إعداد: محمد أحمد عبدالنبي
دفع تطور الأحداث على نحو متسارع في منطقة الشرق الأوسط، القوى الكبرى إلى إعادة النظر في سياستها بالمنطقة والأطراف الفاعلة فيها. ولم تكن السياسة الروسية بمنأى عن هذا الاتجاه، خاصةً بعد ظهور تنظيم "داعش" وانتشاره في سوريا والعراق، والذي أصبح يهدد المصالح الروسية ذاتها. وتتبنى موسكو سياسة تُقوي من خلالها علاقتها بالأكراد بهدف الحفاظ على مصالحها النفطية، وضرب "داعش"، مع الإبقاء على علاقاتها بالقوى الرئيسية في المنطقة "تركيا وسوريا وإيران".
في هذا السياق، نشر "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" دراسة تحت عنوان: "الأكراد.. أداة للنفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط؟"، أعدها Igor Delanoë وهو باحث مشارك بمعهد البحوث الأوكرانية في هارفارد، وفي مركز الدراسات الأوروبية والدولية. وتطرق خلالها الباحث إلى أبعاد العلاقات الروسية – الكردية، وأبرز نقاط التلاقي والخلاف بين الجانبين، والمساعي الروسية لتطوير علاقتها بالأكراد.
تاريخ العلاقات الروسية - الكردية
أشار الكاتب إلى أن بداية العلاقات الروسية ـ الكردية ترجع إلى عام 1921 وقت أن اعترف الاتحاد السوفيتي السابق بجنسية الشعب الكردي، ثم تم تأسيس مقاطعة كردية في أذربيجان في عام 1923 على الحدود الأرمينية. وأصبح الأكراد السوفييت هم أساس الحركات الوطنية الكردية، سواءً في العراق إبان حكم الاستعمار البريطاني، وفي سوريا خلال الحكم الفرنسي، وكذلك للأكراد في تركيا وايران.
ويعتبر الكاتب أن حركات التحرر الوطني الكردية كانت هي المفتاح الرئيسي للعلاقات الروسية – الكردية، وأداة لممارسة النفوذ السوفيتي في المنطقة؛ فبعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في 22 يناير 1946، شجعت روسيا الإعلان عن تأسيس جمهورية كردية تتمتع بالحكم الذاتي في مدينة "مهاباد" الإيرانية، ثم بعد هزيمة المقاتلين الأكراد بزعامة "مصطفى برزاني" - والد الزعيم الحالي "مسعود برزاني"- أمام الجيش الإيراني حصلوا بعدها على حق اللجوء السياسي داخل الاتحاد السوفيتي لمدة 12 عاماً، وهو ما سمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية الروسية حتى غادروا الأراضي الروسية في عام 1958، ثم حاربوا لتأسيس دولة كردية داخل العراق. وتمكنت روسيا من التوصل لاتفاق بين الأكراد والعراق في عام 1970 يسمح بالحكم الذاتي لأكراد العراق والاعتراف بهويتهم العرقية.
وتطرق الكاتب إلى اختفاء الوحدة السياسية ووجود انشقاقات بين الأكراد الموجودين في شمال العراق، وشرق إيران، وشرقي وشمال شرقي تركيا، وكذلك الحال بين أكراد القوقاز ووسط آسيا، فضلاً عن التنوع الديني للأكراد.
وانتقل الكاتب إلى الحديث عن إعادة إحياء العلاقات الروسية مع الأكراد خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي، موضحاً أن ذلك كان لهدفين، أولهما حاجة الكرملين للضغط على تركيا والتخلص من نفوذها في القوقاز (حيث استغلت تركيا حرب الشيشان وانهيار الاتحاد السوفيتي وأخذت تستخدم ورقة الهوية العرقية والدينية الإسلامية هناك معتمدة على انتعاشها الاقتصادي)، وثانيهما كوسيلة لوقف النوايا التركية الساعية إلى قطع الطريق على صادرات الوقود الروسية التي تنتقل من خلال مضيقي البسفور والدردنيل التركيين.
وقد مثَّل الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 بداية فصل جديد من العلاقات الروسية - الكردية، حيث كانت موسكو من أوائل الدول التي قامت بفتح قنصلية عامة في أربيل، وذلك على الرغم من عدم استغلال روسيا لعلاقاتها بشكل أمثل مع الأكراد العراقيين خلال الألفية الجديدة حتى لا تثير الغضب التركي، وألا تظهر كداعمة للحركة الانفصالية الكردية.
