أعلنت الحكومة البريطانية، في 14 أبريل 2022، عن توصلها إلى اتفاق مع الحكومة الرواندية؛ يقضي بإرسال المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء الذين يعبرون المانش، إلى رواندا، وذلك في محاولة لوضع حد للتدفقات غير المسبوقة من المهاجرين غير الشرعيين إلى بريطانيا. ومن المقرر أن تركز الخطة في المرحلة الأولى على الرجال غير المتزوجين الذين عبروا القنال الإنجليزي في قوارب أو شاحنات من فرنسا بداية من يناير 2022.
وعلى الرغم من أن هذه الخطة تعد جزءاً من استراتيجية أوسع لتقليل عدد الأشخاص الذين يدخلون المملكة المتحدة بطرق غير قانونية، فإنها أثارت جدلاً واسعاً داخل بريطانيا وخارجها؛ ففيما قال عنها رئيس الوزراء، بوريس جونسون، إنها "ستنقذ أرواحاً لا تعد ولا تحصى من عصابات الإتجار بالبشر"، وصفها نشطاء ومعارضون وجمعيات خيرية بأنها "خطة غير إنسانية" و"قاسية" و"منافية للطبيعة الإلهية".
دوافع لندن:
ثمة دوافع عديدة ربما تكون وراء توجه الحكومة البريطانية نحو إرسال المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يعبرون المانش إلى رواندا، ويمكن إبرازها في النقاط التالية:
1- تقليل أعداء المهاجرين غير الشرعيين إلى بريطانيا: شهد عام 2021 تصاعداً غير مسبوق في أعداد المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء القادمين إلى المملكة المتحدة؛ حيث دخل 28,526 شخصاً بريطانيا العام الماضي في قوارب صغيرة، بينما لم يتجاوز العدد 8804 في عام 2020. وفي شهر مارس 2022، وصل أكثر من 3 آلاف شخص عبر المانش، مقارنة بنحو 831 في مارس من العام الماضي. ومع ارتفاع أعداد المهاجرين، تشير التقديرات إلى احتمال وصول ما يزيد على 1000 شخص يومياً إلى بريطانيا خلال الأسابيع القادمة.
2- تأمين الحدود البحرية البريطانية وتقويض نشاط "تُجَّار البشر": لا تتوقف خطة لندن عند حد إرسال المهاجرين إلى كيجالي فحسب، بل سيتولى سلاح البحرية البريطانية القيادة العملياتية لمراقبة الهجرة عبر المانش من وكالة أمن الحدود البريطانية؛ وذلك بهدف عدم السماح بوصول أي قارب إلى المملكة المتحدة دون اكتشافه. وفي هذا الصدد، تم تخصيص تمويل إضافي لسلاح البحرية البريطانية يصل إلى 50 مليون جنيه إسترليني لدعم القوات والطائرات ومعدات الاستطلاع لمراقبة المانش واعتقال مهربي البشر عبر البحر، خاصة بعد إقرار الخطة زيادة الحد الأقصى لعقوبة السجن لمُهربي البشر إلى السجن مدى الحياة، وبما يساهم في تقويض نشاطهم وقدراتهم على المخاطرة بإرسال مزيد من المهاجرين عبر القنال.
3- تحسين نظام اللجوء في المملكة المتحدة: كان نظام اللجوء البريطاني يضطر للتعامل مع مزيج من المهاجرين القادمين من مناطق صراعات ويعانون أزمات إنسانية، وآخرين يتم إرسالهم عبر عصابات الإتجار بالبشر الذين استغلوا نظام اللجوء لتحقيق مكاسبهم الخاصة. ومن ثم فإن الخطة الجديدة تستهدف، وفقاً للندن، كسر النموذج التجاري لمُهربي البشر وتعطل تدفق الهجرة غير الشرعية، مع فتح المجال للطرق الآمنة والقانونية لدخول المملكة المتحدة، وبما يساهم في حصر أعداد اللاجئين وقصرهم على القادمين بطرق شرعية وآمنة.
