تراجع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن الاستقالة التي أعلنها على حسابه بموقع "انستغرام" بعد رفض الرئيس حسن روحاني لها وتدخل بعض المسئولين الإيرانيين، وفي مقدمتهم قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، الذي شارك في اللقاءين اللذين جمعا الرئيس السوري بشار الأسد مع كل من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والرئيس روحاني. وربما يمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة لا تنفصل عن محاولات إيران الاستعداد للمرحلة القادمة التي سوف تشهد، على الأرجح، تصاعد حدة وتأثير العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وعن توازنات القوى السياسية التي يجري العمل على إعادة ضبط اتجاهاتها تمهيدًا للاستحقاقات السياسية القادمة وعلى رأسها الانتخابات البرلمانية والرئاسية اللتين سوف يتم إجراءهما في عامى 2020 و2021.
متغيرات عديدة:
أثارت استقالة ظريف ردود فعل داخلية وخارجية سريعة دفعت بعض المسئولين الإيرانيين إلى التدخل من أجل احتواء تداعياتها، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء عوامل رئيسية ثلاثة تتمثل في:
1- منع تفاقم الانقسام: يبدو أن مسارعة النظام إلى التدخل لإقناع ظريف بالتراجع عن استقالته تعود إلى سعيه إلى نفى الرسالة التي عسكتها الاستقالة بوجود انقسام حاد فيما بين مؤسساته، نتيجة الضغوط التي يتعرض لها بسبب العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية والخلافات التي يتسع نطاقها مع الدول الأوروبية.
ولذا لم يكن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بعيدًا عن الجهود التي بذلت لإقناع ظريف بالتراجع عن الاستقالة، حيث كان لافتًا أن قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني حرص على تأكيد أن ظريف يحظى بتأييد المسئولين في النظام وعلى رأسهم المرشد علي خامنئي، في سياق محاولاته نفى أن يكون تغييب ظريف عن اللقاءين اللذين عقدهما الأسد مع خامنئي وروحاني متعمدًا.
ولذلك أيضًا تعمد ظريف الإيحاء بأن المرشد كان له دور في تراجعه عن الاستقالة، حيث نشر تغريدة على حسابه بموقع "انستغرام" أشار فيها إلى أن "تصريحات سليماني والرسالة السخية لرئيس الجمهورية والموقف الأبوى للمرشد عززت عزمي أنا وزملائي في وزارة الخارجية في سبيل الدفاع عن المصالح الوطنية والدفاع عن حقوق الشعب".
وبعبارة أخرى، فإن النظام اعتبر أن استقالة ظريف قد توجه إشارة إلى واشنطن بأن الضغوط التي تفرضها عليه أدت إلى إضعافه وتوسيع نطاق الخلافات بين مؤسساته، على نحو قد يدفعها، وفقًا لهذه الرؤية، إلى تصعيد حدة ضغوطها في المرحلة القادمة.
2- الاحتفاظ بخيار التفاوض: لا يمكن استبعاد أن يُقدِم النظام، في مرحلة ما، على الاستناد إلى خيار التفاوض من جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى رغم رفضه الحالي له وحرصه على تأكيد أن الاتفاق النووي هو أفضل وأقصى ما يمكن الوصول إليه. وتفيد خبرة تعامل هذا النظام مع الضغوط القوية التي يتعرض لها من الخارج بأنه دائمًا ما يحتفظ بهذا الخيار لتجنب مواجهة عواقب توسيع نطاق التصعيد أو الوصول به إلى مرحلة غير مسبوقة قد تفتح الباب أمام خيارات أخرى لا يحبذها، وفي مقدمتها الخيار العسكري.
وهنا، فإن ظريف قد يكون هو الشخص الذي يستطيع تحقيق هذا الهدف، في رؤية النظام، خاصة في ظل قربه من المرشد، وهو المتغير الأساسي الذي عزز موقعه في المفاوضات التي أجريت مع مجموعة "5+1" وانتهت بالوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015.
