أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

فقدان الزخم:

سيناريوهات الهبوط والتعافي للعملات المُشفرة في العالم

26 يوليو، 2022


سيطرت حالة من الاضطراب على أسواق العملات المُشفرة في العالم خلال الأشهر الأخيرة، ومُنيت العملات الرئيسية، خاصةً البيتكوين، بخسائر كبيرة، لتتهاوى القيمة السوقية الإجمالية للعملات المُشفرة في 13 يونيو 2022 إلى أقل من تريليون دولار، وهو المستوى الأدنى لها منذ أوائل عام 2021. 

وأخذاً في الاعتبار أن العملات المُشفرة أصول مُتقلبة بطبيعتها، يبدو أن التذبذب في قيمها السوقية أمراً مُتوقعاً، وليس بالجديد، فبالرغم من هبوطها في الأسابيع الأخيرة، فإنها قد تسترد عافيتها وتشهد ارتفاعاً على المدى القصير في أفضل السيناريوهات. بيد أنه من غير المرجح بلوغ العملات المُشفرة مستوياتها القياسية التي تحققت سابقاً، خاصةً في ظل تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية، وتشديد السياسة النقدية الأمريكية.

أسباب التراجع:

تراجعت أسعار معظم العملات المُشفرة، وعلى رأسها عملة "البيتكوين، وهي معيار رئيسي لتتبع أداء سوق العملات المُشفرة عالمياً. وانخفضت أسعار البيتكوين منذ بداية العام الجاري وحتى نهاية يونيو 2022، بما نسبته 60% تقريباً، ليتم تداولها عند مستويات أقل من 20 ألف دولار في الفترة الأخيرة. ويمكن توضيح أهم عوامل تراجع أسعار العملات المُشفرة، في الآتي:


1- تغيرات في الاقتصاد العالمي: 

أ- أوضاع اقتصادية مُضطربة: يأتي التراجع في أسعار العملات المُشفرة وسط بيئة اقتصادية عالمية مُضطربة بسبب الحرب الأوكرانية. ويسود اعتقاد لدى الأوساط الاقتصادية بأن الاقتصاد العالمي بات على عتبة دخول مرحلة الركود في وقت قريب، والذي يصاحبه ارتفاع في مستويات التضخم العالمية، إلى جانب تذبذب أسواق الأسهم أيضاً.

ب- رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة: رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة ثلاث مرات هذا العام، كان آخرها في يونيو 2022 بنحو 75 نقطة أساس، وهي أعلى زيادة للفائدة منذ عام 1994؛ الأمر الذي يؤثر بدوره سلباً على حجم السيولة في أسواق المال، وأيضاً على مستويات الطلب على أصول المُضاربة والأصول الخطرة والمُتقلبة مثل، العملات المُشفرة. 

ج- ضعف رغبة المستثمرين في المخاطرة: يميل المستثمرون في ظل الظروف العالمية الراهنة إلى الابتعاد عن الاستثمار في الأصول الخطرة أو المُتقلبة، ومنها العملات المُشفرة، في مقابل اللجوء إلى الملاذات الآمنة مثل الذهب.

2- تحديات تتعلق بالعملات المُشفرة:

أ- خلل مُركب في سوق العملات المُشفرة: شهدت عمليات تداول عدد من العملات المُشفرة انهياراً حاداً في الفترة الماضية، مثل عملة "تيرا" والتي تُصدرها شركة "تيرا فورم لابس"، وعملة "لونا"؛ وكان ذلك إما لأسباب تقنية أو شح السيولة في السوق. وتعرضت "لونا"، التي بلغ حجم تداولها في السابق نحو 40 مليار دولار، لهبوط حاد إلى مستويات قاربت الصفر في مايو 2022.

ب- تراجع جاذبية الاستثمار فيها: بات الاستثمار في العملات المُشفرة أقل جاذبية، مع الانخفاض الحاد في قيمتها السوقية. فعلى سبيل المثال، تراجعت أعداد العملاء المُنكشفين على أصول العملات المُشفرة لدى "بنك أوف أمريكا"، إلى أقل من 500 ألف عميل في مايو 2022، وذلك مقارنةً بحوالي مليون عميل في نوفمبر 2021؛ حيث كانت العملات المُشفرة في أعلى مستوى لها.