دلالات الخطة:
عكست خطة لندن لإرسال المهاجرين واللاجئين القادمين عبر المانش إلى رواندا، عدداً من الدلالات المهمة، منها الآتي:
1- ضعف المنظومة الأمنية في مواجهة التدفقات المتزايدة من المهاجرين وطالبي اللجوء، وفقدان حكومة جونسون للقدرة على ضبطها والسيطرة عليها، على الرغم من وعدها بإيجاد حل لها في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لذلك لجأت حكومة لندن إلى الحل الأسهل وهو إبعاد الأزمة بدلاً من مواجهتها، ونقل مسؤوليتها إلى طرف ثالث "رواندا"، في مقابل تحمل التكلفة المالية المصاحبة لذلك. كما تمثل هذه الخطة محاولة حكومية لتقديم حل "مبتكر/ خارج الصندوق"، من وجهة نظر لندن، لقضية مستعصية بهدف استعادة الشعبية المتراجعة لحزب المحافظين ورئيس الوزراء جونسون، خاصة في ظل الانتقادات التي أُثيرت ضده في الفترة الماضية ووصلت إلى حد المطالبة باستقالته بعد ظهوره في حفلة بدوانينج ستريت دون التقيُّد بقيود فيروس كوفيد-19 التي فرضتها حكومته خلال فترة الإغلاق الصحي، وتمويل تجديد مقر إقامته، وهو ما أدى إلى تراجع نسب تأييد حزب المحافظين إلى أدنى مستوى لها في ديسمبر 2021.
2- رغبة بريطانيا في تقليل الاعتماد على فرنسا فيما يتعلق بصد المهاجرين، حيث إنه من المعروف أن حكومتي لندن وباريس تعملان منذ سنوات على إيقاف الرحلات عبر الممرات المائية، لكن دون نجاح كبير، وغالباً ما تتبادلان الاتهامات حول المسؤول عن هذا الفشل. ولذا طرحت حكومة جونسون مقترحات، بالتعاون مع فرنسا، لمواجهة تلك الأزمة، لكن لم تكن جميعها قابلة للتطبيق، بما في ذلك بناء "آلة موجية" في قناة المانش لإعادة القوارب، وهو ما قُوبل برفض فرنسي للفكرة باعتبارها "خطيرة للغاية" وتُعيد السفن إلى فرنسا مرة أخرى.
تحديات التنفيذ:
تواجه الخطة البريطانية العديد من التحديات القانونية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية، ناهيك عن الاعتراضات من العديد من الأحزاب والجهات حتى من داخل حزب المحافظين نفسه، مثل رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي، التي أعلنت في 19 أبريل الجاري رفضها للخطة؛ لمخاوفها من أنها لا تفي بمعايير "الشرعية والعملية والفعَّالية". ويمكن رصد هذه التحديات في النقاط التالية:
1- وجود عقبات قانونية في ضوء اتهامات لرواندا بانتهاك حقوق الإنسان: يسهِّل مشروع "قانون الجنسية والحدود"، والذي من المتوقع أن يصبح قانوناً الشهر المقبل، على المملكة المتحدة إرسال اللاجئين إلى الخارج لمعالجة طلبات اللجوء، لكن يجب أن تكون الدولة "آمنة". كما أن بريطانيا من الدول الموقعة على معاهدتين دوليتين رئيسيتين لضمان حقوق اللاجئين؛ هما "اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين" والتي تحمي الأشخاص من إرسالهم إلى بلد يواجهون فيه تهديدات خطيرة للحياة أو الحرية، وكذلك "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان" والتي تنص على أنه لا يجوز إخضاع أي شخص للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة.
