يُعد دونالد ترامب رئيساً لا مثيل له، حيث لديه القدرة على إثارة كمٍ من المشاعر المتناقضة، من الولاء والبغض، لم نشهده من قبل في السياسة الأمريكية الحديثة، فهو يمثل للبعض صوت المغدور بهم، الذين تعرضوا لهجوم لا هوادة فيه على يد ائتلاف دولة عميقة تحايلت بلا رحمة (بمساعدة وسائل الإعلام ونخبة من المنظمات غير الحكومية والقضاة الحزبيين) على القانون والعرف الأمريكيين، وتآمرت ضده أثناء فترة حكمه، بل وأخّرت نشر لقاح "كوفيد19" من أجل إعادة ما ترى أنه الطبقة الحاكمة الشرعية.
أما البعض الآخر فيرونه مراوغاً استغل الفقراء والمهمشين لإرضاء غروره وحشد المزيد من الثروات، وتسبب في سبيل ذلك بتعميق الانقسامات وتعريض مؤسسات الدولة للخطر في محاولاته العبثية للاحتفاظ بالسلطة بأي وسيلة، سواءً أكانت شرعية أم لا.
فبطبيعته، يعد ترامب شخصية مستقطبة، على الرغم من خسارته الانتخابات الرئاسية السابقة، لكنه مع ذلك لا يزال حاضراً على الساحة السياسية، وفاجأ الجميع بظهوره في المقدمة كمرشح للانتخابات الرئاسية التالية لعام 2024. ولكن كيف حدث هذا؟
فهم الناخبين الأمريكيين
يتعين على المرء أولاً دراسة طبيعة الناخبين الأمريكيين من أجل تحليل هذه الظاهرة تحليلاً وافياً، فالولايات المتحدة منقسمة سياسياً حالياً إلى معسكرين لهما وجهات نظر مختلفة اختلافاً جذرياً حول دور الحكومة في المجتمع، مع وجود مجموعة كبيرة (ومتنامية) من السياسيين المستقلين في المنتصف بينهما. وعلى المرشح الرئاسي – إذا أراد الفوز – زيادة أعداد الناخبين من قاعدته، بالإضافة إلى إقناع عدد من المستقلين بأن فوزه هو أفضل طريقة للمضي قدماً.
ولطالما كان ترامب المرشح الأقل جاذبية بالنسبة للنخب الحزبية في كلا الحزبين، فلم يكن جاذباً سوى للناخبين غير المتعلمين والعاملين بالريف والمصانع الذين طالما عُدوا ناخبين ديمقراطيين. ولقد كسب ودهم في عام 2016 عندما أشار إلى أن الصناعة الأمريكية (ووظائف العمال ذوي المهارات المتدنية وغير المتعلمين) قد تراجعت خلال ثماني سنوات من الحكم الديمقراطي، وستستمر في التدهور في ظل هيلاري كلينتون، التي كانت ذائعة الصيت ولكن بلا شعبية واسعة.
وبحلول عام 2020، صار انعدام شعبية ترامب بين العديد من الأمريكيين يضاهي على الأقل انعدام شعبية هيلاري كلينتون في عام 2016. وأدى مقتل جورج فلويد في مينيابوليس إلى تعبئة الناخبين الأمريكيين من أصل إفريقي في الحزب الديمقراطي، وشحذ نشاطهم ليصل إلى مستوى أعلى بكثير من النشاط الذي كانوا عليه في عام 2016. كما قللت القيود المفروضة بسبب "كوفيد19"من خيار حملة ترامب المفضل، ألا وهو حشد تجمعات كبيرة لصالحه، وكذلك أنقذت جو بايدن المُسن من مشقة الخروج في حملات عادية. وبسبب تحرير وسائل الاقتراع نتيجة لانتشار كوفيد (حيث شملت الاقتراع الغيابي والاقتراع عبر البريد) بلغ الإقبال على التصويت في المناطق التي كانت متشككة في ترامب مستويات غير مسبوقة.
في هذا الإطار عادة ما يتصاعد السؤال، لماذا عاد ترامب عنصراً من عناصر سياسات الرئاسة اليوم؟
أسباب عودة ترامب
أولاً: ترتبط أسباب عودة ترامب بالعثرات الاقتصادية والسياسية لإدارة بايدن، ففي عهده وصل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من جيل مضى، حيث ارتفعت أسعار البنزين ارتفاعاً ملحوظاً منذ أن تولى بايدن منصبه، ولا تزال أعلى بكثير مما كانت عليه إبان إدارة ترامب (ومن المعروف أن مقياس السعر الرئيسي الذي يستخدمه معظم الناخبين من الطبقة المتوسطة والدنيا هو سعر البنزين، فهو السلعة الوحيدة التي يُعلن سعرها على اللافتات في جميع أنحاء البلاد والتي تُشترى بانتظام). وعلى الرغم من أن المؤشرات المالية الأخرى سيئة كذلك، فإن زيادة أسعار البنزين لا تزال هي الأكثر تأثيراً في الناخبين.
