أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

"البلقنة الرقمية":

استراتيجيات القوى الكبرى للتجزئة العالمية للإنترنت

07 مايو، 2024


عرض: دينا محمود

على الرغم من أن المناقشات التكنولوجية بعملية التجزئة العالمية للإنترنت بدأت مند قرابة العقدين، فإنها أخذت اتجاهاً متصاعداً في الأعوام الماضية، خاصة منذ جائحة "كورونا" والحرب الروسية الأوكرانية. تشير هنا عملية "تجزئة الإنترنت" إلى تفكك شبكة الشبكات أو تفرع الشبكة العالمية إلى شبكات إقليمية أو انفصال أجزاء معينة من الإنترنت، إلا أنه يجب تمييز الإنترنت (البنية التحتية، أي شبكة الشبكات) عن "الويب" (مكان مستهلك الإنترنت)، واللذين يختلف منطق التجزئة في سياق كل منهما.

في هذا السياق، يحلل جوليان نوسيتي، في دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في العام 2024، أشكال تجزئة الإنترنت المختلفة: الفنية، والجيوسياسية، والتجزئة التجارية، كما يطرح دوافع واستراتيجيات القوى الكبرى، كالولايات المتحدة والصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي إزاء عملية التجزئة، وانعكاسات ذلك على تفاقم الفجوة الرقمية بين دول العالم، وضرورة النظر في دور الجهات الفاعلة الخاصة، ولاسيما المنصات الرقمية الكبيرة.

أشكال التجزئة: 

تعود جذور "تجزئة الإنترنت" أو تفكيك الشبكة العالمية إلى شبكات، إلى مصطلح "البلقنة"، الذي يشير إلى عملية تقسيم الدولة إلى كيانات مستقلة أصغر؛ إذ ارتبط ظهور هذا المصطلح في الولايات المتحدة بالإنترنت لأول مرة في عام 1997. وفي عام 2001، طرح كلايد واين كروز، مفهوم (Spliinternet)، أي "تقسيم" الإنترنت العالمي إلى أجزاء من شبكات داخلية متوازية لا تتوافق مع بعضها بعضاً؛ إذ يتم إدارة كل منها بشكلٍ منفصل لأسباب تكنولوجية أو تجارية أو سياسية، للكشف عن الإمكانات اللامحدودة للإنترنت، ووجد هذا المصطلح زخماً كبيراً في عام 2010، ويمكن التمييز بين ثلاثة أشكال من تجزئة الإنترنت، على النحو التالي: 

• التجزئة الفنية: يركز الجانب الفني لتجزئة الإنترنت على المخاطر التي تؤثر في قابلية التشغيل البيني للشبكة، وعلى العقبات الفنية التي تحول دون نقل البيانات. وبالتالي؛ فهو ينتج في جوهره عن قرارات تؤدي، عن قصد أو بغير قصد، بشكل دائم أو مؤقت، إلى قطع أو تقييد الاتصال الرقمي بين جزء من الإنترنت وبقية الشبكة. ومن القضايا المرتبطة بالمعالجة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سياسة بروتوكول الإنترنت.

• التجزئة الجيوسياسية: تُعد السيطرة على البيانات جوهر مسألة التجزئة السياسية للإنترنت، ولاسيما أن التدفق الحُر للبيانات بات محل نزاع بسبب إشكالية تسييس ممارسات توطين البيانات الشخصية وارتباطها بالسيادة الوطنية والمنافسة الدولية، والخلافات بين الأنظمة التسلطية والديمقراطية. فبعض الدول تسعى إلى إضفاء الشرعية على "أقلمة الإنترنت" (Regionalization)، لتتوافق مع طبيعة أنظمتها السياسية، بينما تفضل الأخرى توطين البيانات الشخصية على أراضيها لاعتبارات سياسية وأمنية. يبدو ذلك جلياً خلال الصراعات العسكرية، سواء للسيطرة على البنية التحتية المادية لشبكة ما (كما حال أوكرانيا)، أم لتدمير البنية التحتية للإنترنت ووسائل الاتصال في بلد ما (كما حال حرب غزة بدءاً من أكتوبر 2023). مع ذلك، فإن هذا البعد من التجزئة، الذي لم تتم دراسته بعد، يمثل مخاطر حقيقية للغاية على استقرار ومرونة الفضاء السيبراني.  

