أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

القوة القبلية:

لماذا تخفق الولايات المتحدة في فهم هوية الجماعات الأولية؟

02 أغسطس، 2018


عرض باسم راشد - باحث في العلوم السياسية

نادرًا ما تؤثر  هُوية الجماعة في النقاشات حول الشئون الدولية، خاصة في الولايات المتحدة؛ إذ عادة ما يركز صانعو السياسة الأمريكيون على دور الأيديولوجيا والاقتصاد، ويميلون إلى رؤية الدول القومية باعتبارها أهم وحدات النظام الدولي. كما أنهم يتغاضون عن حقيقة أن الهُويات الأكثر أهمية في العديد من الأماكن ليست وطنية وإنما عرقية أو إقليمية أو دينية أو طائفية.

وقد أدى فشل الولايات المتحدة المتكرر في فهم حقيقة الدور الذي تلعبه هُوية الجماعات في تشكيل السلوك البشري إلى أسوأ الكوارث السياسية الأمريكية على الإطلاق. كما أنه، من ناحية أخرى، أثَّر على كيفية رؤية الأمريكيين لأنفسهم وفهمهم لحقيقة تكويناتهم المجتمعية.

ما سبق يمثل خلاصة دراسة أعدَّتها "إيمي شوا" بعنوان: "عالم قبلي: هُوية الجماعة هي كل شيء"، ونشرتها مجلة "الشئون الخارجية" في عددها عن شهري يوليو/أغسطس ٢٠١٨، والتي تؤكد خلالها أنه لكي نفهم حقيقة عالم اليوم وأين يتجه، فيجب أن نعترف بقوة القبلية التي تقصد بها الكاتبة هُوية الجماعة، وأن الفشل في القيام بذلك سيجعلها أقوى.

الهُوية قبل الأيديولوجيا:

تؤكد "شوا" أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة يميلون إلى النظر إلى العالم على أنه مجموعة من الدول القومية المنخرطة في النضال السياسي أو الأيديولوجي: الرأسمالية مقابل الشيوعية، والديمقراطية في مقابل الحكم الاستبدادي، و"العالم الحر" مقابل "محور الشر". وترى أن هذا التفكير غالبًا ما يعميهم عن قوة الهُويات الجماعية، وهو ما دفع واشنطن مرارًا وتكرارًا إلى ارتكاب أخطاء متكررة في سياستها الخارجية.

كانت حرب فيتنام أكثر الهزائم العسكرية مذلة في تاريخ الولايات المتحدة؛ فبالنسبة للعديد من المراقبين في ذلك الوقت، بدا من غير المعقول أن تخسر قوة عظمى من "بلد صغير متهور" كما وصفها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، وتعود تلك الهزيمة بالأساس، طبقًا للكاتبة، إلى تقليل صانعي السياسة الأمريكيين من شأن مدى حشد الشعب الفيتنامي في كل من الشمال والجنوب نحو تحقيق الاستقلال الوطني، في مقابل الالتزام الأيديولوجي بالماركسية. ولكن حتى في يومنا هذا، لا يفهم معظم الأمريكيين البُعد العرقي للقومية الفيتنامية.

من ناحية أخرى، لم تفهم الولايات المتحدة أيضًا البُعد العرقي للنزاع؛ إذ كان لدى فيتنام "أقلية مهيمنة على السوق"، وهي أقلية صينية، تُعرف باسم "هُوا Hoa"، وتمثل نسبة 1% فقط من السكان، ولكنها كانت تسيطر في الماضي على ما يصل إلى 80% من التجارة والصناعة في البلاد. بعبارة أخرى، فإن معظم الرأسماليين في فيتنام لم يكونوا من الفيتناميين العرقيين.

ولأن صانعي السياسة الأمريكيين لم يدركوا الجانب العرقي للصراع، فقد فشلوا في رؤية أن كل الخطوات المؤيدة للرأسمالية تقريبًا التي اتخذوها في فيتنام ساعدت على تحويل السكان المحليين ضد الولايات المتحدة، بل إن سياسات الحرب التي اتخذتها واشنطن عززت من ثروة وقوة الأقلية الصينية العرقية. 

وتؤكد الكاتبة -في هذا الصدد- أن الأنظمة التي أنشأتها الولايات المتحدة في مدينة "سايجون" كانت تطلب من الفيتناميين الجنوبيين أن يقاتلوا ويموتوا ويقتلوا إخوانهم الشماليين من أجل إبقاء الإثنيين الصينيين أغنياء، وهو ما أدى بالضرورة إلى تقويض أهداف واشنطن، نتيجة لعدم فهمها للهُويات الداخلية المختلفة في فيتنام، واتحادها على فكرة الاستقلال الوطني أكثر من التركيز على أيديولوجيتها الماركسية.