وكان لافتًا في هذا السياق، أن المرشد حرص، في مناسبات عديدة، على الإشادة بدور وزير الخارجية، وتجنب، في أحيان كثيرة، المشاركة في المساعي التي بذلها تيار المحافظين الأصوليين لتحميله، مع الرئيس روحاني، مسئولية ما آل إليه الاتفاق النووي في النهاية بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه وفرضها عقوبات جديدة على إيران، رغم أن تلك الحملة كانت بضوء أخضر منه.
3- ضبط توازنات القوى: كان رفض الاستقالة هو رد الفعل المباشر من جانب الرئيس حسن روحاني، الذي يبدو أنه حرص على التدخل سريعًا من أجل إقناع ظريف بالتراجع عنها. وقد شارك تيار المعتدلين الرئيس روحاني في هذه الجهود، بعد أن وجه عدد كبير من نوابه في مجلس الشورى رسالة إلى الرئيس تطالبه برفض الاستقالة.
ويبدو أن ذلك يعود إلى أسباب رئيسية ثلاث: أولها، أن استقالة ظريف سوف تضعف موقع الرئيس حسن روحاني، لأنها تعني أن الأخير سوف يبقى وحيدًا في مواجهة الضغوط التي يمارسها تيار المحافظين الأصوليين ضده، حيث يستغل هذا التيار تراجع العوائد الاقتصادية من الاتفاق النووي، بسبب العقوبات الأمريكية، للترويج إلى أن حكومة روحاني قدمت تنازلات كبيرة مقابل امتيازات متواضعة على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي.
وثانيها، أن تيار المحافظين الأصوليين قد يستغل الاستقالة من أجل ممارسة ضغوط لتعيين شخصية قريبة منه، أو محسوبة على الحرس الثوري، في منصب وزير الخارجية، حيث ظهرت بالفعل ترشيحات عديدة في هذا السياق، منها حسين امير عبد اللهيان المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى، الذي سبق أن نقل، في يونيو 2016، من وزارة الخارجية وأشارت تقارير عديدة إلى أن ظريف نفسه أطاح به، ومساعد وزير الخارجية عباس عراقجي وغيرهما.
وثالثها، أن هذه الخطوة يمكن أن تقلص من احتمالات نجاح تيار المعتدلين في الوصول إلى شخصية تحظى بإجماع داخله تستطيع المنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، التي لن يترشح فيها الرئيس حسن روحاني، الذي تولى منصه لفترتين رئاسيتين.
وهنا، لا يمكن استبعاد أن يكون ظريف نفسه أحد المرشحين المحتملين في هذا السياق، لاعتبارات عديدة، أهمها أنه إلى جانب شعبيته داخل تيار المعتدلين، يحظى بثقة المرشد علي خامنئي، ويؤسس علاقات قوية حتى مع قادة الحرس الثوري، مثل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، الذي حرص على تأكيد أن "ظريف هو المسئول عن السياسة الخارجية" في سياق مساعيه لإقناع الأخير بالعدول عن استقالته، وهو ما قد يعزز قدرته على منافسة المرشحين المحتملين لتيار المحافظين الأصوليين، الذي يسعى إلى استعادة منصب رئيس الجمهورية بعد أن فشل في ذلك خلال الفترتين الرئاسيتين الأخيرتين.
ويكتسب هذا الهدف أهمية خاصة من جانب تيار المعتدلين، باعتبار أن خسارة منصب الرئيس قد يكون بداية لتصفية نفوذه داخل مؤسسات النظام، على غرار ما حدث عقب انتهاء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأسبق محمد خاتمي في عام 2005.
ومع ذلك، يمكن القول إن تراجع ظريف عن الاستقالة لا يمثل نهاية المطاف للأزمات العديدة التي يواجهها النظام الإيراني في المرحلة الحالية. إذ لا يمكن استبعاد أن تندلع أزمات أخرى، باعتبار أن أسبابها الحقيقية ما زالت قائمة وقد يتصاعد تأثيرها خلال المرحلة القادمة، لا سيما بعد أن تتفاقم الضغوط التي تتعرض لها إيران، بسبب العقوبات التي تفرضها واشنطن واقتراب المواقف الأوروبية تدريجيًا من السياسة الأمريكية.