• التجزئة التجارية: تحوز المنافسات الاقتصادية أهمية في مبررات تجزئة الإنترنت، سواء أكانت استراتيجيات حمائية من جانب السلطات الوطنية، كما في الصين أو الولايات المتحدة أم استراتيجيات تجارية بحتة. وترتبط هذه الديناميكية التجارية بالنموذج الاقتصادي للمنصات الرقمية الضخمة وإيرادات الإعلانات المرتبطة بملفات بيانات مستخدمي الإنترنت، فضلاً عن اتجاه منصات مثل: "ميتا" أو "جوجل" لتعزيز قاعدتها التكنولوجية المملوكة من أجل الاحتفاظ بمستخدميها، وتحقيق الدخل من خلال السيطرة على البيانات واعتبارها مصدر دخل استراتيجي؛ مما يدفع هذه الشركات إلى تقييد تبادلها للبيانات. وهكذا، قامت شركتا "جوجل" و"ميتا" "فيسبوك، إنستغرام، واتساب" بحظر أي نقل للبيانات من تطبيقاتها المختلفة. 

تشير هذه التجزئة التجارية إلى عملية "التحول إلى منصة" (plateformisation) للإنترنت، والتي تتعلق بالفاعلين الأكثر تماسكاً في الاقتصاد الرقمي؛ إذ يتم تشجيعهم على بناء وامتلاك البنية التحتية التقنية الخاصة بهم. وهكذا، تقوم "جوجل" أو "ميتا" أو "أمازون" بطريقة ما بإنشاء شبكتها الخاصة، وجعلها بوابة الدخول الرئيسية إلى الإنترنت العالمي. مع ذلك، هناك تحفظات خاصة بالعوامل المحفزة للتجزئة فيما يتعلق بالبيانات والبنى التحتية، وشركات الويب والجهات الفاعلة في مجال الاتصالات بشأن مسألة حيادية الشبكة واحترام الملكية الفكرية.

دوافع أمريكية:  

قدَّمت الدبلوماسية الأمريكية منذ فترة طويلة شبكة الإنترنت باعتبارها بنية تحتية عالمية للدفاع عن مصالحها الخاصة، ويمثل استغلال إطارها المخصص الآن أحد المحددات الرئيسية لتجزئة الإنترنت في المنتديات الدولية المعنية؛ إذ تعيد واشنطن النظر في الإنترنت كأداة للقمع الاستراتيجي، يمكن من خلالها استخراج البيانات سراً (من خلال برامج التجسس)، أو منع الخصوم من استغلال التدفقات الرقمية ضد الولايات المتحدة. كما حدث في الحملة الرئاسية الأمريكية في عام 2016، والتي شهدت وعياً غربياً بتكثيف استخدام الإنترنت (الهجمات السيبرانية، والتلاعب بالمعلومات، وما إلى ذلك) من قِبَل خصوم الولايات المتحدة. بالتالي؛ فإن تجزئة الإنترنت تمثل لواشنطن أداة لمنع أو قطع وصول الجهات المعادية لها إلى البنية التحتية الحيوية للإنترنت. 

ومع التحول في مركز الجاذبية الديمغرافية للإنترنت نحو آسيا، والفشل النسبي للولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في منتديات حوكمة الإنترنت؛ تزايد اهتمام واشنطن بتسريع عملية التجزئة؛ من أجل ضمان قدرة الولايات المتحدة على فرض السيطرة على الإنترنت. ففي عام 2020، خلال رئاسة دونالد ترامب، تم تصميم برنامج الشبكة النظيفة لتطهير شبكات الولايات المتحدة (وشركائها) من التطبيقات الصينية غير الموثوقة (تيك توك TikTok، ويشات WeChat، هواوي Huawei، وغيرها)، وكانت هذه المبادرة جزءاً من تجزئة الإنترنت، على الرغم من انتقادها تقليدياً من قبل واشنطن. وتواصل إدارة بايدن بنشاط الحملة ضد الموردين الصينيين، ولاسيما شركة "هواوي". 