ثانياً: أضر الانسحاب الكارثي من أفغانستان بصورة بايدن وسمعته كطرف موثوق به في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من سعي إدارة بايدن إلى تصوير كل هذا على أنه نتيجة طريقة تعامل ترامب مع طالبان، يبدو أن الناخبين المترددين لا يميلون سوى إلى تذكر من كان في السلطة عندما تم اتخاذ قرار الانسحاب المفاجئ. ولا يزال الجمهوريون يذكّرون الشعب بهذا الأمر من خلال جلسات الاستماع في مجلس النواب، وسيواصلون فعل ذلك حتى موعد الانتخابات.
ثالثاً: لا ينظر مؤيدو ترامب إلى التحديات القانونية التي يواجهها على أنها العدالة التي يستحقها، بل على أنها سعي من "الدولة العميقة" إلى استبعاد المرشح الوحيد الذي يتحدى سيادتها، بل وينظرون حتى إلى أعمال الشغب المروعة التي جرت في 6 يناير في مبنى الكابيتول هيل من نفس المنظور، فمؤيدو ترامب يسردون تواريخ سجن المتهمين في قضية الكابيتول هيل ويقارونها بالأحكام الأخف التي صدرت ضد مثيري الشغب في احتجاجات 2020 في مينيابوليس وبورتلاند وأماكن أخرى.
رابعاً: لا يوجد مرشح جمهوري آخر يتمتع بشهرة وبحضور ترامب، فلقد بلغت شهرته أنه عندما وُجهت إليه اتهامات في نيويورك، لم تر الجهات الحكومية أي ضرورة لالتقاط صور جنائية له مثل باقي المتهمين. ونحن نعيش في عصر تزداد فيه أهمية وسائل الإعلام والصورة عن المضمون الجوهري، وحتى ألد أعداء ترامب سيقرّون أنه – عندما يقرر ألا يكون فظاً – قد يكون مثيراً للاهتمام. لذا فإن عدم انضباطه وإتيانه بأفعال غير متوقعة يجعلانه مرشحاً مثالياً لعصر سيطرت عليه الصورة والإعلام. ولأنك لا تعرف أبداً ما سيقوله في اللحظة التالية، ستجد نفسك تتابعه دون قصد. وهكذا نجد أن هناك شخصيات أخرى من الحزب الجمهوري قد تنافس ترامب، لكن لا أحد منها لديه هذه الشخصية المعروفة على المستوى الوطني التي يتمتع هو بها.
ومن المفارقات أن ترامب ليس المرشح الأقوى بين الجمهوريين فحسب، بل هو المرشح الذي يرغب الديمقراطيون في مواجهته كذلك، فهو الرجل الذي هزمه جو بايدن في السابق، والآن مع حشد الحزب الديمقراطي قاعدة شعبية أكبر بعد قرار المحكمة العليا أخيراً بإتاحة حبوب الإجهاض، وبالإضافة إلى فظاظة ترامب المتكررة، يبدو ترامب أنه رجل يمكن أن يُهزم ثانية على يد بايدن.
بيد أن هناك عدداً قليلاً في القاعدة الديمقراطية ممن لا يكرهون ترامب بشدة، فهناك الكثير من أهم المستقلين قد يتفقون معه في بعض المسائل السياسية، لكنهم يرون أن سلوكه لا يليق بأن يصبح رئيساً مرة أخرى، كما أن هناك الكثيرين في الحزب الجمهوري ممن يكرهون ترامب سراً ويسعون إلى فرصة لإفشال ترامب، ورفض ما يرون أنه تمجيد لشخصه.
ولكن لا يزال أمامنا عدة أشهر تفصلنا عن الانتخابات، وقد يحدث فيها الكثير، فحدوث ارتفاع كبير في أعداد المهاجرين غير الشرعيين عن طريق المعابر الحدودية الأمريكية هو أمر واقع لا محالة، وقد تسوء الأوضاع في حرب أوكرانيا، وقد يجن جنون إيران مرة أخرى، وقد تظهر على الاقتصاد الأمريكي أعراض "ركود تضخمي" مخيف مثل الذي أضر بجيمي كارتر أيما ضرر، وهذه هي الظروف المثالية لأي مرشح جمهوري. ولكن ترامب لا يزال مرشحاً ذا مثالب كثيرة، ويواجه تهماً جنائية عديدة في عدد من الولايات القضائية، كما أنه رجل لا يحظى بولاء حقيقي من مختلف المستويات المهنية داخل حزبه.
وأخيراً، يمكنا القول إننا على أعتاب مغامرة كبرى.