفهوم شامل يشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والسياسية، الأمر الذي يدعو إلى حتمية الانتقال من تركيز السياسات العامة لدول الخليج على جانب العرض فقط كما كان الأمر في سبعينيات القرن الماضي، إلى الانتقال نحو نظم غذائية مُستدامة، تضمن الأمن الغذائي من خلال مزيج من الاستراتيجيات والسياسات التي تتناول جميع الأبعاد الأربعة للأمن الغذائي (التوافر، الوصول، الاستفادة، والاستقرار). 

وتجدر الإشارة إلى أنه منذ تفجر أزمة الغذاء العالمية في عامي 2007 و2008، أصبح الأمن الغذائي تحدياً مستمراً لمختلف الدول. فقد كشفت الأزمة العالمية عن الاعتماد الكبير لدول الخليج على الواردات، وقيود السياسات الغذائية القائمة على الاستيراد، والحاجة إلى زيادة الإنتاج المحلي لتخفيض الاعتماد على الغذاء المُستورد. 

ومع ذلك، فإن الناتج الزراعي في هذه الدول محدود بسبب العديد من العوامل الطبيعية، مثل الموارد المائية الشحيحة، والتربة الفقيرة. علاوة على ذلك، قد يكون الأمر الأكثر أهمية للأمن الغذائي لدول الخليج هو "مخاطر الإتاحة" availability risk؛ والتي تنشأ عندما لا يكون البلد المُعتمد على الاستيراد قادراً على الحصول على الغذاء حتى لو توافرت لديه الموارد المالية الكافية لشرائه. 

وهنا، يمكن استخدام التقنيات الجديدة والممارسات المُبتكرة، التي تناسب الظروف المناخية والتربة المحلية، لزيادة إنتاجية واستدامة النظم الزراعية؛ بهدف الانتقال نحو إنتاج غذائي محلي مُستدام. 

وثمة حاجة أيضاً للبحث في طبيعة العقبات الرئيسية والعوامل التي تؤثر على الابتكار وتبنّي التقنيات وتبادل المعرفة والتعاون داخل قطاع الزراعة في دول الخليج. بالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة الغذاء العالمية الآنية، والحاجة إلى زيادة الإنتاج الغذائي المحلي؛ هي فرصة لنهج شامل للابتكار، يأخذ في الاعتبار الجوانب المتعددة لإنتاج الغذاء، بما في ذلك الإنتاج الزراعي، والتنمية الاقتصادية، والاستدامة البيئية. 

التعامل مع الأزمات:

أكد تقرير حديث أصدرته مجموعة "أكسفورد" للأعمال بالشراكة مع المنظمة العربية للتنمية الزراعية، حول الاستجابة لأزمة كوفيد-19، أن دول مجلس التعاون الخليجي تكثّف جهودها لمواجهة تحديات الأمن الغذائي بشكل تعاوني ومنفرد، لإيجاد حلول مُستدامة لتحديات الأمن الغذائي لديها.

وسلط التقرير الضوء على الاستراتيجيات واسعة النطاق للابتكار الزراعي وإنتاج الغذاء التي تتشكل في أنحاء المنطقة، وقدم تفاصيل عن تحديات الأمن الغذائي الكبيرة التي واجهتها منذ فترة طويلة، مثل ندرة المياه، ونقص التربة الصالحة للزراعة والتي تفاقمت بسبب تغير المناخ. ويأخذ التقرير في الاعتبار أيضاً التأثير الإضافي للاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية الناجمة عن وباء كورونا والحرب الأوكرانية، مما زاد من حاجة دول المنطقة إلى مواصلة الاستثمار في الطاقة الإنتاجية المحلية وحلول التكنولوجيا الزراعية.

وفي هذا السياق، يتعين إلقاء الضوء على الخطوات التي أحرزتها دول مجلس التعاون الخليجي قبل وأثناء الجائحة للحد من الواردات، وذلك من خلال الاستثمار في حلول التكنولوجيا الداعمة في مجالات مهمة مثل إدارة المياه، مع التركيز بشكل خاص على "تحلية المياه". ومثل هذه الخطوات ساعدت في خلق بيئة استثمارية جاذبة للشركات الإقليمية والدولية التي تتطلع إلى الفرص في هذا القطاع التنموي ذي البعد المُستدام.

