تتجه روسيا، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، إلى دعم فاعليتها في بؤر صراعات إقليم الشرق الأوسط، عبر عقد تحالفات وصياغة تفاهمات وتوقيع اتفاقيات، فيما يعرف باستراتيجية البحث عن حلفاء، إذ تتبع موسكو سياسة الانخراط مع نخب معينة في دول محددة بالإقليم بحيث يمكن الوثوق بها، وهو ما يعكس تقديرات النخبة للمصالح الوطنية الروسية- من جراء التدخل العسكري الخارجي في الصراعات الداخلية- وليست عودة محتملة للدور الإمبراطوري الروسي نظرًا لتعثراتها الاقتصادية وضعف القوة العلمية والتكنولوجية مقارنة بالدول الغربية.
مؤشرات عاكسة:
ترتكز رؤية موسكو على إبداء أهمية استراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، التي تمثل منصة ارتكاز لأى دور محتمل لقوى دولية سواء أمريكية أو أوروبية أو آسيوية، لا سيما أن إمكانياتها –على الأقل العسكرية- تؤهلها للمشاركة في صياغة ملامح خريطة الشرق الأوسط الجديد. وقد برزت حزمة من المؤشرات المعبرة عن تلك الاستراتيجية الروسية في الإقليم، وهو ما يمكن تناوله في التالى:
1- الانخراط الهجومي في الأزمة السورية: تعرض الجيش السوري للإنهاك الشديد خلال ست سنوات من المواجهات مع قوى المعارضة المسلحة وتنظيم "داعش"، خاصة أنه عجز عن تجنيد عدد كبير من العناصر الجديدة، وهو ما دفع روسيا إلى رفع مستوى انخراطها العسكري، بشكل ساهم في استعادة قوات الجيش السوري السيطرة على مناطق ومدن محورية مثل حلب.
وبموجب الاتفاقيات الأمنية بين موسكو ودمشق، أصبحت القوات الروسية متمركزة بشكل دائم في أراضي سوريا وتحديدًا في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية التي تعد أهم مراكز القيادة والسيطرة الروسية في الإقليم. ومن هنا، يمكن القول إن التدخل العسكري الروسي المباشر في الصراع السوري، وخاصة أثناء معركة حلب، كشف بشكل واضح عن رغبة موسكو في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية ليس في سوريا فقط وإنما في حوض البحر المتوسط بشكل عام.
ومن الواضح أن سوريا تحظى بمكانة محورية في دائرة المصالح الاستراتيجية العليا لروسيا مقارنة بأية دولة أخرى في الإقليم، بشكل دفع الأخيرة إلى عدم الاهتمام فقط بالمواجهات العسكرية وإنما أيضًا بالترتيبات الانتقالية للتحول نحو التسوية. وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريحات صحفية على هامش زيارته إلى طوكيو، في 16 ديسمبر 2016، على أن "تحرير حلب بداية لهدنة جديدة في كامل الأراضي السورية"، وهو ما يشير إلى أن روسيا تحاول فرض السلام وفقًا لرؤيتها.
تحالف استخباراتي:
2- استعادة النفوذ في التفاعلات الليبية: وهنا فإن التدخل الروسي في ليبيا لن يكون على غرار التدخل في سوريا. فقد تلاشى النفوذ الروسي في ليبيا عقب سقوط نظام القذافي بعد نجاح الدول الغربية، بدعم من الجامعة العربية، في توجيه ضربة عسكرية لنظام القذافي في عام 2011، وهو ما أثر على مصالح موسكو الاقتصادية، حيث سارعت السلطات الليبية الجديدة إلى تجديد العقود التي أبرمتها الشركات الغربية مع القذافي، في الوقت الذي لم تجدد فيه العقود مع الشركات الروسية.
وفي هذا السياق تبرز مساعٍ لتنشيط الدور الروسي في ليبيا، وهو ما انعكس في قيام المشير خليفة حفتر بزيارة موسكو مرتين خلال عام 2016، بالتزامن مع السيطرة الميدانية للجيش الوطني الليبي على مناطق أوسع داخل ليبيا، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن الجيش الليبي سيطلب دعمًا من روسيا، إذا ما قامت الأمم المتحدة في المستقبل برفع حظر التسليح. فضلا عن زيارة عدد من الفنيين العسكريين الروس إلى برقة في ليبيا، في مطلع نوفمبر 2016، بما يساهم في إعادة تأهيل قوات الجيش الليبي، وتجديد المنظومة التسليحية، وتحسين الدفاعات البحرية والجوية. إلى جانب لقاء رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح مع وزيري الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي الروسي منذ أسابيع قليلة.
وقد أبدى عقيلة صالح، في حوار مع صحيفة "الحياة" اللندنية في 17 ديسمبر الجاري، ترحيبه بتعزيز الدور الروسي في ليبيا "دون أن يتطور هذا التعزيز إلى إقامة قاعدة عسكرية روسية في ليبيا". ووفقًا للسياسة الروسية المعلنة فإن موسكو تدعم الحلول السياسية التي يتوصل إليها أطراف الصراع الليبي، وتحرص على ضرورة احترام الشرعية وعدم الاعتراف بأى حكومة لا تحظى بثقة البرلمان أو أى وفاق سياسي لا ترافقه تعديلات في الدستور الليبي وخطوات لتوحيد كل الليبيين لمواجهة التنظيمات الإرهابية في جميع أنحاء البلاد.