الأكراد: أداة للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط
في الجزء الثاني من الدراسة، يتطرق الكاتب إلى كيفية استخدام روسيا الأكراد كأداة للتأثير في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال التركيز على النقاط التالية:ـ
1- روسيا والأقليات في الشرق الأوسط:
أكد الباحث حرص المسؤولين الروس على الالتزام بحماية الأقليات الموجودة في الشرق الوسط منذ اندلاع الثورات العربية، انطلاقاً من مبدأ حمايتهم للأصول والقيم المسيحية الروسية، مشيراً إلى أنه ومنذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011، فقد ضمت موسكو قضية حماية الأقليات الكردية في الشرق الأوسط إلى ملف حماية الأقليات المسيحية، خشيةً من أن يتكرر السيناريو العراقي - انخفاض أعداد المسيحين العراقيين بعد الغزو الأمريكي- مع الأقليات الكردية والمسيحية السورية، وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" إلى إدانة الهجوم الذي استهدف الأكراد السوريين في حلب من قِبل الجماعات المتطرفة في صيف عام 2013.
وأشارت الدراسة إلى لجوء الأغلبية المسيحية العراقية إلى إقليم كردستان العراق، لاسيما بعد تنصيب "أبوبكر البغدادي" زعيماً لتنظيم "داعش" في يونيو 2014، وما ترتب عليه من إطلاق حملة تطهير عرقية ضد الأقليات المسيحية واليزيدية بمحافظة نينوى العراقية، وهو ما يدفع روسيا دوماً إلى السعي لإشراك الأكراد في التوصل لحل سياسي للأزمة السورية منعاً لحدوث تطهير عرقي أو تدفق كردي محتمل على القوقاز، والذي سيؤثر حتماً على التركيبة العرقية والطائفية للمنطقة.
2- الحرب ضد تنظيم "داعش":
تنظر روسيا إلى الأكراد على اعتبار أنهم يمثلون القوى العلمانية والسنية "المعتدلة" التي لا غنى عنها في الحرب ضد تنظيم "داعش". وبناءً عليه، فقد تم مناقشة قضايا الحرب ضد الإرهاب وضد هذا التنظيم المتطرف خلال اجتماعات المسؤولين الروس مع نظرائهم الأكراد.
وأشارت الدراسة إلى أنه رغم اهتمام روسيا بتلك القضايا، فإن موسكو لم تقدم دعماً عسكرياً للأكراد – مثل باقي الدول الكبرى- وإنما اكتفت بالدعم الاستخباراتي والإنساني، وذلك مرده تخوف روسيا من النزعة الانفصالية الموجودة لدى الأكراد، ورغبتها في الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية، وتجنب إثارة غضب الشركاء الأتراك والإيرانيين.
3- مجالات التعاون في قطاع الطاقة:
خلال زيارة المسؤولين الروس والعراقيين لإقليم كردستان في يناير 2015، تم مناقشة فكرة تعزيز التعاون الروسي - الكردي في المجال النفطي، خاصة أن الأراضي الكردية يُرجح احتوائها على 17% من الاحتياطيات النفطية العراقية (141 مليار برميل). وأشار الكاتب إلى النجاح الروسي منذ بداية عام 2010 في تطوير التعاون النفطي مع أربيل دون المساس بشراكتها مع بغداد، كما بدأت تنشط شركات الطاقة الروسية في إقليم كردستان العراق خلال صيف 2012.
واعتبر الكاتب أن توقيع اتفاق بين أربيل وبغداد في ديسمبر 2014 لتنظيم قضية تصدير النفط الكردي، قد زاد من احتمالات تأسيس شراكة نفطية كردية - روسية، حيث سيسمح الاتفاق بتطبيع العلاقات بين أربيل وبغداد، كما عُد الاتفاق اعترافاً من بغداد بحق إقليم كردستان في تصدير ما يقرب من 550 ألف برميل نفط يومياً، منها 300 ألف برميل من حقول البترول بكركوك إلى ميناء "سيهان" التركي، وهو ما سيجعل أربيل سوقاً لتركيا، وبالتالي يقلل الاعتماد التركي على الغاز الروسي. وأيضاً سيُمكن هذا الاتفاق الحكومة العراقية من الحصول على جميع عوائد مبيعات هذا النفط، وفي مقابل ذلك تتعهد بتقديم المساعدات العسكرية والمالية التي تُقدر بنحو 1 مليار دولار لقوات "البشمركة" من أجل محاربة عناصر تنظيم "داعش".