قوة البشتون:

أرسلت الولايات المتحدة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ قوات إلى أفغانستان في أكتوبر ٢٠٠١ للقضاء على تنظيم القاعدة، والإطاحة بحركة بطالبان التي كانت تتحالف مع التنظيم. وتشير الكاتبة إلى أن واشنطن نظرت إلى مهمتها بالكامل من خلال عدسة "الحرب على الإرهاب"، مع التركيز على دور الأصولية الإسلامية، ومع ذلك فقدت مرة أخرى الأهمية المركزية للهُوية العرقية.

تؤكد شوا أن أفغانستان هي موطن لشبكة معقدة من الجماعات العرقية والقبلية ذات تاريخ طويل من التنافس والعداء المتبادل. لأكثر من 200 عام، سيطر البشتون، أكبر مجموعة عرقية، على البلاد، لكن سقوط نظام البشتون الملكي في عام 1973، والغزو السوفيتي عام 1979، والسنوات التالية من الحرب الأهلية أثرت على هيمنتهم. وفي عام 1992، سيطر تحالف مكون من الطاجيك الإثنيين والأوزبك على السلطة.

بعد بضع سنوات، ظهرت حركة طالبان، وهي ليست حركة إسلامية فحسب بل حركة عرقية أيضًا، حيث أسس البشتون الحركة، وقادوها، وهم يشكلون الغالبية العظمى من أعضائها، كما أن التهديدات للسيطرة على البشتون حفَّزت صعود حركة طالبان وأعطت المجموعة قوتها.

وتؤكد "شوا" أن صانعي السياسة الأمريكيين لم يهتموا بهذه الحقائق العرقية، بل إنهم أنشئوا حكومة أغلبها من الطاجيك، ما دفع الكثير من البشتون إلى الاعتقاد بأنهم أضحوا مهمشين من جديد، حيث شكَّل الطاجيك 70% من قادة الجيش الجديد الذي أسسته الولايات المتحدة برغم أنهم يمثلون 27% فقط من الأفغان، وهو ما أثار حفيظة غالبية البشتون، خاصة مع قصف الضربات الجوية الأمريكية مناطق ذات أغلبية بشتونية.

وعلى الرغم من أن الكثير من البشتون كانوا يكرهون طالبان، إلا أن القليلين منهم كانوا على استعداد لدعم الحكومة التي كانوا ينظرون إليها على أنها كانت تحقق مصالح خصومهم العرقيين. وبعد مرور 17 عامًا على غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، ما زالت حركة طالبان تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد. وحاليًّا أضحى العديد من الأكاديميين والنخب السياسية الأمريكية تدرك التعقيدات العرقية في أفغانستان، بيد أن هذا الاعتراف بمحورية هُوية المجموعة قد جاء متأخرًا جدًّا، طبقًا للكاتبة.

انقسام طائفي بالعراق:

فشلت الولايات المتحدة مرة أخرى في فهم عمق الانقسامات بين الشيعة والسُنَّة والأكراد في العراق، فضلًا عن الأهمية المركزية للولاء القبلي والعشائري في المجتمع العراقي. كما أنه غاب عنها شيء أكثر تحديدًا، وهو وجود أقلية مهيمنة على السوق، حيث سيطر السُنَّة على العراق لقرون، منذ الحكم العثماني حتى عهد صدام حسين، الذي كان يُفضِّل السُنَّة، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى قبيلته أو عشيرته. وعشية الحرب الأمريكية على بغداد في ٢٠٠٣ تشير "شوا" إلى أن حوالي 15٪ من العراقيين السنة سيطروا على البلاد اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. وعلى النقيض من ذلك، شكَّل الشيعة الغالبية العظمى من فقراء الريف والحضر.

في ظل هذا الواقع، ترى الكاتبة أن الانتخابات في العراق لن تنتج عراقًا موحدًا كما كان يتوقع صانعو السياسة الأمريكيون، بل ستأتي بحكومة انتقامية يهيمن عليها الشيعة وتستبعد السُنَّة، مما سيؤدي إلى صعود التنظيمات المتطرفة المعادية للولايات المتحدة، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ أدت الديمقراطية إلى حرب طائفية أنتجت في النهاية ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

وحينما تغير النهج الأمريكي في التعامل مع السكان المحليين، ومع تعلُّم الجيش الأمريكي نفسه الديناميكيات الطائفية والعرقية المعقدة في البلاد، استطاعت الولايات المتحدة إقامة تحالفات بين شيوخ الشيعة والسُنَّة، ووضعت المعتدلين ضد المتطرفين، بما جعل الجيش الأمريكي يحقق نجاحات ملحوظة؛ منها التراجع الحاد في العنف الطائفي والخسائر بين العراقيين والقوات الأمريكية على حد سواء.

