حمل القصف التركي الأخير لمواقع قيادية تابعة لحزب العمال الكردستاني في سنجار بشمال العراق، وأخرى لوحدات حماية الشعب الكردية في كراتشوك بأقصى شمال شرق سوريا، جملة من الرسائل والدلالات في توقيت حساس للسياسة التركية، مفادها أن تركيا مستعدة للذهاب حتى النهاية لمنع إقامة دولة كردية في المنطقة، وأنها بدأت في تنفيذ استراتيجية استباقية في مواجهة الصعود الكردي، فضلا عن امتلاكها أوراقًا عديدة لن تتوانى عن استخدامها حتى لو أدى ذلك إلى مرحلة شديدة السلبية في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
رسائل القصف التركي:
تحمل الضربات التركية ضد مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني في العراق، ولوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، جملة من الرسائل، تتمثل في:
1- نفاد الصبر التركي من الدعم الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب) وكذلك قوات سوريا الديمقراطية، وأن أنقرة لن تأخذ بعد اليوم بعين الاعتبار التحالف الأمريكي – الكردي الناشئ إذا ما وجدت أن أمنها القومي والوطني بات في خطر في ظل الصعود الكردي على حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق، وظهور ملامح دولة كردية على أرض الواقع.
2- شكّل القصف التركي لمواقع في سوريا والعراق معًا (39 هدفًا) وبمشاركة 28 مقاتلة حربية، وعلى مدى ساعتين (حسب بيان وزارة الدفاع التركية عقب القصف) رسالة تركية بأن أنقرة بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية باتت أقوى، وليست كما كانت من قبل، وأن أجندة السياسة الخارجية عادت لتتصدر بقوة السياسات التركية.
3- حمل إبلاغ تركيا لكلٍّ من الولايات المتحدة وكردستان بموعد العملية قبل ساعة من القصف، رسالة مزدوجة؛ الأولى لواشنطن مفادها أن أنقرة ماضية في محاربة حزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له مهما كلفها الأمر، والثانية لأربيل بأن عليها أن تتحرك في مواجهة صعود نفوذ حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق، والتحرك لإخراجه من منطقة سنجار، والذي أصبح يشكل مع قنديل وكراتشوك مثلثًا حيويًّا تحت سيطرة الحزب، ويتطلع إلى الاعتراف به دوليًّا من بوابة الحرب ضد داعش.
4- جاءت الضربات العسكرية التركية قبل نحو ثلاثة أسابيع من القمة المقررة بين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" والرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في البيت الأبيض، الأمر الذي يعني أنها كانت رسالة للإدارة الأمريكية الجديدة بأن تركيا انتقلت إلى تبني استراتيجية استباقية لفرض أجندة سياستها في الشمال السوري، وأنها لن تسمح للأكراد بنيل شرف تحرير مدينة الرقة من سيطرة تنظيم داعش؛ لأن مثل هذا الأمر سينعكس عليها مستقبلا. لذا، يُمكن القول إن مباحثات أردوغان - ترامب ستكون امتحانًا للعلاقات بين البلدين، وبناء عليه فقد طرح أردوغان علنًا استعداد بلاده للمشاركة مع الولايات المتحدة في معركة تحرير الرقة من داعش بدلا من الأكراد.
5- هدفت تركيا من إبلاغ روسيا بالضربات العسكرية قبل شنها، وتسريب الدوائر المقربة من الرئيس "أردوغان" استعداد تركيا لعملية عسكرية مشتركة مع روسيا في الشمال السوري، إلى تأمين بديل فيما لو فشلت محادثات أردوغان وترامب في التوصل إلى اتفاق مقبول.
إشارات أمريكية سلبية:
شكّلت الغارات التركية غير المسبوقة ضد المواقع الكردية في سوريا والعراق معًا، مفاجأة للإدارة الأمريكية؛ لأن الأكراد ليسوا أهم حلفاء الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم داعش فحسب، وإنما لأن الضربات العسكرية التركية جاءت خارج السياق التركي المعهود الذي كان يركز على قصف مواقع حزب العمال الكردستاني في قنديل فقط، إذ إنها المرة الأولى التي تستهدف الطائرات التركية سنجار في العراق وكراتشوك في سوريا. وتوحي المواقف والردود والإجراءات الأمريكية عقب العملية العسكرية بأن واشنطن ماضية في دعم حليفها الكردي حتى لو أدى ذلك إلى مزيد من التوتر مع أنقرة. وفي السياق يمكن ملاحظة ما يلي:
1- فجر يوم العملية التركية قام وفد عسكري أمريكي رفيع المستوى برفقة وفد من وحدات الشعب الكردية بتفقد المواقع التي استهدفتها الطائرات التركية وسط تحليق جوي أمريكي في المكان.
2- أجمعت المواقف والتصريحات التي صدرت عن كبار المسئولين في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع (البنتاجون) على القلق الأمريكي من الخطوة التركية، والتأكيد على التحالف مع الأكراد، ومشاركتهم في معركة تحرير الرقة، وهو ما شكّل انزعاجًا تركيًّا واضحًا تجلى في إعلان أردوغان المتكرر عزمه المضي في القيام بمثل هذه العمليات.
3- الرد الكردي على العملية التركية شكل رسالة أمريكية غير مباشرة لأردوغان، إذ إن المناطق الكردية السورية الحدودية مع تركيا بدأت تشهد توترًا غير مسبوق بعد تزايد الاشتباكات اليومية والقصف المتبادل عبر الحدود والتصريحات النارية من الجانبين (التركي والكردي)، الأمر الذي يُرجِّح احتمالات المواجهة العسكرية.
