قام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بزيارة إلى الجزائر، في 30 مارس 2022، في ختام جولته التي أجراها إلى الشرق الأوسط، في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أمريكي إلى الجزائر منذ عام 2000. وتأتي هذه الزيارة في ظل الصراع الأوكراني الراهن، كما أنها تأتي في أعقاب الزيارة التي قام بها وفد عسكري روسي للجزائر قبيل أيام قليلة من زيارة بلينكن.
متغيرات إقليمية ودولية:
تأتي زيارة بلينكن للجزائر في إطار جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- زيارة وفد روسي للجزائر: سبقت زيارة بلينكن إلى الجزائر زيارة وفد عسكري روسي، برئاسة مدير المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني، دميتري شوجاييف، إلى الجزائر، في 23 مارس 2022، حيث التقى خلالها رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق السعيد شنقريحة، وبحضور قيادات الجيش الوطني الجزائري والسفير الروسي لدى الجزائر، في أول زيارة لمسؤول روسي منذ بداية الصراع الأوكراني.
ويأتي اجتماع الوفد العسكري الروسي مع قائد الجيش الجزائري، ختاماً للزيارة التي قام بها هذا الوفد إلى الجزائر، والتي امتدت خلال الفترة بين 23 و25 مارس الماضي، وذلك لحضور الاجتماعات العادية للجنة الحكومية الروسية – الجزائرية المشتركة، والتي تستهدف تعزيز التعاون العسكري والتقني بين الجانبين، وبالتالي، فهي زيارة اعتيادية بين الجانبين، وإن كان لا ينفي أنها تكتسب أهمية في ضوء محاولة موسكو التأكيد على استمرار دورها الخارج، وعدم تراجعه بسبب انشغالها بالأزمة الأوكرانية، ولعل ما أكد هذا المعنى إعلان الجيش الروسي في 5 أبريل إجراء مناورات مشتركة لمكافحة الإرهاب للقوات البرية الروسية والجزائرية ستجري في نوفمبر 2022.
2- اهتمام أوروبي مكثف بالجزائر: شهدت الأسابيع الأخيرة زيارات مكثفة من قبل مسؤولين غربيين إلى الجزائر، حيث بدأت بزيارة وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، في فبراير الماضي، وكذا زيارة وزير الخارجية البرتغالي، أوجوستو سانتوس سيلفا، ونائبة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، في مارس الماضي، فضلاً عن الزيارة التي كان وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، قد قام بها للجزائر في مطلع 2022، بالإضافة إلى المكالمة الهاتفية التي أجراها رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، مع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، فيما تم تأجيل زيارة وزير رئيس الحكومة الفرنسية، جون كاستاكس، والتي كانت مقرره في 23 مارس الماضي.
3- زيارة عربية مرتقبة لروسيا: أعلن السفير الروسي لدى الجزائر، إيجور بيليايف، أن لجنة عربية وزارية تضم وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، ستقوم بزيارة إلى موسكو خلال الأيام المقبلة، لبحث جهود تسوية الأزمة الأوكرانية، وذلك تنفيذاً لمخرجات اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، والذي بحث أبعاد وتداعيات هذه الأزمة، خاصةً في ظل الانعكاسات التي بدأت تتمخض عنها على السياق العربي.
أهداف أمريكية متعددة:
تعكس زيارة بلينكن إلى الجزائر، بعد أكثر من عقدين من انقطاع أي زيارات لوزير خارجية أمريكي لها، عن جملة من الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- دفع الجزائر لمراجعة علاقاتها مع روسيا: هناك مساعٍ أمريكية لدفع الجزائر لمراجعة علاقاتها مع روسيا، حيث أشار بلينكن، خلال زيارته إلى الجزائر، إلى أن دول الشرق الأوسط عانت كثيراً من الدور الروسي في سوريا وليبيا، فضلاً عن انعكاسات الأزمة الراهنة في أوكرانيا على ملف الطاقة والأمن الغذائي، مشيراً إلى أنه يتوجب على المجتمع الدولي زيادة الضغط على موسكو لدفعها لإنهاء الحرب في أوكرانيا، كما ألمح بلينكن بعد لقائه بالرئيس الجزائري، عبدالمجيد تبون، إلى ضرورة أن تدفع الأزمة الأوكرانية مختلف الدول إلى إعادة تقييمها لعلاقاتها مع روسيا.