ج- وقف الدعم السخي لهذه العملات: أحبطت أوضاع السوق الشركات ومنصات التداول الخاصة بالعملات المُشفرة، وجمدت الكثير منها عمليات تمويل شراء الأصول المُشفرة أو حتى بيعها. فعلى سبيل المثال، أوقفت شركة إقراض العملات المُشفرة "سيلزيوس" عمليات السحب والتحويلات بين الحسابات في يونيو 2022، وبعد ذلك بشهر واحد أعلنت الشركة إفلاسها. كما علقت شركة الوساطة "فوياجير ديجيتال" عمليات التداول والإيداع والسحب مؤقتاً. وعلى المنوال نفسه، أوقفت شركة "بابل فاينانس" عمليات سحب الأصول.

وفي السياق ذاته، أمرت محكمة في جزر فيرجن البريطانية بتصفية صندوق تحوط العملات المُشفرة "ثري آروز كابيتال" بعد إخفاقه في السداد للدائنين؛ نتيجة مشاكل تتعلق بالسيولة. فيما أعلنت بورصة "كوين بيز" للأصول المُشفرة عن تسريح 18% من قوتها العاملة. وبالمثل، خفضت منصة التشفير "بت أويسيس"، والتي تعتبر الأكبر في الشرق الأوسط، موظفيها بنحو 7%.

د- تشديد البيئة التنظيمية: على سبيل المثال، فرضت الهند ضرائب على الأصول الرقمية دخلت حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2022. وأدت هذه الضرائب إلى التأثير سلباً على أحجام التداول اليومي في عدد من بورصات الأصول المُشفرة ومنها "زيباي"، و"وزيرإكس"، و"كوين دي سي إكس"، وتراجعت قيم التداول الإجمالية للعملات المُشفرة في الهند بنسب تجاوزت الـ 60%. كذلك، اتفق البرلمان والمجلس الأوروبيان على إلزام مُزودي خدمات التشفير بتقديم معلومات بشأن جميع المعاملات؛ بهدف تتبع عمليات تحويل العملات المُشفرة، وحظر المعاملات غير القانونية. 

هبوط مُستمر:

تذهب التقديرات إلى أن العملات المُشفرة ستتعرض لضغوط بيعية متواصلة على المدى القصير، وسيتم تداول البيتكوين مثلاً عند مستويات تتراوح بين 18 و22.5 ألف دولار، وفقاً لبعض الخبراء، في حين توقعت شركة "تالاباكن كابيتال" استمرار تراجع هذه العملة إلى مستويات أقل من 15 ألف دولار. وهناك بعض العوامل التي تشير إلى استمرار ضعف أداء العملات المُشفرة، ومنها الآتي:

1- استمرار تشديد السياسة النقدية الأمريكية: من المُقرر أن يرفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، بناءً على رؤيته المُعلنة خلال اجتماعه في يونيو الماضي، إلى 3.4% في العام الجاري، مقارنةً بنحو 1.9% وفقاً لتوقعاته في مارس الماضي، على أن تصل أسعار الفائدة إلى حوالي 3.8% في عام 2023، مقارنةً بـ 2.8% وفقاً لتوقعاته السابقة. وطبقاً لنتائج مسح أجرته "بلومبرج ماركتس"، أوضح 19.1% من المشاركين في الاستطلاع أن الأصول المُشفرة تعد الأكثر عُرضة لمخاطر التشديد الكمي.

2- ارتفاع أسعار الطاقة: تعاني منصات تداول المُشفرة من تدهور البيئة التشغيلية، حيث ارتفعت تكاليف التعدين في ضوء الزيادات القياسية في أسعار الطاقة العالمية، إلى جانب انخفاض التدفقات النقدية وارتفاع مستويات ديونها نتيجة شح السيولة بالسوق؛ وهو الأمر الذي من المُتوقع أن يستمر خلال الربع الثالث من العام الجاري، مما سيؤثر على أسعار وتداول العملات المُشفرة لبعض الوقت.

وفي ضوء تلك المعطيات، باعت شركة "كور ساينتيفيك"، والتي تعتبر إحدى أكبر شركات تعدين العملات المُشفرة في العالم، معظم ممتلكاتها من عملة البيتكوين خلال شهر يونيو 2022، في ظل الضغوط المالية الواقعة على الشركة.

تعاف مُحتمل:

على الرغم من التوقعات المُتشائمة سالفة الذكر، تشير تقديرات أخرى إلى أن قيمة العملات المُشفرة في طورها للتعافي التدريجي، ولكنها لن تصل في نهاية المطاف إلى المستويات القياسية التي بلغتها في الأشهر الأخيرة من العام الماضي؛ وذلك بالنظر للعوامل التالية:

1- توقعات مُتفائلة بشأن البيتكوين: تسيطر عملة البيتكوين على الحصة الأكبر من سوق العملات المُشفرة، وتشير بعض التقديرات إلى أن البيتكوين مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، حيث يرى بنك "جي بي مورجان" الاستثماري أن القيمة العادلة للبيتكوين هي 38 ألف دولار، وعليه يتبنى البنك نظرة متفائلة بشأن مستقبل العملة ويتوقع اتجاهاً صعودياً في أسعارها.

