عرض: بسنت عادل
في عام 2008، هزت أزمة مالية غير مسبوقة أركان الاقتصاد العالمي، مُلقية بظلالها على أوروبا بشكل خاص، ولم تكن هذه الأزمة مجرد اختبار لمتانة الأنظمة المالية الأوروبية فحسب، بل شكلت تحدياً فريداً لصندوق النقد الدولي، ذلك الحارس المالي العالمي الذي وجد نفسه في مواجهة معضلة لم يألفها من قبل، فكيف يمكن لمؤسسة اعتادت على إنقاذ الاقتصادات الناشئة أن تتعامل مع أزمة في قلب العالم المتقدم؟ وما التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية لهذا التحول الدراماتيكي في دور الصندوق؟
ويكشف كتاب "صندوق النقد الدولي وأزمة الديون الأوروبية" للكاتب هارولد جيمس الصادر في عام 2024، الكواليس المثيرة لاستجابة الصندوق لتلك لأزمة، مستعرضاً التحديات غير المسبوقة التي واجهها، من استنزاف موارده المالية إلى ضرورة إعادة صياغة استراتيجياته التقليدية، كما يوضح كيف تعامل الصندوق مع معضلة العملة الموحدة في منطقة اليورو، والتعقيدات الناجمة عن تشابك الديون مع البنوك الأوروبية، وصولاً إلى الانتقادات الحادة التي واجهها من الدول النامية؟
اختبار الأزمات:
في أربعينيات القرن العشرين، تبلورت رؤية مؤسسي "بريتون وودز" حول ضرورة إنشاء مؤسسة عالمية شاملة لمواجهة النزعة الانفرادية للدول في التعامل مع النظام الاقتصادي العالمي، وكان الهدف من ذلك تجاوز العقلية التضخمية المدمرة التي سادت في الثلاثينيات وأدت إلى الكساد والحرب. وفي مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944، تم تأسيس صندوق النقد الدولي كمؤسسة عالمية تفرض قواعد ذات تطبيق عالمي، دون ارتباط بمنطقة جغرافية محددة، شأنه في ذلك شأن البنك الدولي.
مع مرور الوقت، واجه هذا النموذج العالمي تحديات، خاصة مع ظهور الأزمات الإقليمية، فعندما ضربت أزمة اقتصادية حادة العديد من دول شرق آسيا في تسعينيات القرن الماضي؛ أدى صندوق النقد الدولي دوراً محورياً في تقديم القروض والمشورة المالية، إلا أن سياساته وشروطه الصارمة تعرضت لانتقادات واسعة؛ إذ اعتُبرت في بعض الحالات سبباً في تفاقم الأزمة؛ ونتيجة لذلك، بدأت تظهر استجابات إقليمية للأزمات المالية، فبعد الأزمة الآسيوية، شرعت دول المنطقة في تطوير آلياتها الخاصة لإدارة الأزمات المالية، مثل: إنشاء صندوق النقد الآسيوي ومبادرة تشيانغ ماي؛ بهدف تقليل الاعتماد على صندوق النقد وتعزيز التعاون الإقليمي.
وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وجد صندوق النقد نفسه يتعامل مع أزمة في قلب الاقتصادات المتقدمة، وتحديداً في أوروبا. وواجه الصندوق تحديات غير مسبوقة في التعامل مع هذه الأزمة؛ إذ اعتاد التعامل مع الأزمات المالية في الدول النامية ولم يكن يتوقع رؤيتها في الاقتصادات المتقدمة. وهنا، اضطر الصندوق للعمل مع المؤسسات الأوروبية، مشكلاً ما عُرف بـ"الترويكا" مع البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية؛ لدعم برامج التكيف في دول مثل: اليونان وأيرلندا والبرتغال وقبرص، بالإضافة إلى مراقبة برنامج التكيف في إسبانيا. هذه التطورات لم تقتصر تأثيراتها في منطقة اليورو فحسب؛ بل امتدت لتشمل بقية أوروبا، بما في ذلك أوروبا الشرقية والجنوبية الشرقية، وحتى المملكة المتحدة، التي شهدت استفتاءً عام 2016 أدى إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي في خطوة اعتُبرت الأكثر تطرفاً.