ويعول الموقف الغربي في ذلك على لجوء الجزائر إلى تنويع مصادر تسليحها العسكري خلال السنوات الأخيرة، من خلال اللجوء إلى تعزيز أسطولها البحري بعدد من السفن الصينية والفرنسية والألمانية والإيطالية، فضلاً عن شرائها لعدد من المروحيات من بريطانيا وإيطاليا.
ويتجاهل هذا الطرح العلاقات الاستراتيجية بين موسكو والجزائر، حيث تعد الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي، إذ تعتمد على موسكو في تسليح قواتها المسلحة بنحو 50%، يضاف لذلك حجم التفاهمات الإقليمية بينهما، خاصة فيما يتعلق بالملف السوري، إذ إن الجزائر تؤيد عودة دمشق إلى الجامعة العربية، بخلاف المواقف الأمريكية.
2- زيادة إمدادات الغاز الجزائري: يبدو أن هناك محاولة أمريكية لإقحام الجزائر في الصراع الأوكراني، وذلك من خلال إقناعها بزيادة حجم إمداداتها من الغاز لأوروبا، في ظل المحاولات الغربية لتقليل اعتماده على الغاز الروسي.
وأشارت بعض التقديرات إلى أن زيارة بلينكن كانت تستهدف محاولة إقناع الجزائر بإعادة فتح خط الغاز "ميدغاز" الذي يمر عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا، والتي كانت الجزائر قد أعلنت وقفه قبل عدة أشهر، بسبب تصاعد حدة التوترات القائمة مع الرباط. وطلبت نائبة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، من الجزائر إعادة فتح هذا الخط، كما تضمنت زيارات الوفود الأوروبية المختلفة محاولة إقناع الجزائر لإعادة النظر في موقفها الرافض لإعادة فتح هذا الخط، غير أن هذه الجهود باءت بالفشل.
ويتمثل السبب الرئيسي للموقف الجزائري في اعتراف الولايات المتحدة وإسبانيا بسيادة المغرب على الصحراء المغربية، الأمر الذي أزعج الجزائر بسبب دعمها لجبهة البوليساريو، وهو ما يجعل من الصعب عليها القبول بالمطالب الغربية، والتي ستكون بمنزلة تفريط مجاني في المصالح الجزائرية لتأمين المصالح الغربية.
3- ضمان الالتزام بالإمدادات القائمة: أشارت تقارير غربية إلى أن زيارة بلينكن إلى الجزائر، ومن قبله عدد من المسؤولين الأوروبيين، تستهدف الحصول على ضمانات من الجزائر للتأكد من أنه حتى في حال تمسكهم بعدم زيادة إمداداتها من الغاز لأوروبا، فإنها سوف تلتزم بتسليم الكميات المتفق عليها، خاصةً في ظل التوترات الراهنة بين الجزائر وإسبانيا، على خلفية المتغيرات التي طرأت على موقف الأخيرة إزاء ملف الصحراء المغربية.
وتشعر القوى الأوروبية بالقلق من العلاقات الوثيقة بين روسيا والجزائر، واحتمالات أن يؤثر ذلك على قرارات الأخيرة خلال الفترة المقبلة، على الرغم من التأكيدات الجزائرية المتكررة بأنها تمثل مصدراً آمناً للطاقة، وأنها ستلتزم بعقود التوريد المتفق عليها إلى أوروبا، وإن أكدت أنها لا تمتلك أي فوائض كبيرة يمكن من خلالها تعويض الغاز الروسي.