تصورات المنافسين:

كثيراً ما يُقدَّم سيناريو تجزئة الإنترنت باعتباره تعارضاً بين الغرب وباقي العالم، والذي تعمق منذ اشتداد المنافسة التكنولوجية الصينية الأمريكية واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. هنا من المهم، فهم تصورات القوى الكبرى المنافسة الأخرى لعملية تجزئة الإنترنت، كما يلي:

- الصين: تسعى الصين للحاق بالركب التكنولوجي العالمي مدفوعة برغبتها في كسر هيمنة الولايات المتحدة في الفضاء الرقمي. وتسهم بكين بشكل كبير في تجزئة الإنترنت العالمية لأسباب سياسية محلية، ويشكل "جدار الحماية العظيم" (The Great Firewall)، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسيلة للسيطرة على الإنترنت على المستوى الوطني؛ إذ تم حظر الخدمات الرئيسية للفاعلين الأمريكيين مثل: "فيسبوك"، و"تويتر"، و"يوتيوب" منذ عام 2009، و"جوجل" منذ عام 2010.  

وفي عام 2018، أعلنت شركة "هواوي" عن مشروعها "البنية التحتية اللامركزية للإنترنت"، معتبرة أن الإنترنت الحالي يواجه مشكلات خطرة، ونقاط ضعف حرجة مرتبطة بزيادة هجمات الكمبيوتر، ومركزية بنيته وتضاعف انحرافاته. وفيما يتعلق بالتوحيد القياسي، تحتفظ "هواوي" بمكانة مركزية متساوية في بروتوكول (IPv6+) المقترح، والذي تم تقديمه كنسخة محسنة من (IPv6) في عام 2019.  

وإلى جانب "تيك توك"، يمثل "ويشات" النجاح الأبرز للاقتصاد الرقمي الصيني وتصديره خارج حدود البلاد، فالخصائص التقنية لهذا التطبيق تحد من الترابط بين الأجزاء المختلفة للشبكة؛ مما يؤدي إلى التجزئة الفنية، كما أن هناك اتجاهاً أساسياً لدى السلطات الصينية يهدف إلى تجاوز قوانينها المتعلقة بإدارة البيانات خارج الحدود الإقليمية، من منظور سياسي مزدوج (تحدي هيمنة القانون الأمريكي، الدفاع عن نهج محدد لسيادة البيانات) واقتصادي (دعم نشر طرق الحرير الرقمية الجديدة).

- روسيا: في ظل العداء مع واشنطن، تسعى موسكو إلى تكريس مبدأ السيادة الرقمية؛ إذ ترغب في تخفيف اعتماد البلاد على المنصات الأمريكية الرئيسية، كما تعمل على تطوير البنية التحتية والتقنيات المحلية؛ مما يسمح لشبكتها بأن تصبح مكتفية ذاتياً وتنفصل عن بقية الويب (الشبكة العالمية). ففي عام 2019، صدر قانون "إنترنت سيادي"، يمكن للسلطات الروسية من خلاله إدارة تدفق المعلومات في الفضاء الإلكتروني الروسي، ويلزم مزودي خدمة الإنترنت في موسكو بمراقبة وتصفية وإبطاء ومنع وصول المستخدمين إلى مواقع ويب محددة. 

في الوقت نفسه، نص القانون على تنفيذ نسخة روسية من "نظام اسم المجال" (DNS). وقد كانت الحرب الروسية الأوكرانية سبباً في إثارة شبح التجزئة المتسارع لشبكة الإنترنت؛ إذ عانت موسكو بشكل كبير من تأثير العقوبات فيها، وخروج شركات التكنولوجيا العالمية من البلاد بشكل جماعي، فقد منعت روسيا منصات التكنولوجيا الأمريكية الكبيرة من العمل على أراضيها قبل إطلاق (أو إعادة إطلاق) البدائل الروسية لـ"جوجل بلاي" أو "إنستغرام"، ولم يكن أمامها خيار آخر سوى التحوّل إلى الأجهزة والبرامج المحلية. 

- الهند: أدى التنافس الصيني الأمريكي، والتعطيل العالمي لسلاسل التوريد التجارية والتكنولوجية، والحرب في أوكرانيا إلى تناقض الموقف الهندي تجاه التحديات المتمثلة في تجزئة الإنترنت. فإذا كانت الهند تعتمد حالياً على الولايات المتحدة والصين من حيث المعدات والبرمجيات والمنصات، فإن السيادة الرقمية تشكل ركيزة لاستراتيجيتها في التعامل مع القضايا الرقمية. وفيما يتعلق بالحكومة الإلكترونية الهندية، فإن المشروع الرئيسي، (India Stack)، لتطوير الخدمات الرقمية، يتضمن حلاً للتحقق من الهوية eKYC)) أو نظام دفع (UPI)؛ مما أسهم بشكل كبير في تطوير قطاع التكنولوجيا المالية. هذان المشروعان، على الرغم من أنهما لا "يجزئان" الإنترنت العالمي، فإنهما يشكلان جزءاً لا يتجزأ من نهج أكثر سيادة في المجال الرقمي الوطني.

