أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

المصري اليوم:

عمار ياسين يكتب: ضغوطات نوعية: كيف يُغير استهداف البنى التحتية قواعد اللعبة فى الصراعات؟

26 أغسطس، 2023


تُعرف البنى التحتية (Infrastructure) بأنها الأصول المُتجذرة تحت سطح الأرض أو الماء، والمرتبطة بصفة أساسية بوسائل المواصلات والنقل والكهرباء وأنظمة الصرف الصحى وسائر المرافق الحيوية للدولة، والتى تشل حركتها حال تعرضها لأى إتلاف، وصولًا إلى التأثير في كابلات الإنترنت العملاقة تحت سطح الماء أو قطعها.

وتُعد زيادة معدلات استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات أحد أهم المُتغيرات اللافتة للنظر على الساحة الصراعية في عالمنا خلال الأشهر الماضية، وذلك على الرغم من كونها أصولًا مدنية في ظل صراعات يغلب عليها الطابع العسكرى، فما دوافع ذلك؟، وما الذي يمكن أن تجنيه الأطراف بمثل هذا النمط من التصعيد النوعى في وتيرة الصراع؟، وما تداعيات ذلك على مثل هذه الصراعات؟.

استهداف متزايد:

ثمة مؤشرات عديدة على تزايد استهداف البنية التحتية الحيوية في مناطق الصراعات والحروب في العالم، وعلى رأسها في دول الشرق الأوسط، وهو ما يتضح خلال الفترة الأخيرة في الآتى:

1- العراق: في أواخر يوليو الماضى، تعرضت محطة كهرباء بمحافظة البصرة لحريق دون أن يتم الإعلان عن الأسباب، في بيان أصدرته وزارة الكهرباء العراقية. الأمر نفسه تكرر في مدينة «حديثة» بمقربة من محافظة صلاح الدين، حيث شهدت عملًا تخريبيًّا لأبراج نقل الطاقة بعبوات ناسفة، مما تسبب في سقوط عدد من الأبراج، ليكتمل المشهد بعد ذلك بتعرض محطة كهرباء شرق مدينة الصدر لعمل تخريبى.

2- السودان: تواصَل استهداف البنى التحتية والمدنيين في الصراع الدائر بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع منذ منتصف إبريل الماضى، إلى الدرجة التي جعلت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان «يونيتامس» (UNITAMS) تُعرِب عن قلقها وإدانتها هذا النوع من التصعيد، في بيان نشرته يوم 3 أغسطس الجارى. وقالت فيه: «تُعرب البعثة عن قلقها البالغ إزاء التأثير الخطر للقتال بين قوات الدعم السريع والقوات السودانية في المدنيين في منطقة دارفور. وتُدين البعثة بشدة الاستهداف العشوائى للمدنيين والمرافق العامة من قِبَل قوات الدعم السريع، ولاسيما محلية سِربا في الفترة من 24 إلى 26 يوليو 2023. كما تشعر البعثة بالقلق إزاء حالات مماثلة من الاستهداف للبنى التحتية والمدنيين في نيالا جنوبى دارفور، وزالنجى في وسط دارفور».

3- اليمن: لا يزال استهداف الحوثيين للموانئ النفطية للحكومة الشرعية يسبب انتكاسة شديدة للاقتصاد اليمنى، حيث أدت هجمات الحوثيين على مُنشآت نفطية مهمة إلى خسائر فادحة بنحو 1.5 مليار دولار منذ أغسطس الماضى، كانت مُخصصة لتحسين الخدمات العامة ودفع مرتبات الموظفين. وجاءت تلك الهجمات الحوثية بطائرات مُسيَّرة على موانئ نفطية تُسيطر عليها الحكومة اليمنية في محافظتى حضرموت وشبوة، ما دفع القائم بأعمال الممثل الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة، مروان على نعمان، في 4 أغسطس الجارى، إلى الكشف عن تأثر عائدات الموانئ والمرافق النفطية بسبب هجمات الحوثيين المتكررة، ما جعل الاقتصاد اليمنى يعمل بنصف طاقته.

