تسعى إيران في الفترة الحالية إلى تكريس وجودها العسكري داخل سوريا استعدادًا للمسارات المحتملة التي قد يتجه إليها الصراع السوري خلال المرحلة القادمة، حيث نشرت تقارير عديدة مؤخرًا صورًا فضائية التقطت، على ثلاث مراحل مختلفة على مدار العام وحتى منتصف الشهر الجاري، عملية إنشاء قاعدة ايرانية فى منطقة الكسوة جنوبى سوريا، بشكل طرح تساؤلات عديدة حول الأهداف التي تحاول إيران تحقيقها من خلال ترسيخ وجودها العسكري داخل سوريا، لا سيما بعد أن تجاوز حدود الدور المعلن بإسناد ودعم نظام الرئيس بشار الأسد، ليمتد إلى نقل قدرات غير تقليدية على غرار القدرات الصاروخية إلى خارج حدودها.
خريطة متشابكة:
تتباين التقديرات العسكرية حول حجم الوجود العسكري الإيراني في سوريا بين 5 قواعد وفقًا لتقديرات دولية و13 قاعدة طبقًا لتقارير إسرائيلية غير رسمية. ورغم هذا التفاوت فى التقديرات، والذي فرضه اختلاف حسابات الانتشار في نقاط مختلفة بين قواعد مركزية ومواقع انتشار مؤقتة وفقًا لطبيعة العمليات العسكرية والجيوسياسية مرحليًا، إلا أنه يلاحظ أن القاسم المشترك فى أغلب تلك التقديرات يشير إلى وجود تمركزات عسكرية على الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، التي تشمل القاعدة المركزية والجبهة الجنوبية والجبهة الشرقية والجبهة الشمالية.
وتعتبر الميليشيات المسلحة إحدى أهم الآليات التي تستخدمها إيران في دعم وجودها العسكري داخل سوريا، حيث تشير تقارير إلى أنها تضم نحو 5 آلاف عنصر، إلا أن تقارير أخرى ترى أن العدد الحقيقي قد يتجاوز 20 ألف عنصر، وتضم قوات من الجيش والتعبئة "الباسيج" و"فيلق القدس" التابع للحرس الثوري وميليشيات أخرى من المتطوعين الأجانب من أفغانستان وباكستان والعراق، إلى جانب تشكيلات من قوات النظام السوري وميليشيا "حزب الله"، وهى الميليشيات التي تخوض المواجهات الميدانية في أغلب المعارك للسيطرة على مزيد من المواقع من قوى المعارضة وتنظيم "داعش" لصالح النظام.
فضلاً عن ذلك، أشارت تقارير روسية إلى أن إيران تسعى إلى تأسيس قاعدة بحرية تابعة لها في اللاذقية بالقرب من مطار حميميم، الذي يعتبر المركز الرئيسي للقوات الجوية الروسية. كما يبدو أن إيران قامت بنقل طائرات من دون طيار من طراز "شاهد 129" إلى مطار السين العسكري على الطريق الدولي دمشق- بغداد في عمق البادية السورية داخل منطقة متاخمة لمعبر "الوليد" في التنف على الحدود السورية– العراقية، والتي توجد على مسافة قريبة من القاعدة الأمريكية في التنف. وقد أسقطت قوات التحالف الدولي ضد "داعش" إحدى تلك الطائرات في 20 يونيو 2017.
وبالإضافة إلى ذلك، بدأت إيران، حسب اتجاهات عديدة، في نقل قدرات غير تقليدية إلى داخل سوريا، حيث تتجه إلى بناء مصانع صواريخ ومنشأة عسكرية بالقرب من طرطوس التي تشهد بناء ميناء إيراني آخر، ربما يتم استخدامه في إنتاج صواريخ باليستية بإشراف إيراني.
وبالتوازي مع ذلك، كان لافتًا أن إيران قامت، في 18 يونيو 2017، بإطلاق صواريخ باليستية على مدينة دير الزور انطلاقًا من محافظتى كرمنشاه وكردستان، وهو ما سعت من خلاله إلى تأكيد نفوذها داخل سوريا وصعوبة استبعادها من أية ترتيبات سياسية أو أمنية قد تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية إلى صياغتها خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد التفاهمات التي توصلت إليها روسيا وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل حول التطورات الميدانية الأخيرة.
تأثيرات محتملة:
ربما تفرض هذه السياسة الجديدة التي بدأت إيران في تبنيها للتعامل مع التطورات السياسية والميدانية التي تشهدها سوريا تداعيات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- ترسيخ الوجود الإيراني في سوريا: فعلى الرغم من أن ايران حرصت في بداية تدخلها في الصراع السوري على تأكيد أن دعمها للقوات النظامية السورية يقتصر على الجانب الاستشاري فقط، إلا أنه عمليًا وبمرور الوقت تم الكشف عن دورها المركزي في إدارة الحرب على الساحة السورية، وتوازى ذلك مع تأسيس بنية تحتية عسكرية تدريجيًا ثبت بعد ذلك أنها تتجاوز الحسابات العلنية على الساحة السورية إلى الدور الإقليمي الأوسع الذي تسعى إيران إلى دعمه انطلاقًا من سوريا بعد أن نجحت في توسيع نطاق نفوذها داخل العراق، عقب سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين عام 2003.
2- تقسيم سوريا عسكريًا: فوفقًا لخريطة الانتشار الحالية في سوريا، يمكن القول إن بعض القوى الدولية والإقليمية المعنية بالصراع السوري، تسعى إلى تأسيس قواعد عسكرية تابعة لها في مناطق مختلفة داخل سوريا، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا إلى جانب تركيا، بشكل دفع إيران إلى تبني السياسة نفسها، بهدف تكريس دورها داخل سوريا خلال المرحلة القادمة.
3- دعم استمرار الصراع في سوريا: خاصة في ظل تصاعد حدة التوتر بين إيران وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، سواء بسبب الاتفاق النووي أو بسبب برنامج الصواريخ الباليستية، وهو ما يمكن أن يعزز من إمكانية نشوب مواجهة عسكرية قد تنخرط فيها أى من تلك الأطراف خلال المرحلة القادمة، بشكل يبدو أنه سوف يدفع إيران إلى عرقلة الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للأزمة بهدف الحفاظ على وجودها العسكري داخل سوريا ومواصلة التنسيق السياسي والعسكري مع روسيا.
4- تغيير قواعد الاشتباك الإقليمي: لا سيما أن إيران تحاول من خلال تأسيس قواعد عسكرية ومصانع صواريخ داخل سوريا نقل المواجهات معها إلى خارج حدودها، خاصة بالقرب من إسرائيل، بشكل يمكن أن يقلص من تداعيات أية ضربات عسكرية قد تتعرض لها جبهتها الداخلية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم "داعش" داخل سوريا والعراق، عمليًا، فإن الصراع القادم سوف يتركز على الوجود العسكري الإيراني داخل سوريا، باعتبار أن إيران تسعى من خلال ذلك إلى تغيير توازنات القوى الإقليمية استعدادًا للمسارات المحتملة للتوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بسبب البرنامجين النووي والصاروخي