التناقض في العلاقات الروسية- الكردية
تطرقت الدراسة في هذا الصدد إلى بعض النقاط التي ترى أنها تُمثل تناقضاً أو خلافاً في العلاقات بين روسيا والأكراد، كالتالي:ـ
1- التوازن الروسي في العلاقات مع الأكراد ودولهم:
شددت الدراسة على سعي روسيا لتطوير علاقات متوازنة مع كلِ من الأكراد والدول التي يتواجدون فيها، مشيرةً إلى أن الأزمة السورية والمساهمة في الحرب ضد "داعش" أتاحت للأكراد السوريين والعراقيين فرصة جديدة لزيادة نفوذهم السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
ورأى الكاتب أن نموذج الحكم الذاتي الكردي العراقي قد شجع أكراد سوريا للمطالبة بالحصول على حق تقرير المصير بصفة مؤقتة داخل جمهورية "روجافا" التي تم إعلانها في عام 2013 إلى أن تحل الأزمة السورية.
وقد مكَّن هذا الموقف الحذر "حزب الاتحاد الديمقراطي السوري" من الاستفادة من الدعم الدبلوماسي الروسي. وفي كردستان العراق، أوضح الكاتب أن موسكو لم تقدم مساعدات عسكرية للأكراد في مكافحة "داعش"، بل استعاضت عن ذلك بالعلاقات التاريخية مع الطالبانيين والبارزانيين، فضلاً عن اللعب بورقة الطاقة.
2- المحدد التركي وتأثيره على العلاقات الروسية – الكردية:
أكد الكاتب على حيوية الشراكة الثنائية بين تركيا وروسيا، حيث تعد أنقرة هي رابع أكبر شريك اقتصادي لروسيا، وهو ما يشير إلى تمتع الجانبين بقدر كبير من البرجماتية، ونجاحهما في تنحية القضايا الخلافية جانباً.
ومع ذلك، فإن القضية الكردية كانت مصدر خلاف كبير بين الروس والأتراك خلال حقبة التسعينيات، لاسيما بعد أن سعى "حزب العمال الكردستاني" إلى الحصول على تمثيل سياسي في موسكو. أما وفقاً لروسيا، فإن الورقة الكردية جاءت نتيجة التوجه التركي لدعم القضية الشيشانية.
وعلى الرغم من استخدام الورقة الكردية للضغط على أنقرة في التسعينيات، إلا أن ثمة عوامل عدة ساهمت في التقارب الروسي - التركي من جديد مع مطلع الألفية، ومن هذه العوامل ظهور الجماعات المتطرفة التي تنسب نفسها إلى الإسلام، فضلاً عن الغزو الأمريكي للعراق. وقد اتفق الرئيسان الروسي "بوتين" والتركي "أردوغان" في عام 2005 على دعمهما المتبادل لقضايا الشيشان والأكراد، كما سلم الكرملين أحد مقاتلي حزب العمال الكردستاني لأنقرة في يوليو 2012.
وفي هذا السياق، تطرق الكاتب إلى احتمالية توصل كل من أنقرة و"حزب العمال الكردستاني" إلى اتفاق سياسي يضع حداً لهذا الصراع الطويل بينهما، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى وجود قوى أخرى تدافع عن القضية الكردية مثل "الحزب الديمقراطي الشعبي" الذي اختار السياسة للدفاع عن حقوق الأكراد. وشدد الكاتب على ضعف تأثير القضية الكردية في مسار العلاقات الروسية - التركية.
مُجمل القول، أكدت الدراسة على أهمية الفاعلين الرئيسيين (روسيا والأكراد) في سياسات منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، خاصةً بعد أن نجح الجانبان في تدعيم التعاون الاقتصادي والأمني بينهما، إضافة إلى الرؤية الروسية للأكراد على أنهم الأداة الجديدة في استراتيجيتها الاستباقية في المنطقة، والتي أعلنها الكرملين لمنع آثار الثورات العربية السلبية عليها. وأشار الكاتب أيضاً إلى نجاح موسكو في إعادة تأسيس وتنويع علاقاتها مع الأكراد، دون المساس بعلاقاتها مع كل من تركيا والعراق وسوريا وإيران.
* عرض مُوجز لدراسة: "الأكراد.. أداة للنفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط؟"، والصادرة في يونيو 2015 عن "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية".
المصدر:
Igor Delanoe,The Kurds: A Channel of Russian Influence in the Middle East? (paris, French Institute of International Relations, June 2015).