كما يتوقع بنك "دويتشه" أن سعر البيتكوين قد يرتفع إلى 28 ألف دولار بحلول نهاية العام الجاري، ولكنها ستظل بذلك عند مستوى أقل مما كانت عليه في نوفمبر 2021 حين بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق عند حوالي 69 ألف دولار.


2- حدوث انخفاض مؤقت في أسعار العملات المُشفرة: يشير بعض المحللين إلى أن الانخفاض في أسعار العملات المُشفرة ما هو إلا تحرك عارض يعود إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية. ومن ثم فإنه بمجرد احتواء الموجة التضخمية وتيسير السياسة النقدية، ستعود أسعار هذه العملات إلى الارتفاع مجدداً.

3- إعادة تنظيم أسواق العملات المُشفرة: بدأت بعض الدول محاولات لوضع أُطر تنظيمية لأسواق العملات المُشفرة، مما يجعلها أصولاً أكثر أماناً للمستثمرين، ويعطى مزيداً من الثقة في سوق هذه العملات. فمثلاً، قامت نيجيريا، والتي تعتبر واحدة من أكبر أسواق الأصول الرقمية عالمياً، بإصدار قواعد جديدة لتنظيم عمل الأصول الرقمية، ما سيُسهم في تعزيز التداولات في سوق العملات المُشفرة.

4- تبنٍ موسع للعملات المُشفرة في المعاملات: على الرغم من العقبات المختلفة، تحظى العملات المُشفرة، وعلى الأخص البيتكوين، بقبول يتسع تدريجياً في العالم. وتبنت بعض دول العالم البيتكوين كعملة رسمية على غرار السلفادور، وأفريقيا الوسطى؛ وهي خطوة ستكسبها زخماً كبيراً في المستقبل. كما تقبل الشركات البيتكوين كعملة للمدفوعات، وتسوية معاملات الشراء. ويتوقع الخبراء أن تشهد الفترة المُقبلة مزيداً من الشركات التي تتبنى العملات المُشفرة كوسيلة للدفع، مما يؤدي إلى المزيد من حالات الاستخدام اليومي، وبالتالي سيدعم أسعار العملات المُشفرة.

5- وجود طلب سياسي على هذه العملات: لجأت روسيا وأوكرانيا للتوسع في استخدام العملات المُشفرة، في ضوء ظروف الحرب الراهنة. فمن ناحية، تعتبرها كييف وسيلة لتلقي التبرعات، فيما اتخذت موسكو الأصول المُشفرة كإحدى الطرق للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية.


تغيرات هيكلية: 

تُدحض التراجعات الأخيرة التي شهدتها العملات المُشفرة، التوقعات المُتفائلة بشأن مستقبلها كعملة رئيسة في النظام المالي العالمي، أو اعتبارها من قِبل بعض المستثمرين "ذهباً رقمياً"، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:

1- ليست ذهباً رقمياً: ليس هناك سوى 21 مليون عملة بيتكوين قابلة للتعدين في العالم، أي أن ثمة محدودية في المعروض منها، ومكاسب استثمارية كبيرة؛ الأمر الذي عوّل عليه بعض المستثمرين لكي تكون العملة أداة استثمارية ليس كمخزن للقيمة فقط، وإنما للتحوط ضد التضخم. ولكن أداء هذه العملة المُتراجع، أثّر سلباً على نظرة المستثمرين للبيتكوين لاحقاً كذهب رقمي.

2- تهديد المكانة: في السابق، زادت التكهنات بأن العملات المُشفرة ستلعب دوراً متزايداً في نظام مالي عالمي جديد، سينحسر فيه دور العملات الرئيسية مثل الدولار الأمريكي في تسوية المعاملات. لكن التقلبات المُستمرة للعملات المُشفرة، دحضت تلك الآراء، وبالتالي هي لن تُمثل في النهاية تهديداً لمكانة الدولار أو باقي العملات الرئيسية الأخرى، سواء كوسيط في التبادل التجاري، أو كعملة احتياطية، لاسيما في المستقبل القريب.

ختاماً، يُمكن القول إن التطورات الأخيرة في سوق العملات المُشفرة تكشف عن أنها أصول عالية المخاطر، وأن ما شهدته من ارتفاعات خلال عام 2021 لم يكن سوى "فقاعة مُضاربة"، وتضع بذلك حداً أمام الساعين إلى أن تكون العملات المُشفرة ركناً رئيسياً في منظومة مالية عالمية جديدة.