ومن اللافت أن الأكراد الذين يعيشون في محيط إقليمي غير مستقر ويفتقر إلى الحماية، جعلوا من العملية العسكرية التركية مدخلا للمطالبة بإقامة منطقة حظر جوي فوق شمال سوريا، لمنع الطائرات التركية من استهدافهم، وهو ما يُذكِّرنا بما حصل لأكراد العراق عندما أقرت الأمم المتحدة إقامة مثل هذه المنطقة عقب حرب تحرير الكويت من نظام صدام حسين عام 1991.
4- الخطوة الأهم -في هذا الصدد- تمثلت في نشر القوات الأمريكية مراقبين عسكريين أمريكيين في المنطقة الحدودية السورية - التركية لمراقبة الوضع. فبعد القصف التركي أرسلت القوات الأمريكية عبر معبر سيمالكا الحدودي بين إقليم كردستان العراق والمناطق الكردية في سوريا عشرات المدرعات والمصفحات والأسلحة الثقيلة والعتاد، فضلا عن مراقبين. وقد تمركزت هذه القوات في بلدة الدرباسية الحدودية، وبدأت على الفور بتسيير دوريات للمراقبة وتأمين الحماية الحدودية شرقًا باتجاه مدينة المالكية، وغربًا إلى مدينة كوباني – عين العرب، وهو ما يعني إقامة منطقة ممنوع على تركيا استهدافها.
السيناريوهات المستقبلية:
قبل قمة الرئيسين الأمريكي والتركي في البيت الأبيض منتصف هذا الشهر (مايو)، تستعد تركيا لجملة من السيناريوهات العسكرية لمواجهة الأكراد حلفاء الولايات المتحدة في سوريا والعراق، وتتمثل أهم هذه السيناريوهات في:
1- الاتفاق مع الإدارة الأمريكية بخصوص مشاركة القوات التركية في معركة تحرير الرقة من داعش مقابل استبعاد الأكراد منها، وهذا السيناريو تفضله أنقرة، ولكن التطورات على أرض الواقع قد تجاوز هذا السيناريو بعد التقدم الكبير الذي حققته قوات سوريا الديمقراطية في عزل الرقة والاستعداد للهجوم عليها وتحريرها، إلا أن أردوغان يراهن على إقناع الرئيس الأمريكي "ترامب" بقدرة الجيش التركي مقابل قلة إمكانات الأكراد.
2- القيام بعملية عسكرية مشتركة مع حكومة إقليم كردستان العراق للهجوم على معاقل حزب العمال الكردستاني في سنجار وقنديل، لا سيما بعد أن كشفت الصحافة التركية أن محادثات رئيس حكومة إقليم كردستان "نيجيرفان البرزاني" في أنقرة عقب العملية العسكرية التركية بحثت هذه العملية. لكن من الصعب تصور مشاركة إقليم كردستان في مثل هذه العملية لأسباب كثيرة، منها أن البرلمان الكردي معطل وأي قرار بالمشاركة في حاجة إلى موافقته، والأهم الانقسام في صفوف أكراد العراق، فمقابل تفهم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرزاني للعملية التركية والمطالبة بخروج حزب العمال الكردستاني من سنجار وقنديل، فإن هناك رفضًا من الأحزاب الكردية الأخرى، لا سيما حزب الاتحاد الوطني بزعامة الرئيس جلال الطالباني وحركة التغيير (كوران) بزعامة نوشران مصطفى، فضلا عن الحزبين الإسلاميين المشاركين في البرلمان الكردي، وهذه الأحزاب مجتمعة أعلنت رفضها للسياسة التركية، ووقوفها إلى جانب حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي.
3- سيناريو عملية "درع دجلة"، وهي عملية روجت لها أنقرة كثيرًا في الفترة الأخيرة، ومفادها القيام بعملية عسكرية برية في منطقة سنجار عبر المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني لضرب حزب العمال الكردستاني في سنجار وإخراجه منها.
4- سيناريو عملية "شمس الفرات"، وهي عملية تقول المصادر التركية إن أنقرة حضّرت لها عسكريًّا، وتقوم على تنفيذ عملية عسكرية واسعة بمشاركة الفصائل السورية المسلحة عبر منطقة تل أبيض، وصولا إلى الرقة، وذلك على غرار عملية "درع الفرات".
وفي الواقع، مع مضي الإدارة الأمريكية في تحالفها مع الأكراد في سوريا رغم تحذيرات الحليف التركي، ثمة سؤال جوهري يطرحه كثيرون مفاده: هل يُمكن أن تضحي الإدارة الأمريكية بتحالفها مع تركيا لصالح تحالفها مع الأكراد؟. ورغم صعوبة التكهن بنتائج سياسة ترامب إزاء هذه القضية الحساسة، إلا أنه يمكن القول إن المقاربة الأمريكية بهذا الخصوص تتوقف بشكل كبير على معركة الرقة.
وخلال زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى الولايات المتحدة، فإن تركيا ستختبر على الأرض مدى جدية الإدارة الأمريكية في التجاوب مع المطالب والشروط التركية، ولعل هذا المسار يأخذ شكل التصعيد العسكري على طول الحدود الشمالية لسوريا والعراق، إذ إن الحشود العسكرية على الحدود تتواصل، والقصف العسكري للمواقع الكردية مستمر، وهو ما يفتح المجال لمواجهات مع الأكراد عبر الحدود كما هو حاصل حاليًّا في منطقتي عفرين ورأس العين السوريتين.
وستوضح نتائج قمة أردوغان – ترامب الصورة فيما إذا كان التحالف الأمريكي - التركي سيعود إلى طبيعته، وتضحي الإدارة الأمريكية بالأكراد، أم أنها ستواصل سياسة دعم الأكراد وممارسة لعبة التوازنات بين الحليفين الكردي والتركي؟.