وقد أشار عقيلة صالح في الحوار المذكور سلفًا، إلى أن "روسيا لديها الرغبة بأن يكون هناك وفاق حقيقي بين الليبيين، وأن يمنع التدخل الأجنبي في الشأن الليبي ويترك لليبيين اختيار من يحكمهم وحل مشاكلهم بأنفسهم، ويقتصر دور المجتمع الدولي على الرعاية أو المساعدة والمساندة". وأكد عقيلة أنه "لا يمكن إقامة أى قواعد عسكرية لروسيا ولا لغيرها، والوجود العسكري الأجنبي على الأراضي الليبية مرفوض. أما المطلوب من روسيا وغيرها، فهو تقديم دعم لوجيستي وفي مجال الخبرات، والحديث يدور على مستوى الخبراء عن التدريب والتنظيم وغيرها من الأمور".
3- بوادر التمدد الروسي في الساحة العراقية: برزت مؤشرات محددة خلال عامى 2015 و2016 تكشف أن روسيا، بعد توسيع نفوذها العسكري في سوريا، تتمدد داخل العراق لا سيما بعد دخولها في تحالف استخباراتي مع إيران والعراق وسوريا من خلال تأسيس مركز معلوماتي في بغداد للحد من مخاطر التنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيم "داعش"، يضم هيئة أركان الجيوش في تلك الدول.
ويأتي توجه موسكو هذا إدراكًا منها بأن العراق وسوريا تمثلا مناطق نفوذ تقليدية لها، وبما يؤدي إلى السماح بمرور الطائرات الروسية التي تحمل أسلحة إلى سوريا عبر الأجواء العراقية. وقد قام وفد روسي بزيارة العراق، في فبراير 2016، وهو الأكبر منذ سنوات طويلة، حيث تعهد بتقديم المزيد من الأسلحة والمساعدات لحكومة بغداد.
الباب الموارب:
4- التزام الحياد في الأزمة اليمنية: يبدو واضحًا أن روسيا لا تتدخل في الأزمة اليمنية، رغم وجود علاقات تاريخية معها، لا سيما أن نمط تسليح الجيش اليمني كان روسيًا، لأن موسكو تتجنب الانغماس في "المستنقع" اليمني، خاصة أنها ليست اللاعب الأساسي فيه. وهنا تدعو موسكو إلى دعم الانتقال السلمي للسلطة داخل اليمن.
ومن دون شك، فإن روسيا ليس لديها مصلحة استراتيجية في اليمن كما هو الحال في سوريا، وتفضل عدم الانخراط في صراعات إضافية في الشرق الأوسط. فتدخل روسيا في الصراع السوري كان بطلب الحكومة الشرعية (نظام الأسد) بمقاييس المنظمات الدولية، في حين أن الأمر يختلف في الحالة اليمنية، إذ أن تحالف الحوثي وصالح لم يحظ باعتراف دولي بل إنه مثل تمردًا على الشرعية الدستورية. علاوة على أن رؤية موسكو تقوم على أساس أن الصراع اليمني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن تدخلها فيه قد يقود إلى اتساع نطاقه.
وفي هذا السياق يسود اتجاه في الكتابات يشير إلى أن روسيا تتعامل بشكل مزدوج مع الأزمة اليمنية، حيث تتناقض البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الروسية مع السلوكيات الميدانية، مع الأخذ في الاعتبار أن موسكو اكتفت بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2216.
وفي مرحلة تالية دعت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى عدم اتخاذ أطراف الصراع اليمني إجراءات أحادية الجانب، وذلك ردًا على إعلان الحوثيين وصالح تشكيل حكومة في نوفمبر الماضي. بينما استقبلت الخارجية الروسية، في 14 ديسمبر 2016، وفد جماعة الحوثيين وعلى رأسه محمد عبدالسلام رئيس الوفد الحوثي إلى مشاورات الكويت. وهنا تتعامل السياسة الروسية، وفقًا لاتجاهات عديدة، بمسار ذي اتجاهين يقوم على تأييد الشرعية وتوظيف الانقلاب في الوقت نفسه لخدمة مصالحها الجيواستراتيجية.
وتشير مجموعة من العوامل إلى تزايد دور موسكو في صراعات الإقليم، ويتمثل أبرزها في:
قتال تراجعي:
1- الانسحاب الأمريكي من الإقليم: بدا من التوجهات الاستراتيجية والتحركات الميدانية للسياسة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما أن واشنطن تفضل تجنب الانخراط في بؤر الأزمات في مناطق مختلفة من العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط، لاعتبارات تتعلق بالخبرات السلبية التدخلية في عهد جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان، لا سيما مع التكلفة البشرية والمادية المرتفعة، فضلا عن التأثيرات العكسية المرتبطة بتزايد قوة التنظيمات الإرهابية.
