شهدت السياسة الخارجية السودانية خلال العامين الأخيرين تقلبات مثيرة للجدل، إقليميًّا ودوليًّا، حيث اتخذت الخرطوم سلسلة من الخطوات المتتابعة التي تكشف عن الانتقال من تحالف لآخر في المنطقة ومحاولة موازنة العلاقات المتوترة مع الغرب، بعلاقات متنامية مع روسيا، والسعي لتسوية الملفات الخلافية مع دول الجوار، خاصة أوغندا وتشاد.
ويُمثل هذا التحول في توجهات السياسة الخارجية السودانية امتدادًا للطبيعة البراجماتية لنظام الانقاذ منذ اعتلائه سدة الحكم عام 1989، حيث دأب على تغيير خارطة تحالفاته وعلاقاته الخارجية بشكل دراماتيكي، يستعصي في كثير من الأحيان على توقعه. لكن الجديد في التحولات الأخيرة أنها أصبحت تحدث بشكل متسارع على كل الجبهات بشكل متوازٍ.
وعلى ذلك، يسعى هذا التقرير إلى تحليل أبرز التحولات الراهنة في السياسة الخارجية السودانية، وبيان دوافعها، وانعكاساتها بالنسبة للخرطوم، ومدى تأثيرها على المصالح الوطنية لدول الجوار.
التحالف الاستراتيجي مع إيران:
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران عام 1974، بافتتاح السفارة السودانية بطهران، في ظل تلاقي نظامي إيران الشاه وسودان النميري، بشأن الدوران في الفلك الأمريكي، لكن العلاقات بينهما انحسرت إثر الثورة الإيرانية عام 1979، وتأييد السودان للعراق في حربه ضد إيران. ثم أخذ منحنى العلاقة في التصاعد في عهد الصادق المهدي، وصولًا لمستوى التحالف الاستراتيجي في ظل نظام الإنقاذ الوطني.
ويعود تنامي العلاقات بين الدولتين في تلك المرحلة إلى عوامل عديدة، أهمها: التوجه الإسلامي المشترك، والاستهداف الخارجي، ووقوفهما ضد الضغوط الأمريكية الغربية، حيث رأت إيران في السودان مدخلًا لمد نفوذها الثوري الشيعي في الدائرتين العربية والإفريقية. فيما رأت الخرطوم في طهران حليفًا قادرًا على إخراجها من عزلتها الدولية، التي ازدادت إحكامًا بعد ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للبشير منذ عام 2009.
كما سعت السودان للاستفادة من الخبرات الصناعية الإيرانية، مدنيًّا وعسكريًّا، بدلًا من التقيد باستخدام السلاح الروسي والصيني، مع الاستفادة من الدعم الإيراني في تخفيف وطأة الديون الخارجية وتحسين أوضاع الاقتصاد.
وتنوعت مظاهر التحالف السوداني الإيراني، كمًّا ونوعًا، على مستوى تبادل الزيارات، والتنسيق السياسي، والاستثمار، والتجارة، وقطاع الزراعة، والطاقة، والبنية الأساسية، والخدمات الصحية، والتبادل العلمي، والتدريب العسكري والاستخباراتي والقضائي والتسليح، حتى إن الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد أكد لدى زيارته الخرطوم عام 2007 أن العلاقات بين الدولتين لا سقف لها.
التحول تجاه الخليج العربي:
أيقنت السودان أن علاقتها بإيران قد زادتها عزلة، وأن طهران خذلتها سياسيًّا، برفضها التدخل في صراعات الجنوب ودارفور. كما أنها عرّضتها للغارات الجوية الإسرائيلية في أكتوبر ٢٠١٢، دون أن يكون لذلك مردود اقتصادي كبير. وتسببت هذه العلاقة في اتخاذ إجراءات عقابية خليجية ضد الخرطوم بعد استضافة سفن حربية إيرانية بميناء بورتسودان أواخر عام ٢٠١٢.
