تسعى الدول الأوروبية إلى تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، خاصة أنها ترى أن التداعيات التي يمكن أن يفرضها انهياره قد تكون وخيمة على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط. لكن الجهود التي تبذلها تلك الدول في هذا السياق تواجه عقبات لا تبدو هينة، سواء بسبب حرص الولايات المتحدة الأمريكية على فرض مزيد من العقوبات على إيران، أو بسبب إصرار الأخيرة على مواصلة أنشطتها لتطوير برنامجها للصواريخ الباليستية، ومحاولة استغلال الاتفاق النووي لتوسيع نطاق نفوذها في المنطقة من خلال دعم التنظيمات الإرهابية وتأسيس علاقات مع فواعل من غير الدول.
محددات رئيسية:
هذه العقبات دفعت الدول الأوروبية إلى تبني سياسة تقوم على محددات ثلاثة رئيسية: الأول، دعم فرص استمرار التزام إيران بالجوانب الفنية في الاتفاق، على غرار تخفيض مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 3.5% وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي التي تستخدمها في عمليات التخصيب، ونقل المياه الثقيلة التي تمتلكها إلى الخارج وغيرها.
والثاني، محاولة إقناع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضرورة تغيير سياستها إزاء الاتفاق، من خلال عدم وضع عراقيل أمام استمرار العمل ومنح الفرصة للمتشددين في إيران من أجل ممارسة ضغوط لاتخاذ إجراءات تصعيدية مقابلة، بشكل قد يؤدي في النهاية إلى التأثير على مواصلة العمل بالاتفاق ويعزز من احتمالات عودة أزمة الملف النووي الإيراني إلى مربعها الأول من جديد قبل الوصول إلى الصفقة الأخيرة.
والثالث، مطالبة إيران بالتوقف عن اتخاذ مزيد من الخطوات الاستفزازية، التي يتمثل أبرزها في إجراء مزيد من التجارب الخاصة بإطلاق الصواريخ الباليستية، والتي تدفع الإدارة الأمريكية إلى فرض مزيد من العقوبات وتساهم في تضييق هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمام الدول الأوروبية في مساعيها للتأثير على الموقف الأمريكي من الاتفاق.
هذه المحددات الثلاثة دفعت الدول الأوروبية إلى توجيه رسائل مزدوجة إلى طرفى التصعيد الحالي: إيران والولايات المتحدة الأمريكية. فقد بدا لافتًا أن منسقة الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني حرصت على المشاركة في مراسم أداء الرئيس الإيراني حسن روحاني اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة في 5 أغسطس 2015، وأكدت على "الدعم الأوروبي الحازم للاتفاق النووي".
وقد سعت موغيريني إلى توسيع هامش لقاءاتها مع بعض المسئولين والشخصيات الإيرانية خلال زيارتها الأخيرة لإيران، وفي مقدمتهم الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف ومستشار المرشد للعلاقات الدولية على أكبر ولايتي، إلى جانب مشاركتها في طاولة مستديرة مع رئيس مجلس السياسة الخارجية الإيرانية وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي، حيث أشارت في تلك اللقاءات، حسب تقارير إعلامية إيرانية، إلى أهمية الاتفاق النووي ودوره في تعزيز الاستقرار في المنطقة والعالم.
مشاركة موغيريني في مراسم تنصيب روحاني، والتي أثارت جدلاً داخليًا بعد أن أعربت اتجاهات عديدة في إيران عن استياءها إزاء حرص بعض نواب مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) على التقاط صور سيلفي معها بل إن البعض طالب بإحالة هؤلاء النواب للتحقيق، كانت تهدف إلى توجيه رسالة مباشرة إلى طهران مفادها أن الاتفاق النووي ساهم في إحداث نوع من التقارب السياسي بين الطرفين، ربما يتجاوز الجوانب الفنية للاتفاق النووي ويمتد إلى الملفات الأخرى الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب الطرفين.
هذا الاهتمام الأوروبي بالانخراط في محادثات مع إيران حول ملفات المنطقة، بدا جليًا في اللقاء الذي جمع بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في 29 يونيو 2017، حيث كان الملف السوري إلى جانب الأزمة القطرية هو العنوان الرئيسي في المحادثات.