وفي محاولة للحد من الاضطرابات في سلاسل التوريد الغذائية، أطلقت حكومات الخليج تدابير التدخل الفوري، وتشمل الإعفاءات المالية والمزايا الائتمانية للمزارعين والشركات الزراعية، إلى جانب دعم عمليات التعبئة والتغليف والتوزيع. وقد حافظت تلك الخطوات على الأمن الغذائي قصير المدى، مما جنّب دول الخليج بعض الأزمات الأكثر خطورة التي واجهتها بلدان أخرى في العالم. فعلى سبيل المثال، اضطرت دول مثل إندونيسيا والفلبين إلى فرض قيود على مشتريات الطعام للحد من الاكتناز والشراء بدافع الذعر.

تحركات مستقبلية:

على الرغم من استجابة دول الخليج لأزمة الغذاء العالمية بشكل فاعل في الأجل القصير، فإنها تحتاج إلى استكمال تدخلاتها الفورية بتدابير مُستدامة تهدف إلى إعادة هيكلة سلاسل الإمدادات الغذائية وحماية الواردات الغذائية من الصدمات المُحتملة في المستقبل، وذلك كالتالي:

1- زيادة الإمدادات الغذائية المحلية: يمكن أن يؤدي تنفيذ الممارسات الزراعية الرائدة المُستخدمة بالفعل في أماكن أخرى، إلى زيادة إنتاجية المزارعين بشكل كبير. وتشمل هذه الممارسات، المحاصيل المُعدلة وراثياً، والزراعة الصحراوية، والزراعة بمياه البحر، والزراعة الحضرية، والزراعة الدقيقة التي تستخدم البيانات والتكنولوجيا لزيادة الغلال. 

وبالمثل، فإن تعزيز سلاسل التوريد في الخليج يمكن أن يجعل الإمدادات الغذائية أكثر قدرة على الصمود، وتهيئة المنطقة لأي اضطرابات في المستقبل. ويمكن على سبيل المثال أن تقوم حكومات دول الخليج بمساعدة المنتجين والمستهلكين على تعزيز الاستفادة من منصات الإنترنت والأسواق الإلكترونية، حيث تساعد هذه الأدوات الرقمية في إدارة مخاطر سلاسل الإمداد، وتحديد نقاط الضعف في سلسلة القيمة، وتقليل إهدار الطعام. 

2- ضمان استقرار الواردات: يمكن للحكومات في الخليج إدخال قنوات استيراد جديدة لجلب الموارد الحيوية إلى سلسلة القيمة الزراعية. ويمكنها أيضاً تبسيط إجراءات مراقبة الحدود لإدخال البضائع بشكل أسرع. ومن ذلك، مثلاً، تقليل عمليات التفتيش على الحدود والجمارك للشحن الزراعي، واعتماد الشهادات الإلكترونية للأغذية المستوردة بدلاً من طلب الوثائق المادية.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن للدول التي ليس بها قطاع خاص ناضج في مجال صناعة الأغذية، تحقيق تقدم أسرع في هذا المجال، من خلال إنشاء كيان انتقالي شبه حكومي في صورة شركة عامة. وقد طبقت دول في العالم هذا النهج مثل الهند وإندونيسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وتونس.

وعلى المدى المتوسط، يمكن للكيان شبه الحكومي تشجيع المزارعين على الاستفادة من التقنيات المُبتكرة لزيادة الإنتاج المحلي، مثل الزراعة المائية (طريقة للزراعة من دون تربة)، والزراعة الصحراوية، والزراعة بمياه البحر. ويمكن أن تساعد أيضاً في تطوير قدرات الاستيراد للقطاع الخاص، وربط الشركات بشركاء تجاريين استراتيجيين. أما على المدى الطويل، فتحتاج الحكومات في الخليج إلى بناء الإمدادات الغذائية المحلية، وتعزيز سلاسل التوريد، وزيادة تدفق الواردات، والزراعة التعاقدية خارج حدود دول الخليج، والاستثمار في أراض زراعية بدول أفريقية مثل السودان وغيرها.