كما أن السودان لم يستفد كثيرًا من الاقتصاد الإيراني المحاصر، فظل حجم التجارة والاستثمارات والمساعدات الإيرانية للسودان متواضعًا للغاية، ولا يتسق مع تنامي العلاقات السياسية والثقافية، ولا يكافئ ما تقدمه الخرطوم من تسهيلات لطهران.
ولهذا، دأب الرئيس عمر البشير على تأكيد أن الحصار الاقتصادي المفروض على السودان هو ضريبة تدفعها الخرطوم بسبب موقفها من قضية القدس وعلاقتها بإيران. وكان ذلك إيذانًا بتحول السودان من علاقتها بإيران، أو بالأحرى "التخلص منها"، صوب توثيق العلاقات مع دول الخليج العربي، وهو ما تم عبر أربع خطوات متتابعة، هي: إغلاق المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم في سبتمبر 2014، والمشاركة في عملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين باليمن في مارس 2015، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في يناير 2016 إثر التوتر بين السعودية وإيران نتيجة إعدام رجل الدين السعودي الشيعي نمر النمر، والمشاركة في مناورات "رعد الشمال" بالمملكة العربية السعودية في مارس ٢٠١٦.
وبالفعل تمكنت السودان من تخفيف وطأة الضغوط الاقتصادية، بعد تلقيها دفعات من المساعدات الخليجية. كما نجحت المفاوضات السودانية والوساطة الخليجية في إقناع الولايات المتحدة برفع العقوبات الاقتصادية عنها، ولو جزئيًّا، حيث اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قرارًا بذلك في يناير 2017، ليتم تنفيذه في أكتوبر من العام ذاته، بالإفراج عن الأرصدة السودانية بالبنوك الأمريكية، وإتاحة المبادلات التجارية والاستثمار.
ولا تزال السودان تتمسك بتوثيق علاقاتها على هذا المحور، بغية الحصول على مزيد من المكاسب، وهو ما دفعها لاتخاذ موقف الحياد مع اندلاع الأزمة القطرية في ٥ يونيو 2017، لتورطه في دعم الإرهاب بالشرق الأوسط.
توثيق العلاقات مع تركيا:
توافقت رغبة النظام السياسي السوداني مع نظيره التركي على ضرورة توثيق العلاقات بين الجانبين، لا سيما مع سياسة انفتاح أنقرة على دول القارة الإفريقية، والتي تمت صياغتها قبل خمسة عشر عامًا، بهدف ممارسة دور فاعل على المستوى الدولي، بعد تعثر محاولات الانضمام للاتحاد الأوروبي، واكتساب التأييد الإفريقي للقضايا التركية، والاستفادة من ثروات القارة وسوقها الواسعة.
وتنامت العلاقات السودانية-التركية بشكل لافت، فازداد حجم التبادل التجاري ليصل إلى نصف مليار دولار، وبلغت قيمة الاستثمارات التركية بالسودان 2 مليار دولار خلال عام ٢٠١٦. كما أقيم بأنقره فرع لجامعة النيلين السودانية (جامعة القاهرة فرع الخرطوم سابقًا) في أبريل ٢٠١٦. وتُوج ذلك بزيارة الرئيس رجب طيب أردوغان للسودان في ٢٤ ديسمبر 2017، في أول زيارة لرئيس تركي للخرطوم منذ استقلالها عام 1956، حيث حصلت أنقرة على امتياز إعادة تأهيل شبه جزيرة سواكن السودانية على البحر الأحمر.
وربما يمهد هذا لإنشاء قاعدة تركية على البحر الأحمر، بعدما تم تدشين القاعدة التركية بالصومال في أكتوبر 2017.
التحالف مع إثيوبيا:
تنامت العلاقات السودانية-الإثيوبية بعد اتفاق الدولتين على الوقف المتبادل لكافة أشكال الدعم للمعارضة السياسية والمسلحة. ثم اتخذت العلاقات مسارًا تصاعديًّا بالتوافق على تسوية النزاع الحدودي بمنطقة الفشقة، وتوقيع العديد من الاتفاقيات لتعزيز التجارة والاستثمار والنقل البري والربط الكهربائي.