لكن بالتوازي مع ذلك، بدا لافتًا أن الدول الأوروبية بدأت في التوافق مع السياسة الأمريكية تجاه بعض القضايا المرتبطة بالاتفاق النووي، وعلى رأسها التجارب الإيرانية الخاصة بالصواريخ الباليستية.
فقد حرصت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا على مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه رسالة إلى مجلس الأمن للتنديد بإطلاق إيران صاروخ قادر على حمل أقمار صناعية، في 27 يوليو 2017.
ففي رؤية الدول الأربعة، فإن هذه الخطوة تتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صدر بعد الوصول للاتفاق النووي وألغى القرارات السابقة التي فرضت بمقتضاها عقوبات دولية على إيران، باعتبار أن هذا القرار يطالب إيران بالامتناع عن إجراء أنشطة تتعلق بتطوير الصواريخ الباليستية.
ثغرات الاتفاق:
ورغم أن ذلك يوحي بأن ثمة تناقضًا في مواقف الدول الأوروبية المعنية بالاتفاق النووي، بين حرصها على استمرار العمل به ورفضها في الوقت ذاته لبعض الإجراءات الإيرانية المرتبطة به، إلا أن ذلك ربما يمكن فهمه في إطار إدراك تلك الدول بأن الصيغة القانونية لقرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي أضفى شرعية دولية على الاتفاق النووي سمحت لإيران بذلك ووفرت لها هامشًا من المناورة حاولت من خلاله الالتفاف على بعض بنوده، خاصة فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية.
إذ أن إيران استندت إلى أن القرار يطالبها بعدم إجراء أنشطة خاصة بتطوير صواريخ مصممة لحمل أسلحة نووية، لتأكيد أن أنشطتها في هذا الصدد شرعية ولا تتعارض مع القرار، باعتبار أن الصواريخ التي تمتلكها ليست مصممة، في رؤيتها، لحمل أسلحة النووية، بما يعني، وفقًا لها، أنها تخرج عن نطاق الحظر الذي يفرضه القرار.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن الدول الأوروبية تسعى في المرحلة الحالية إلى ضمان استمرار إيران في الالتزام بالجوانب الفنية الأساسية الخاصة بالاتفاق، مع حثها في الوقت ذاته على عدم منح الفرصة لأطراف متحفظة تجاهه من أجل عرقلة مواصلة العمل به خلال الفترة القادمة.
عقبات عديدة:
لكن هذه الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية يبدو أنها سوف تواجه صعوبات عديدة في المرحلة المقبلة. إذ تكشف المؤشرات أن الإدارة الأمريكية في طريقها إلى تصعيد حدة مواجهتها مع إيران، رغم إقرارها بالتزام الأخيرة بالجوانب الفنية في الاتفاق، حيث يتوقع أن تجدد فرض مزيد من العقوبات على إيران بسبب برنامجها للصواريخ الباليستية ودعمها لبعض التنظيمات الإرهابية في المنطقة.
كما أن المحافظين المتشددين في إيران يصرون على عدم منح الفرصة لروحاني لتقليص حدة التوتر مع واشنطن، وقد كان عزوف القادة البارزين في الحرس الثوري، مثل محمد علي جعفري وقاسم سليماني، عن حضور مراسم أداء روحاني اليمين الدستورية، بمثابة رسالة للأخير بأن الحرس سوف يستمر في نهجه رغم معارضته لذلك.
ويبدو أن روحاني نفسه بدأ في توجيه إشارات بأن التصعيد الأمريكي المستمر سوف يؤدي إلى تقريب وجهات النظر بينه وبين خصومه السياسيين، في إطار محاولته ممارسة ضغوط على الأوروبيين والأمريكيين في الوقت نفسه، وهو ما انعكس في خطابه الذي ألقاه خلال مراسم أداءه اليمين الدستورية، في حضور فيديريكا موغيريني، حيث هدد بأن "إيران سوف ترد بشكل مناسب على أى مساس أمريكي بالاتفاق النووي".
من هنا، يمكن القول في النهاية إن الدول الأوروبية تواجه خيارات محدودة في مساعيها لدعم فرص مواصلة العمل بالاتفاق النووي، في ظل التصعيد المستمر بين واشنطن وطهران، والذي لا يبدو أنه سيتراجع خلال المرحلة القادمة.