كما تتسبب السياسة التنظيمية لنيودلهي في صراعات متكررة مع المنصات الرقمية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالوصول إلى البيانات المشفرة والإشراف على المحتوى. ففي عام 2021، طلبت الدولة الهندية من "تويتر" حظر حسابات معينة مُتهمة، وفقاً للحكومة، بنشر أخبار كاذبة من شأنها تهديد الأمن القومي لكن الشركة رفضت. رداً على ذلك، تخلى العديد من المسؤولين والمديرين التنفيذيين في حزب بهاراتيا جاناتا الذي يشكل الأغلبية، عن "تويتر"، واستخدموا "كو"، وهي منصة محلية منافسة.

ومنذ الأزمة المفتوحة بين بكين ونيودلهي في مايو 2020، منعت السلطات الهندية 59 طلباً تكنولوجياً صينياً على أساس أنها تهدد الأمن القومي. وتم توسيع القائمة تدريجياً لتشمل أكثر من 200 تطبيق، بما في ذلك: "ويشات" و"علي إكسبريس" و"تيك توك". وفي قطاع الاتصالات، تم استبعاد شركتي "هواوي" و(ZTE) من مراحل اختبار شبكات الجيل الخامس (5G).  

- الاتحاد الأوروبي: لا تزال مسألة تجزئة الإنترنت موضع نقاش محدود داخل الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح أول مصدر للمعايير القانونية التي تعتزم توفير إطار عالمي للاقتصاد الرقمي الذي يهيمن عليه الاحتكار الثنائي الصيني الأمريكي لتحقيق السيادة الرقمية. وميز الاتحاد الأوروبي نفسه في الفضاء الرقمي الدولي، بكونه "قوة تنظيمية عظمى"، تعزز القدرة على إنتاج ونشر نظام واسع النطاق للمعايير في المجال الرقمي. 

وبدءاً من عام 2020، بدأت مرحلة أوروبية تتميز بغزارة الإصدارات المؤسسية والقانونية، مثل: "البوصلة الرقمية" (2021)، قانون الأسواق الرقمية وقانون الخدمات الرقمية (2023)، خطة العمل للتعليم الرقمي (2021-2027)، وقانون الأمن السيبراني. وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه النصوص ليست ملزمة. كما تم إطلاق مبادرة (DNS4EU) في يناير 2022، لتزويد مواطني الاتحاد الأوروبي وحكوماته ومؤسساته بنظام (DNS) آمن ومتوافق مع الخصوصية من خلال التصفية الإلزامية لعناوين الويب التي تشير إلى محتوى غير قانوني كالدعوة إلى الإرهاب، والمواد الإباحية عن الأطفال، ومواقع القرصنة، وغيرها. وتعتمد مبادرة "البوابة العالمية" التي قدمتها المفوضية الأوروبية في ديسمبر 2021، على سلسلة من الشراكات في البنية التحتية، في الوقت الذي يعتبر فيه محللون أنها البديل المنافس لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية، ومن خلال القيام بذلك، يتبنى الاتحاد الأوروبي سياسة تهدف على وجه التحديد إلى مواجهة الاتجاه العالمي نحو التجزئة.  

ختاماً، فإن اتجاهات تجزئة الإنترنت العالمية باتت اليوم تتجاوز ما هو أبعد من جدار الحماية العظيم في الصين وبروتوكولات الرقابة الصارمة في روسيا، إلى سعي القوى الكبرى في ظل المنافسات الجيوسياسية إلى بناء شبكة "سيادية" من الإنترنت خاصة بدولهم وبحدودهم الجغرافية، وكل هذا يؤدي إلى تقسيم وتجزئة شبكة الإنترنت إلى مجموعة من الشبكات.

المصدر: 

Julien Nocetti, «Un Internet en morceaux? Fragmentation d’Internet et strategies de la Chine, la Russie, l’Inde et l’Union européenne», Ifri, février 2024.