4- الحرب الروسية الأوكرانية: شهدت الحرب الجارية تبادلًا لاستهداف البنى التحتية في أوكرانيا وروسيا، فقد اعتادت موسكو طيلة الأشهر الماضية استهداف محطات الطاقة في أوكرانيا، ما تسبب في انقطاع هائل للتيار الكهربائى في مختلف مناطق البلاد. كما شنت روسيا ضربات جوية على البنية التحتية في الموانئ الأوكرانية عدة مرات بعد انسحابها، في يوليو الماضى، من اتفاق حبوب البحر الأسود الذي كان يسمح لكييف بتصدير الحبوب بأمان. أما داخل الأراضى الروسية، فقد أعلن أحد النواب في مجلس الدوما الروسى، في أواخر يوليو الماضى، عن انفجار عبوة ناسفة في مصفاة نفط بمدينة سامارا جنوبى البلاد دون وقوع إصابات. كما أكدت خدمة الطوارئ الروسية إصابة 15 شخصًا نتيجة انفجار بمقهى في مدينة تاغانروغ بمقاطعة روستوف جنوبى البلاد، وقال حاكم المقاطعة إن الانفجار قد يكون ناجمًا عن إطلاق صاروخ. وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت، في مطلع أغسطس الجارى، أنها أحبطت هجومًا بزوارق مُسيّرة أوكرانية على سفينتى نقل مدنيتين في البحر الأسود.

دوافع ضاغطة:

على الرغم من وجود قواسم مشتركة في منطق استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات بصفة عامة، ومن بينها إرباك الطرف الآخر وإلحاق المزيد من الخسائر المادية والمالية به، فإن هناك رسائل خفية تُشبه الشفرة في كل حالة صراعية على حدة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالى:

1- في الحالة العراقية، لم يُعرف بعد مَن يقف وراء هجمات استهداف محطات وأبراج الكهرباء، بيد أنه ربما تكون هناك علاقة ارتباطية يمكن ملاحظتها بين عمليات الاستهداف هذه وبين «اتفاق مُقايضة النفط مُقابل الغاز»، الذي توصلت إليه الحكومة العراقية مع نظيرتها الإيرانية في شهر يوليو الماضى، بحيث يضخ العراق النفط إلى إيران وتعود الأخيرة مجددًا لضخ الغاز إلى العراق؛ سعيًا من حكومة محمد شياع السودانى لتعزيز شبكة الكهرباء المتداعية ولسد الفجوة بين الاحتياج المحلى ومعدل الإنتاج الفعلى من الكهرباء، مستغلة وجود احتياطات نفطية هائلة لديها. وفى هذا الصدد، فإن مَن قام بهذه العمليات التخريبية، التي أسفرت عن حالة إعتام للعراق في ظل درجات حرارة غير مسبوقة خلال الصيف الجارى، ربما أراد إحراج حكومة السودانى بهدف إجبارها على تعديل سياستها الخارجية على وجه التحديد، وربما أراد تأليب الداخل عليها.

2- في السودان، استهدف أطراف الصراع طيلة الأشهر الماضية أشكالًا عديدة من البنى التحتية الحيوية وصولًا إلى المستشفيات والأبنية التعليمية والجامعات، غير أن الموانئ النفطية على وجه التحديد ربما بقيت آمنة. وفى هذه الحالة، يمكن استنتاج أن عوائد النفط لكل من الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتى» تؤدى دورًا حاسمًا في استمرار قدرتهما على مواصلة الصراع وعدم التراجع أو تقديم تنازلات لا يرغب فيها أو لا يقدر عليها أي منهما.

3- في اليمن، يمكن استنتاج دوافع الحوثيين من الهجمات المتكررة على موانئ النفط على وجه التحديد بأنها تأتى في إطار «الحرب الاقتصادية» التي تشنها الميليشيا الانقلابية في الأشهر الماضية بهدف الضغط على الحكومة الشرعية ومحاولة تكبيدها مزيدًا من الخسائر، وإضعاف قدراتها المالية، وزيادة الضغوط الشعبية عليها في مناطقها، خاصةً مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتدهور سعر صرف العملة المحلية، فضلًا عن سعى الميليشيا لاقتسام الإيرادات النفطية، ودفع أجور الموظفين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