لذا ساد اعتقاد لدى النخب الحاكمة في الشرق الأوسط بأن واشنطن لم تعد قادرة على حماية حلفائها أو ممارسة تأثير في أزمات الإقليم. ويشكل هذا الوضع فراغًا استراتيجيًا في الإقليم، وهو ما يفرض على قوة دولية مثل موسكو ملء هذا الفراغ أو استعادة المواقف السوفيتية في فترة الحرب الباردة عندما كانت موسكو تقف في مواجهة واشنطن. ومن هنا، وبينما ينحسر النفوذ الأمريكي تدريجيًا، تحرص موسكو على تأسيس علاقات متعددة الأطراف مثل مراكز الثقل الرئيسية في الإقليم.
شيشان جديدة:
2- هشاشة إقليم الشرق الأوسط: تتسم منطقة الشرق الأوسط بالهشاشة، حيث لا تحتاج موسكو إلى بذل جهود مضاعفة لتأكيد نفوذها فيها والحصول على موطئ قدم عسكري. وهنا يسود تخوف لدى النخبة الحاكمة في موسكو بأن فراغ الدولة يعوضه "تسونامي جهادي" يضاعف من تأثيراته وصول إسلاميين إلى السلطة في سوريا في حالة عدم التدخل العسكري لإحداث تحول في موازين القوى السورية.
وهنا يخلق الأمر ارتدادات إقليمية يأتي في مقدمتها بروز "شيشان جديدة" قد تشعل الوضع القوقازي الذي يشكل المسلمون قرابة 20 في المئة من عدد سكانه. لذا فإن رؤية بوتين تتمثل في أن منع قيام مثل هذا النظام الإسلامي الجهادي في سوريا يمثل دفاعًا مباشرًا عن الأمن القومي الروسي. وقد أكد فيودور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع في موسكو في أكثر من مرة أن "الشرق الأوسط هو الوسيلة الأمثل لتسليط الضوء على أن فترة الغياب الروسي الطويل عن الساحة الدولية كدولة عظمى من الدرجة الأولى انتهت".
استنساخ النماذج:
3- مواجهة تنظيمات الإرهاب العابر للحدود: نظرًا لأن هياكل الدول الرئيسية في الشرق الأوسط تواجه مشكلات "بقاء" –وليس مجرد أداء- فإن موسكو ترى أنه يتعين عليها الدخول في تحالفات استراتيجية مع دول بعينها مثل مصر والعراق وسوريا وإيران وتركيا، بهدف التصدي للجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي لم يتوقف خطرها عند دولة بعينها بل باتت تهدد كل دول الإقليم، وهو ما يمثله خطر "داعش" على الأمن القومي الروسي.
وفي هذا السياق لا يستند دفاع روسيا عن نظام الأسد إلى تخوفها من تداعيات تغييره أو إسقاطه فقط، بل من مخاطر الفوضى التي سوف تنتشر في المرحلة التي ستلي سقوطه، وخاصة في ظل اللامركزية في إدارة الحدود وتعدد الفواعل المسلحة العنيفة من غير الدول، والتي صارت أقرب إلى الجيوش الموازية كبيرة العدد والمتمركزة في مناطق استراتيجية.
تداعيات مباشرة:
من المحتمل أن يفرض انخراط روسيا في تفاعلات الإقليم خسائر لا تبدو هينة بالنسبة لها. فقد تعرضت روسيا لعمليات إرهابية متصاعدة، وهو ما بدا جليًا في اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف، في 19 ديسمبر 2016، الذي حدث بعد انتهاء معركة حلب وقبل يوم من انعقاد اجتماع رئيسي حول الأزمة السورية في موسكو بين روسيا وإيران وتركيا، وهو ما يشير إلى استهداف المصالح الروسية في الخارج.
وقد أعلنت هيئة (وزارة) الأمن الفيدرالي الروسي، في 15 ديسمبر 2016، إحباط خطة لشن سلسلة عمليات تفجيرية في موسكو كانت تعد لها خلية تابعة لتنظيم "داعش" بتنسيق مباشر مع قيادي في التنظيم مقيم في تركيا، إذ اعتقلت هيئة الأمن ثلاثة مواطنين من طاجيكستان ورابع من مولدافيا، وتم العثور على قنابل محلية الصنع وذات قدرات تفجيرية عالية وعدد من الرشاشات وكميات كبيرة من المواد شديدة الانفجار، وهو ما دعا الرئيس بوتين إلى مطالبة أجهزة الدولة بتعزيز الإجراءات الأمنية الروسية في الداخل والخارج.
استعادة الهيبة:
خلاصة القول، من المرجح أن النفوذ الروسي سوف يتصاعد في أزمات الشرق الأوسط، بما يعزز صورة روسيا كدولة عظمى، استنادًا لمؤشرات محددة ودوافع حاكمة، وذلك عن طريق الأسلحة أولا ثم التجارة والطاقة في مرتبة تالية. إذ أن موسكو باتت ترى الإقليم مسرحًا واسعًا لمواجهة النفوذ الأمريكي وتأكيد مكانتها كقوة عالمية وشرق أوسطية في آن واحد.