تبدي القوى الكردية في سوريا اهتمامًا خاصًا بالجهود التي تبذلها أطراف دولية وإقليمية خلال الفترة الحالية من أجل إجراء مفاوضات جديدة بين النظام السوري والمعارضة المسلحة، في جنيف في 20 فبراير 2017، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة: يتمثل أولها، في تزايد مخاوف تلك القوى من إمكانية استبعاد بعضها من تلك المفاوضات، على غرار ما حدث في مؤتمر الأستانة الذي عقد يومى 23 و24 يناير 2017، ونظمت الدول الراعية له جولة أخرى منه في 6 فبراير للتباحث حول آليات مراقبة نظام الهدنة دون أن تتوصل إلى اتفاق نهائي، حيث اقتصرت مشاركة الأكراد على حضور إبراهيم برو ممثلا عن "المجلس الوطني الكردي"، في حين تم استبعاد حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" و"قوات سوريا الديمقراطية".
وينصرف ثانيها، إلى اتساع نطاق التفاهمات بين روسيا وتركيا اللتين مارستا الدور الأكبر، مع إيران، في تنظيم مؤتمر الأستانة وإقناع بعض الأطراف الرئيسية في سوريا بالمشاركة فيه، بشكل ربما يؤثر، خلال المرحلة القادمة، على الدعم الذي كانت تقدمه روسيا إلى الميليشيات الكردية في إطار الحرب ضد "داعش".
ويتعلق ثالثها، بالتحولات المحتملة في السياسة الأمريكية تجاه الصراع في سوريا، في ظل تزايد احتمالات اتجاه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إجراء تغييرات بارزة في السياسة الحالية، ربما باتجاه رفع مستوى التنسيق مع كل من روسيا وتركيا، خاصة في ظل حرصها على منح الأولوية للحرب ضد تنظيم "داعش" في سوريا.
ومن دون شك، فإن مجمل هذه الاعتبارات، التي ربما تفرض تداعيات مباشرة على الترتيبات الانتقالية، الأمنية والسياسية، التي سوف يتم التفاوض حولها بين تلك الأطراف في مؤتمر جنيف القادم، يبدو أنها سوف تساهم، بدرجة ما، في تحديد التحولات المحتملة في موقف القوى الكردية من التطورات السياسية والميدانية التي يشهدها الصراع في سوريا خلال المرحلة القادمة.
مواقف مبكرة:
أبدت القوى الكردية ردود فعل متشددة تجاه استبعاد معظمها من المشاركة في مؤتمر الأستانة، حيث وجهت "قوات سوريا الديمقراطية" انتقادات حادة للمؤتمر، مؤكدة أنها لن تلتزم بمخرجاته، وفقًا لما أعلنه العقيد طلال سلو المتحدث باسمها الذي قال: "لسنا ملتزمين به ولا بأى قرار يخرج عنه". وبالتوازي مع ذلك، واصلت تلك الميليشيات مواجهاتها المسلحة ضد تنظيم "داعش" في إطار عملية "غضب الفرات"، والتي تمكنت بموجبها من استعادة بعض المواقع التي كان يسيطر عليها التنظيم، بل إن ثمة تقارير عديدة كشفت أنها زادت من وتيرة تحركاتها فى إطار ترتيبات مع قيادة قوات التحالف الدولي، الذي قام، في أواخر شهر يناير 2017، بتزويد تلك الميليشيات بمركبات مدرعة للمرة الأولى.
وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن ردود فعل القوى الكردية على استبعادها من مؤتمر الأستانة، تكشف أنها سوف تتجاهل عمليًا ترتيبات ومناطق وقف إطلاق النار، بشكل عام، وليس فقط فى إطار المواجهات المسلحة مع الفصائل المتطرفة، وهو ما يزيد، في رؤية تلك الاتجاهات، من احتمالات استمرار حدوث مواجهات بين عمليتى "درع الفرات" التي تدعمها تركيا و"غضب الفرات" التي تقودها الميليشيات الكردية، بعد المناوشات التي وقعت في ريف حلب، في 7 فبراير 2017.