وشكلت الأزمة الأوروبية اختباراً حقيقياً لقدرات صندوق النقد الدولي وآليات عمله، حيث بدأت الأزمة في اليونان عام 2009، وسرعان ما انتشرت لتهدد استقرار منطقة اليورو بأكملها، وكشفت هذه الأحداث عن ضعف في الهياكل المؤسسية الأوروبية؛ مما استدعى تدخلاً خارجياً من صندوق النقد لدعم جهود الإصلاح والاستقرار الاقتصادي، فقد قدم الصندوق ثلث التمويل الرسمي لبرامج التكيف في الدول الأوروبية المتضررة، بينما قدم الشركاء الأوروبيون الباقي، وكانت هذه البرامج من أكبر البرامج في تاريخ الصندوق من حيث الحجم المالي، فعلى سبيل المثال، صرف الصندوق لليونان مبلغاً بقيمة 31.8 مليار يورو من أصل 50.2 مليار يورو تم الموافقة عليها، وقدم لأيرلندا 22.5 مليار يورو، وللبرتغال 27.7 مليار يورو، ولقبرص مليار يورو.
تحديات متعددة:
يسلط الكتاب الضوء على التحديات التي واجهت صندوق النقد الدولي في مواجهة الأزمة الأوروبية، وكان من أبرزها:
أولاً، لم يكن التنسيق سلساً بين صندوق النقد والمؤسسات الأوروبية، خاصة المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي؛ إذ ظهرت خلافات جوهرية حول قضايا مثل: الحاجة لإعادة هيكلة الديون وكيفية إنقاذ البنوك المتعثرة، وكان على الصندوق أن يتعامل مع هذه الخلافات بحذر، محاولاً الموازنة بين مصالح مختلف الأطراف دون التخلي عن مبادئه الأساسية.
ثانياً، مثلت الديون الحكومية في أوروبا تحدياً أمام صندوق النقد، فقد بدا الدين اليوناني غير قابل للاستدامة؛ مما جعل إعادة هيكلته أمراً حتمياً، لكن مثل هذه الخطوة كانت ستزعزع الأسواق وتثير الشكوك حول استدامة الديون في دول أخرى من منطقة اليورو؛ لذلك، اختار الصندوق في البداية تبني برنامج من دون إعادة جدولة للديون؛ مما أدى إلى تفاقم الأزمة لاحقاً، وأثار هذا القرار جدلاً كبيراً داخل الصندوق وخارجه، وأدى إلى مراجعة شاملة لسياسات الصندوق فيما يتعلق بإدارة الديون السيادية.
ثالثاً، لم يستطع صندوق النقد التنبؤ بدقة بمسار الاقتصاد خلال الأزمة الأوروبية، فغالباً ما كانت توقعاته متفائلة أكثر من اللازم؛ مما أدى إلى تصميم برامج تقشف أكثر قسوة مما كان ضرورياً، هذا التفاؤل كان مدفوعاً جزئياً برغبة الحكومات الوطنية في تقديم صورة إيجابية لمواطنيها، لكنه أدى إلى تفاقم الآثار السلبية للأزمة على المواطنين؛ نتيجة لذلك، بدأ الصندوق في مراجعة نماذجه الاقتصادية وطرق التنبؤ المستخدمة، مع التركيز على تحسين دقة التوقعات في ظروف الأزمات.
رابعاً، أثارت الأزمة الأوروبية أسئلة حول مدى ملاءمة مشروطيات صندوق النقد الدولي، فالمشروطية هنا تعني ربط التمويل بتنفيذ إصلاحات معينة؛ هي جوهر عمل الصندوق، لكن في حالة الأزمة الأوروبية، كانت هذه الشروط في كثير من الأحيان قاسية ومثيرة للجدل سياسياً؛ مما أدى إلى تآكل الدعم الشعبي للحكومات وزيادة التوترات الاجتماعية؛ مما دفع الصندوق إلى إعادة النظر في طبيعة الشروط التي يفرضها، مع محاولة تحقيق توازن أفضل بين الإصلاحات الاقتصادية الضرورية والاستقرار الاجتماعي.
خامساً، شكلت الأزمة المصرفية التي كانت جزءاً أساسياً من الأزمة الأوروبية تحدياً لصندوق النقد، فقد كانت البنوك الأوروبية الكبرى، خاصة في فرنسا وألمانيا، مترابطة بشكل كبير؛ مما جعل أي إجراء لإنقاذ بنك واحد له تداعيات على النظام المصرفي بأكمله، وكشف هذا التحدي عن الحاجة إلى تطوير أدوات جديدة للتعامل مع الأزمات المصرفية العابرة للحدود؛ وأدى إلى زيادة التركيز على الإشراف المصرفي وتنظيم القطاع المالي.