4- بالنسبة لحرب روسيا وأوكرانيا، فإن «لعبة الكَر والفَر» لم تنتهِ بعد، إذ يحاول كل من الطرفين تنويع أدوات الضغط على الآخر في سبيل إخضاعه أو ردعه عن التقدُّم والاستيلاء على المزيد من الأراضى، فمن ناحية موسكو، يغلب على دوافعها من استهداف البنى التحتية الأوكرانية وكم الدمار الذي ألحقته بها أن تكون لأسباب تتعلق بالهيمنة وكسر الصمود، وإحراج أوكرانيا أمام شُركائها الغربيين، ومن ثَمَّ تأليب الرأى العام الداخلى عليهم لكى يُقلّلوا من اعتماداتهم المالية لصالح كييف. أما من ناحية أوكرانيا، فتدور دوافع استهدافها للبنية التحية الروسية بين الرغبة في طمأنة شُركائها في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك في محاولة تخويف موسكو من أن كييف لن تُحاول فقط الدفاع عن نفسها داخل أراضيها، بل سيمتد دفاعها ليشمل استهداف أهداف مدنية وأخرى عسكرية في الداخل الروسى.

مخاطر إنسانية:

تكاد تداعيات استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات تتطابق باعتبارها أداة من أدوات التصعيد النوعى، وباعتبارها داخلة ضمن مؤجِّجات الصراع (Triggers)، التي تُطيل أمده وتُعرقل مساعى تسويته، ففى العراق، ازدادت الأوضاع سوءًا بعد استهداف أبراج وشبكات الكهرباء، بحيث أثّرت حتى في توفّر المياه واضطرار الحكومة العراقية إلى قطعها في عدة مناطق، ما رفع من وتيرة الاحتقان بين الأطراف المؤيدة وكذلك المعارضة للحكومة الحالية والفرقاء على الساحة السياسية على حد سواء.

وفى السودان، هناك أوضاع إنسانية بالغة الخطورة أوصلت منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» (FAO) إلى التحذير في مطلع أغسطس الجارى من أن كارثة مُحققة على وشك الحدوث في البلاد نتيجة استمرار الصراع، وتقديرها لوجود 6 ملايين سودانى على الأقل على بُعد خطوة واحدة من مجاعة مُحققة، الأمر الذي سيجعل التمادى في استهداف البنى التحتية يُنذر بكارثة على المستويات كافة. والأمر نفسه تقريبًا بالنسبة لليمن الذي يمر بأوضاع إنسانية عصيبة بسبب الانتهاكات الحوثية، وهو ما جعله يمثل واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

أما بالنسبة للحرب الأوكرانية، فإن تداعيات استهداف البنى التحتية متفاوتة بين طرفيها، فهى مؤثرة بصورة كبيرة في أوكرانيا التي تتسع رقعة «مدن الأشباح» بها على غرار باخموت وغيرها نتيجة الدمار الهائل الذي لحقها من كل جانب. وفى المقابل، وبافتراض صحة نسبة استهداف أوكرانيا لبعض البنى التحتية في الداخل الروسى، فلن تكون مؤثرة إلا فيما يخص الردع فقط وإثناء موسكو عن التمادى في بسط النفوذ والهيمنة على الأراضى الأوكرانية.

ختامًا، يظل استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الحروب والصراعات حول العالم أمرًا بالغ الخطورة، ليس فقط باعتباره تصعيدًا نوعيًّا يُطيل أمد الصراع ويُعرقل جهود تسويته؛ وإنما أيضًا بسبب إمكانية مساءلة مَن يثبت تورّطه فيه من باب أنها جرائم ضد الإنسانية في حال تم استهداف أصول معينة مثل المستشفيات، وتكرار إيقاع العديد من المدنيين ما بين قتيل وجريح. لذا، لا يمكن التعامل مع استهداف البنى التحتية في الصراعات باعتباره فقط تكتيكًا عسكريًّا أو عملًا تخريبيًّا عابرًا، بقدر ما ينبغى التعامل معه باعتباره خرقًا للقواعد الإنسانية.

* باحث في دراسات السلام والصراع

*لينك المقال في المصري اليوم*