لذلك إذا كان هناك خطر من تعرُّض شخص لسوء المعاملة في رواندا، فلا يمكن إرساله إلى هناك. وثمة اتهامات تُوجه لكيجالي بممارسة انتهاكات في مجال حقوق الإنسان، وأعربت المملكة المتحدة نفسها في العام الماضي عن قلقها إزاء "استمرار القيود المفروضة على الحقوق المدنية والسياسية وحرية الإعلام" في هذا البلد. فيما تتصاعد انتقادات جماعات حقوق الإنسان داخل بريطانيا ضد كيجالي بسبب طريقة تعاملها مع منتقدي الحكومة، فضلاً عن سوء المعاملة أثناء الاحتجاز، ومزاعم الاختفاء والوفيات المشبوهة.
وبالتالي، كشفت الانتقادات الموجهة للحكومة البريطانية في هذا السياق، عن حالة التناقض التي تعيشها، حيث إنه قبل 10 أشهر فقط من توقيع الاتفاق مع كيجالي، انتقدت المملكة المتحدة "فشل السلطات الحاكمة في رواندا في التحقيق بانتهاكات لحقوق الإنسان أو في حماية ضحايا الإتجار بالبشر"، ثم بعد توقيع الاتفاق الجديد وصف جونسون رواندا بأنها "واحدة من أكثر البلدان أماناً"، في حين أن المملكة المتحدة، في الوقت ذاته، تمنح حق اللجوء للروانديين الفارّين من الاضطهاد السياسي.
2- تصاعد الاعتراضات الداخلية على خطة لندن: منذ الإعلان عن هذه الخطة في 14 أبريل 2022، قُوبلت بانتقادات واعتراضات من العديد من الجهات السياسية والمدنية والحقوقية وحتى بعض الشخصيات الدينية في بريطانيا. إذ وصفت المنظمات الحقوقية والمعنية بشؤون اللاجئين الخطة بأنها "قاسية وغير إنسانية"، وتمثل "انتهاكاً للقانون الدولي". فيما قال حزب الديمقراطيين الأحرار إن الحكومة "تغلق الباب" في وجه اللاجئين، بينما وصفها الحزب الوطني الأسكتلندي بأنها خطة "مروعة للغاية"، كما وقَّعت أكثر من 160 جمعية على رسالة مفتوحة لرئيس الوزراء، جونسون، تصف الخطة بأنها "غير مدروسة"، وتحذر من أنها ستتسبب في "زيادة الرحلات الخطيرة، وليس تخفيضها". فيما وصفها مؤخراً كبير أساقفة كانتربيري، جاستن ويلبي، في عظته بمناسبة عيد الفصح، بأنها "نقيض طبيعة الرب".
3- التكلفة العالية والمردود الضعيف للخطة: تواجه خطة لندن تحدياً مهماً فيما يتعلق بارتفاع تكلفتها في مقابل ضعف فعَّاليتها في مواجهة أزمة الهجرة غير الشرعية. فبموجب الاتفاق، دفعت المملكة المتحدة للحكومة في كيجالي 120 مليون جنيه إسترليني لإسكان المهاجرين وإدماجهم كجزء من المخطط التجريبي، الذي سيستمر مبدئياً لمدة 5 سنوات، فضلاً عن تمويل التكاليف، والتي ستكون مماثلة لتلك المُتكبدة في المملكة المتحدة، والتي تتراوح ما بين 20 إلى 30 ألف جنيه إسترليني لكل مهاجر سيتم إرساله إلى رواندا.
وتُثار في هذا الصدد مخاوف من ألا يؤدي هذا الإنفاق الكبير إلى تقليل أعداد المهاجرين في بريطانيا أو توطين أعداد كبيرة منهم في رواندا؛ خاصة في ظل وجود تجارب دولية سابقة لم تحقق نجاحاً ملحوظاً. فعلى سبيل المثال، بلغت تكلفة برنامج مماثل في أستراليا ما يُقدَّر بنحو 460 مليون جنيه إسترليني في عام 2021، لكنه لم ينجح إلا في إعادة توطين 239 شخصاً فقط وبتكلفة بلغت حوالي 1.9 مليون جنيه إسترليني للفرد الواحد؛ وهو ما يزيد القلق من أن الخطة البريطانية ستزيد معاناة اللاجئين وبتكلفة مرتفعة يتحملها دافعو الضرائب البريطانيين.