سادساً، بدت الحلقة المفرغة بين أزمات البنوك والديون السيادية أحد التحديات أمام صندوق النقد، فعمليات إنقاذ البنوك أدت إلى زيادة الديون الحكومية؛ مما أضعف الاقتصادات الوطنية وزاد من الضغط على القطاع المصرفي، هذه الحلقة المفرغة أظهرت الحاجة إلى نهج شامل في التعامل مع الأزمات المالية، يأخذ في الاعتبار الترابط بين مختلف قطاعات الاقتصاد.
بين النقد والإصلاح:
في مواجهة هذه التحديات، اتخذ صندوق النقد الدولي عدة إجراءات، فقد عمل على تنسيق جهوده مع المؤسسات الأوروبية، رغم الصعوبات التي واجهها في هذا التعاون، كما طور آليات جديدة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية، مع محاولة الحفاظ على حيادية ظاهرة وتطبيق مبادئ عامة. كما شملت هذه الإجراءات تعديلات على سياسات الإقراض، وتحسين أدوات التحليل الاقتصادي، وزيادة التركيز على المخاطر النظامية في النظام المالي العالمي.
إلا أن هذه الجهود لم تخلُ من الانتقادات، فقد اتُهم الصندوق بالانحياز لصالح الدول الأوروبية الأكثر ثراءً على حساب الدول الأفقر، كما انتُقد بسبب توقعاته الاقتصادية غير الدقيقة وتصميمه لبرامج تقشف قاسية أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة معاناة المواطنين، وأدت هذه الانتقادات إلى مراجعة داخلية لسياسات الصندوق وممارساته، مع التركيز على تحسين الشفافية والمساءلة.
ومع ذلك، يقدم الكتاب تقييماً إيجابياً نسبياً لأداء صندوق النقد الدولي في ظل الظروف الصعبة التي واجهها، فقد أظهر الصندوق قدرة على التعلم من أخطائه وتطوير آلياته للتعامل مع الأزمات غير التقليدية، على سبيل المثال، قام الصندوق بتعديل سياساته المتعلقة بإعادة هيكلة الديون السيادية، وعزز قدراته على تحليل المخاطر النظامية في القطاع المالي.
ويسلط الكتاب الضوء أيضاً على التحولات الفكرية والسياسية التي حدثت في صندوق النقد نتيجة للجدل حول برامجه الأوروبية، فقد أدت هذه التجربة إلى إعادة تقييم لدور الصندوق في النظام المالي العالمي وطرق تعامله مع الأزمات الاقتصادية، على سبيل المثال، أصبح هناك اعتراف أكبر بأهمية مراعاة الظروف الاجتماعية والسياسية عند تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي.
ومن الدروس المهمة التي يستخلصها الكتاب أهمية الشفافية والمساءلة في عمل المؤسسات المالية الدولية؛ إذ يجب على هذه المؤسسات أن تكون أكثر انفتاحاً على النقد، وأن تستمع إلى مجموعة واسعة من الخبرات عند اتخاذ القرارات، كما يجب أن تكون مستعدة لتعديل سياساتها بناءً على التطورات الاقتصادية. ويشير الكتاب أيضاً إلى أن الأزمة الأوروبية كشفت عن الحاجة إلى إعادة تقييم آليات الحوكمة العالمية في ظل التغيرات الاقتصادية العالمية، فقد أظهرت الأزمة محدودية قدرة المؤسسات الدولية على التعامل مع الأزمات الاقتصادية المعقدة في عالم متزايد الترابط؛ وهو ما أدى إلى نقاشات حول كيفية تحسين التنسيق بين المؤسسات المالية الدولية والإقليمية، وتعزيز قدرة النظام المالي العالمي على الصمود في وجه الصدمات.
ختاماً، يخلص الكتاب إلى أن تجربة الأزمة الأوروبية دفعت أوروبا إلى إدراك الحاجة إلى تعميق مؤسسي أكبر لتجنب الاعتماد على النصح أو المال الخارجي في المستقبل؛ مما أدى إلى إجراء إصلاحات مهمة في هيكل الاتحاد الأوروبي، مثل: إنشاء آلية الاستقرار الأوروبية وتعزيز الاتحاد المصرفي، كما أدت هذه التجربة إلى ظهور مبادرات إقليمية تسعى إلى توفير بدائل لصندوق النقد الدولي؛ مما يشير إلى تحول في هيكل النظام المالي العالمي.
المصدر:
Harold James, The IMF and the European Debt Crisis, International Monetary Fund (IMF), 2024.