ومع تدشين مشروع سد النهضة الإثيوبي، أمسكت السودان بالعصا من المنتصف، بعدم التوقيع على اتفاق عنتيبي، دون الاعتراض على إنشاء السد، متخذة موقف الوسيط في الأزمة، رغم كونها شريكًا أساسيًّا فيها. لكن بمرور الوقت انحازت الخرطوم لأديس أبابا، فتحولت إلى داعم أساسي للسد. وتجلى ذلك في إعلان البشير تأييده الصريح لإنشاء السد في ديسمبر 2013، وتوقيع اتفاق دفاعي بين الدولتين في مايو 2014، لتشكيل قوات مشتركة لتعزيز أمن الحدود، ومواجهة أي عدوان أو تهديد خارجي محتمل.
وقد أسست السودان هذا الموقف على أساس اعتبارين هما: الجدوى الاقتصادية المباشرة لإنشاء السد، والمصالح والاعتبارات السياسية، حيث تنخرط إثيوبيا في كل قضايا السودان، باستضافتها المفاوضات بين نظام الإنقاذ ومعارضيه، وكذا بين الخرطوم وجوبا، ووجود قواتها في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان.
توازن مع الغرب:
تمثل زيارة الرئيس عمر البشير لروسيا في 22 نوفمبر 2017 الخطوة الأهم لتحولات السياسة الخارجية السودانية، والتي سعى خلالها النظام السوداني لإيجاد توازن جديد في علاقاته بالدول الغربية التي تعتبرها الخرطوم السبب الأساسي فيما تعانيه من مشكلات.
وجاءت الزيارة في توقيت يسعى فيه النظام السوداني لتوسيع هامش المناورة الاستراتيجي مع الغرب، عبر الاستعانة بظهير مساند بحجم وقوة روسيا، خاصة بعد الدور المحوري الذي لعبته في سوريا. إذ يأمل في الاستفادة من ورقة الضغط الروسية في دفع الولايات المتحدة والغرب لرفع اسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، حيث إن وجودها بهذه اللائحة يعني استمرار أربع عقوبات على الأقل هي: حظر تصدير السلاح للسودان، وتقييد بيع وتصدير السلع ذات الاستخدام المشترك (مدنية وعسكرية)، وحظر تلقي المساعدات التنموية والقروض من المؤسسات التمويلية الدولية، والحرمان من الإعفاءات الأمريكية المتعلقة بالديون الخارجية.
تحول مصلحي:
من العرض السابق لتحولات السياسة الخارجية السودانية بين الدول الإقليمية المختلفة، يمكننا الإشارة إلى جملة من الملاحظات، هي:
1- لم يحرص النظام السوداني على صياغة استراتيجية راسخة على المدى البعيد لسياسته الخارجية، وهو ما صبغ العلاقات الخارجية السوادنية بالتوتر والاضطراب، وجعلها أقرب للتحالفات التكتيكية سريعة التغير.
2-معظم تحولات السياسة الخارجية السودانية تتخذ في إطار الدائرة المغلقة المحيطة بالرئيس عمر البشير في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والأجهزة الأمنية، بعيدًا عن البرلمان.
3-أغلب تحولات السياسة الخارجية السودانية ترتبط برغبة نظام البشير في الحفاظ على بقائه أكثر منها بالمصالح العليا للدولة السودانية. وقد اتضح ذلك لدى قطع العلاقات مع إيران، رغم أن الخرطوم لم تكن طرفًا في الأزمة السعودية-الإيرانية، وأنه كان بإمكانها اتخاذ موقف أكثر توازنًا، يحافظ على العلاقات مع الدولتين معًا.
4-أدى تقلب السياسة الخارجية لنظام عمر البشير إلى عدم قدرة السودان على استثمار موقعها الجغرافي في ممارسة دور إقليمي فاعل في تحقيق التواصل العربي-الإفريقي، وصيانة الأمن القومي العربي، بدلًا من استعداء الدول، وتهديد أمنها.