قبيلة "ترامب":

حاولت الكاتبة تفسير صعود "دونالد ترامب" غير المتوقع ونجاحه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الثامن من نوفمبر ٢٠١٦ من خلال فكرة القبيلة. إذ تشير إلى أنه في السنوات الأخيرة بدأت الولايات المتحدة تُظهر ديناميكيات سياسية مدمرة؛ تمثلت في صعود الحركات الإثنية القومية، وتآكل الثقة في المؤسسات ونتائج الانتخابات، والديماغوجية الداعية إلى الكراهية، وظهور رد فعل شعبي مضاد للأقليات، وفوق كل ذلك تحويل الديمقراطية إلى محرك للقبلية السياسية في مباراة صفرية.

وترجع هذه التطورات في جزء منها إلى التحول الديموغرافي الهائل؛ إذ إنه للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، يقف البيض على وشك فقدان وضعهم كأغلبية البلاد، ويشعرون بالضعف والتهديد. فقد أظهرت دراسة أجريت في عام 2011 أن أكثر من نصف الأمريكيين البيض يعتقدون أن "البيض قد حلوا محل السود باعتبارهم الضحايا الأساسيين للتمييز".

وهنا تكمن الخطورة وفقًا للكاتبة، فعندما تشعر المجموعات بالتهديد، فإنها تتراجع إلى القبلية؛ فتصبح أكثر انعزالًا، وأكثر دفاعية، وأكثر تركيزًا على صيغة "نحن" مقابل "هم". ومع تقلص الغالبية البيضاء داخل المجتمع الأمريكي، أصبحت ردود الفعل عنيفة، مما زاد من التوترات في مناخ اجتماعي استقطابي بالفعل؛ حيث كانت كل المجموعات والقبائل المُشكِّلة للمجتمع يشعرون بالاعتداء والمضايقة والاضطهاد والتمييز ضدهم.

يُضاف إلى ذلك، أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور أقلية اقتصادية مهيمنة على السوق والتي تُدعى "النخب الساحلية"؛ إذ تسيطر تلك الأقلية على قطاعات رئيسية من الاقتصاد، بما في ذلك وول ستريت، ووسائل الإعلام، ووادي السيليكون. وقد أدى ذلك بالضرورة إلى صعود حركة شعبوية تنادي بضرورة استعادة أمريكا واستعادة سيطرة البيض كأغلبية، وبرغم أن "ترامب" لم يكن ضد الأغنياء، إلا أنه كان يمثل فرصة للأغلبية البيضاء المتقلصة لاستعادة سيطرتها واستعادة الشعور بالأمان والقوة.

من هذا المنطلق يظهر تأثير القبلية بشكل واضح؛ فبرغم أن "ترامب" يبدو عنصريًّا للبعض، فإن الغريزة القبلية لدى القاعدة العريضة له ساهمت في إنجاحه في الانتخابات الرئاسية؛ إذ يتشارك "ترامب" مع ناخبيه في الهُوية القبلية؛ فهو يشبه بعض أعضاء الطبقة العاملة البيضاء سواء من حيث الطريقة التي يتحدث بها والطريقة التي يرتدي بها ملابسه، وحتى الطريقة التي يبالغ أو يكذب بها حينما يتعرض لانتقاد من جانب الليبراليين.

وفي ختام دراستها، تقول "شوا" أن مواطني الولايات المتحدة سيحتاجون إلى تشكيل هوية قومية قادرة على دمج جميع الأمريكيين معًا، من كبار السن والشباب، والمهاجرين والأمريكيين الأصليين، والحضريين والريفيين، والأغنياء والفقراء وغيرهم. وقد تكون الخطوة الأولى لذلك -من وجهة نظر شوا- عن طريق البدء في سد فجوة الجهل المتبادل، ورفض الفصل بين المناطق الساحلية الغنية والداخلية الفقيرة. وتقترح الكاتبة في هذا الصدد أن يتم تأسيس برنامج خدمة عامة يشجع الشباب الأمريكيين على قضاء سنة بعد المدرسة الثانوية في مجتمع آخر، بعيدًا عن مجتمعهم الخاص، ليس بهدف "مساعدة" أعضاء في مجموعة أو قبيلة أخرى، بل بهدف التفاعل مع الأشخاص الذين لا يمكن عادة أن يتعاملوا معهم، والعمل بشكل مثالي معًا نحو نهاية مشتركة.

المصدر:

Amy Chua, Tribal World Group Identity Is All, Foreign Affairs, Volume 97, No. 4, July/August 2018, p 25-33.