وبالطبع، فإن ما يدعم من احتمال حدوث ذلك، هو إصرار قوات "درع الفرات" على مواصلة التقدم في ريف حلب الشرقي، بالتوازي مع حرص تركيا على توسيع نطاق التفاهمات مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهى التفاهمات التي تحظى باهتمام خاص من جانب الطرفين، بشكل بدا جليًا في الزيارة التي يقوم بها مايك بومبيو المدير الجديد لوكالة المخابرات الأمريكية إلى تركيا في 9 فبراير الحالي وهى الأولى له منذ توليه منصبه.
هذه الزيارة تشير إلى أن واشنطن قد تعول على التنسيق مع تركيا باعتبار أن ذلك يمثل آلية رئيسية في التعامل مع تطورات الصراع في سوريا، وإن كان ذلك لا ينفي أن مشاركتها في مؤتمر الأستانة بصفة مراقب، ربما لم تدفعها إلى ممارسة ضغوط حثيثة على الأطراف المعنية من أجل إشراك ممثلين عن حزب "الاتحاد الديمقراطي" أو "قوات سوريا الديمقراطية" فيه.
لكن ذلك لا ينفي أنه لا يمكن الحديث حاليًا عن سياسة أمريكية واضحة المعالم تجاه التعامل مع تطورات الصراع في سوريا والحرب ضد الإرهاب بصفة عامة، خاصة في ظل المهلة التي منحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجيش، في 28 يناير 2017، لوضع استراتيجية شاملة وخطط لهزيمة تنظيم "داعش".
ويمكن القول في هذا السياق، إن هذه الخطة سوف تعيد، في حالة إقرارها، هيكلة الدور الأمريكي في التحالف الدولي ضد "داعش"، وهو ما سوف يؤثر على العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من تركيا والميليشيات الكردية، التي عولت عليها واشنطن في الحرب ضد "داعش" خلال فترة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، بما يعني أن الموقف الأمريكي الجديد تجاه دور الأكراد في الحرب ضد "داعش" لم يتضح بعد بشكل كامل.
فضلا عن ذلك، فإن التفاهمات المستمرة بين روسيا وتركيا يبدو أنها بدأت تفرض تداعيات مباشرة على العلاقات بين روسيا والميليشيات الكردية في سوريا، حيث تراجعت روسيا، نسبيًا، عن الدعم الذي قدمته للأكراد خلال المرحلة الماضية، ولا سيما في الفترة التي شهدت تصعيدًا بين روسيا وتركيا عقب إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015، قبل أن تتقلص مساحة الخلافات بين الطرفين منذ يونيو 2016، عقب إجراء تركيا تغييرًا في سياستها باتجاه رفع مستوى التنسيق مع روسيا واحتواء التداعيات التي فرضها التوتر المتصاعد في العلاقات بين الطرفين خلال المرحلة الماضية.
مسارات غامضة:
ومن هنا ربما يمكن القول إن القوى الكردية سوف تسعى إلى مواصلة عملياتها العسكرية ضد "داعش"، لكن حدود ومساحة الدور الذي سوف تقوم به خلال الفترة القادمة سوف تعتمد على متغيرات عديدة: يتمثل أولها، في تأثير نتائج مؤتمر جنيف القادم على المسارات المحتملة للصراع في سوريا، وبمعنى أدق على الترتيبات السياسية والأمنية التي سوف تتم صياغتها في مرحلة ما بعد انعقاد المؤتمر.
وينصرف ثانيها، إلى دور الأكراد في الخطة العسكرية الجديدة التي سوف تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب ضد "داعش"، والذي يبدو أنه سيكون محورًا للمباحثات بين المسئولين الأتراك والأمريكيين خلال المرحلة القادمة.
ويتعلق ثالثها، بتوقيت بداية معركة الرقة، التي سوف تمثل اختبارًا حاسمًا سواء للعمليات العسكرية التي تشنها أطراف عديدة ضد تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، أو للتفاهمات التي سوف تتوصل إليها الولايات المتحدة الأمريكية مع كل من روسيا وتركيا، في مرحلة ما بعد تبلور معالم السياسة الأمريكية الجديدة تجاه الصراع في سوريا.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن القوى الكردية في سوريا تبدو مقبلة على مرحلة جديدة في تفاعلاتها مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة في سوريا وبالحرب ضد تنظيم "داعش"، وهى التفاعلات التي سوف تؤثر، بدرجة ما، على موقع الأكراد في الترتيبات السياسية والأمنية التي سوف يتم الاتفاق على تنفيذها في مرحلة ما بعد انعقاد مؤتمر جنيف.