4- احتمالية عدم تمرير مشروع قانون الجنسية والحدود في البرلمان البريطاني: من المقرر عند عودة النواب في بريطانيا من إجازتهم السنوية، أن يراجعوا سلسلة من التعديلات، بما في ذلك مشروع قانون الجنسية والحدود المبني عليه خطة حكومة جونسون للتعامل مع الهجرة غير الشرعية. لكن في ظل الاعتراضات التي تواجه الخطة، سواء بشأن عدم إنسانيتها أو حتى حدود فاعليتها في مقابل تكلفتها المرتفعة، فضلاً عن سلسلة الهزائم التي مُني بها قانون الجنسية مؤخراً في مجلس اللوردات؛ فمن المحتمل ألا يتم تمرير هذا القانون، ومن ثم إمكانية إعادة النظر في خطة الحكومة نفسها بشأن المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء.
مسارات مُحتملة:
في حال تمرير مشروع قانون الجنسية والحدود في مجلس اللوردات البريطاني، فإن الخطة ستواجه مسارين مُحتملين؛ إما النجاح أو الفشل في تقويض أعداد المهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى المملكة المتحدة، وستكون لكل مسار تداعيات داخلية وإقليمية مُحتملة، كالتالي:
1- سيناريو نجاح خطة لندن: من المتوقع أن تساهم الخطة في هذه الحالة في رفع أسهم حكومة جونسون لدى الرأي العام الداخلي في المملكة، خاصة إذا تم تأمين أوضاع إنسانية وحياة كريمة لطالبي اللجوء داخل رواندا، وهو ما قد يؤدي إلى تخفيف حدة الانتقادات الموجهة ضدها، وسيمثل إضافة لحكومة المحافظين ويُعيد إليهم بعض من شعبيتهم في الانتخابات المقبلة. كما أن تجربة لندن قد تكون دافعاً لعدد من الدول الأخرى في أوروبا لحذو حذوها، خاصة في ظل إقرار البعض مثل الدنمارك قانوناً يسمح للسلطات بنقل طالبي اللجوء إلى دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي أثناء مراجعة قضاياهم. كما قد تكون المجر مهتمة أيضاً بمثل هذه السياسة.
من ناحية أخرى، إذا دخلت اتفاقية المملكة المتحدة ورواندا حيز التنفيذ، من المرجح أن تكون لها تأثيرات على فرنسا؛ وذلك لأن طالبي اللجوء الذين سيرفضون عبور المانش إلى بريطانيا، تجنباً للترحيل إلى رواندا، سيقدمون طلبات اللجوء في فرنسا بدلاً من ذلك، وبما سيضيف مزيداً من الأعباء على باريس.
2- سيناريو فشل الخطة: هذا أمر متوقع، وفي هذه الحالة ستكون لذلك ارتدادات خطيرة على حكومة جونسون، خاصة مع تزايد الانتكاسات التي تتعرض لها. كما تتمثل خطورة هذا الفشل أيضاً في أنه قد يؤدي إلى تفاقم أزمة المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء بشكل أكبر، ودفعهم إلى البحث عن طرق بديلة لدخول المملكة المتحدة بشكل غير شرعي. ومن ثم قد يلجأ مُهربو البشر إلى بدائل ربما غير معلومة لقوات البحرية البريطانية، من أجل دخول المملكة، وبما يضاعف من خطورة تلك الأزمة بدلاً من حلها.
ختاماً، يمكن القول إن مخاطرة حكومة جونسون بخطة إرسال المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء إلى دولة ثالثة هي رواندا، ربما تكون غير محسوبة، خاصة أن مُحفِّزات فشل الخطة حتى الآن أكبر من نجاحها؛ وهو ما يجعلها أقرب إلى مراهنة سياسية خطيرة تهدد شعبية حزب المحافظين وبقائه في السلطة، كما قد تسيء إلى صورة لندن في الخارج، في ظل الانتقادات الحقوقية للخطة ووصفها بعدم الإنسانية.