مواقف جزائرية محتملة:
يمكن رسم ملامح الموقف الجزائري من المطلب الغربية في النقاط التالية:
1- تمسك الجزائر بالحياد: لا يتوقع أن تتجه الجزائر إلى تغيير موقفها من الصراع الأوكراني، خاصة في ظل سعيها للوساطة بين روسيا وأوكرانيا عبر المجموعة العربية، وفي ظل ما يجمع البلدين من علاقات قوية، بالإضافة إلى تبني الدول الغربية لمواقف أضرت بالمصالح الجزائرية في نزاعها مع المغرب.
2- رفض استبدال الغاز الروسي: تعد الجزائر هي ثالث أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من إعلان شركة سوناطراك الجزائرية استعدادها لزيادة حجم صادراتها إلى أوروبا، بيد أن ثمة تحديات تواجه ذلك، خاصةً في ظل استمرار إغلاق خط الغاز الجزائري المار عبر الأراضي المغربية.
كما أن الجزائر لا تستطيع زيادة حجم إمداداتها من الغاز بسبب وصول صادراتها إلى كامل طاقتها بالفعل، من خلال استخدام خطي الأنابيب التي تمتلكها، بالإضافة إلى أربعة خطوط أخرى للغاز المسال. ويبلغ الاحتياطي السنوي للجزائر من الغاز حوالي 700 – 800 مليون متر مكعب، وكانت الجزائر تضخها في السابق عبر خط ميدغاز، المتوقف حالياً. وحتى وإن تمكنت الجزائر من ضخ هذه الكميات عبر خطي الأنابيب لأوروبا، فإن هذه الكمية لن تكون مجدية كثيراً لتلبية احتياجات الأوروبيين، إذ إن الاتحاد الأوروبي استورد نحو 155 مليار متر مكعب من روسيا في عام 2021 فقط.
ويلاحظ أن الجزائر تبدو راغبة في الاستفادة من تنامي حجم الاهتمام الغربي بدورها في مجال الطاقة، وانعكاس ذلك على زيادة الاستثمارات الأجنبية لديها، ولكن هذا لن يغير كثيراً توجهات السياسية الخارجية الجزائرية التي تميل إلى تبني الحياد في الأزمات الدولية، والحفاظ على علاقاتها الوثيقة بروسيا.
3- زيادة سعر الغاز لإسبانيا: أعلنت شركة سوناطراك، في مطلع أبريل الجاري، عدم استبعاد إمكانية إعادة النظر في أسعار الغاز المصدر لإسبانيا، وذلك على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة، فضلاً عن التوترات بين البلدين بسبب إعلان مدريد تبنيها موقف المغرب فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية.
ومن المتوقع أن يكون لهذا الأمر تداعيات سلبية على الاقتصاد الإسباني الذي يعاني كثيراً من التصاعد الحاد في أسعار الطاقة. ويبدو أن هذا الملف كان أحد محاور المناقشات التي أجراها بلينكن مع المسؤولين الجزائريين، في ظل مخاوف من أن تلجأ الجزائر لوقف إمداداتها لمدريد، ما قد يمثل عاملاً إضافياً في تفاقم أزمة إمدادات الغاز إلى أوروبا، وربما يكون سيناريو رفع أسعار الغاز الجزائري المصدر لإسبانيا هو أحد المسارات التوافقية التي تم التوصل إليها.
وفي الختام، تسبب الصراع الأوكراني في ارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما حقق للجزائر دخلاً كبيراً يساعدها على تجنب التداعيات السلبية للصراع، خاصة ارتفاع أسعار الغذاء، وعلى الرغم من المحاولات الغربية للتأثير على الموقف الجزائري من الصراع الأوكراني أو روسيا، فإن هذه الجهود لن يكتب لها النجاح، خاصة في ضوء العلاقة الوثيقة التي تجمع الجزائر وموسكو، فضلاً عن اعتراف الدول الغربية بمغربية الصحراء "الغربية"، وفقاً للجزائر.