تمثل العلاقات المغربية الجزائرية حالة خاصة للعلاقات الثنائية بين الدول العربية، حيث كشف تحليل الصراعات العربية العربية عبر مدى زمني ممتد منذ نشأة النظام الإقليمي العربي الرسمي عقب الحرب العالمية الثانية، عن نموذج لتطور هذه الصراعات أسميته بـ"النموذج البندولي"؛ بمعنى أن العلاقات العربية العربية تتأرجح عبر الزمن بين طرفي الصراع والتعاون كما يتحرك بندول الساعة. وتفسير هذه الظاهرة أن الصراعات العربية العربية في أي مرحلة من المراحل لم تكن تُحَّل بصفة عامة، وإنما تتم تهدئتها أو على أحسن الفروض تسويتها تحت تأثير عامل أو آخر كان في الأغلب عاملاً خارجياً، بما يفيد بأن محتوى الصراع ذاته يبقى كامناً يمكن أن ينفجر في أي لحظة. ولذا فإنه بمجرد ضعف أو اختفاء العوامل التي أدت إلى التهدئة أو التسوية، أو ظهور عوامل جديدة تدفع للصراع، تبدأ الصراعات في التصاعد من جديد حتى نصل إلى عامل تهدئة أو تسوية أو أكثر، وهكذا.
بيد أن العلاقات المغربية الجزائرية تبدو وكأنها الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة، فالبندول فيها عالق عند حافة الصراع أو بالقرب منها على الأقل، بل إن مظاهر التوتر بين البلدين قد تفاقمت في السنوات الأخيرة على نحو لافت. ولا ننسى أن العلاقات المغربية الجزائرية في إطار النظام العربي تأتي ضمن حالات تكاد ألا تتجاوز أصابع اليد الواحدة شهدت ظاهرة الصدامات المسلحة على نحو مباشر أو غير مباشر غير مرة. وتبحث هذه المقالة في معضلة هذه العلاقات، فتبدأ بتحليل نموذج الخبرة الماضية لها منذ استقلال الجزائر، ثم تحاول تفسير هذا النموذج، وتبحث في النهاية فيما إذا كان من الممكن إيجاد مخرج من هذه المعضلة.
نموذج الخبرة الماضية:
يكاد الخلاف والتوتر والمواجهة العسكرية وفي أفضل الأحوال الفتور، أن يكون السمة المميزة للعلاقات المغربية الجزائرية منذ استقلال الجزائر في عام 1962، مع أن المغرب أدى دوراً مهماً في دعم جبهة التحرير الجزائرية التي قادت النضال من أجل الاستقلال منذ أول نوفمبر 1954، وكانت تتخذ من الأراضي المغربية المتاخمة للحدود مع الجزائر قواعد لها عند الضرورة. بيد أن الخلافات الحدودية سرعان ما دبت بين البلدين عقب الاستقلال مباشرة، ولم يكن المغرب راضياً عن ترسيم الحدود مع الجزائر الذي تم إبان الاحتلال الفرنسي لها، حيث اتهم المغرب فرنسا بمحاباة الجزائر في هذا الصدد، ولذا نشر المغرب قواته عقب الاستقلال مباشرة في منطقة يعدها تابعة له تقع خارج خط الحدود، أي داخل الأراضي الجزائرية بموجب ترسيم الحدود الذي لم يكن المغرب يوافق عليه. وكانت هذه هي الخلفية التي أفضت إلى الصدام العسكري بين البلدين في أكتوبر 1963، وقد تمت تسوية الخلاف لاحقاً بعد جهود من كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية سابقاً، حيث أفضت إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في فبراير 1964، لكن جذور المشكلة لم تُحَل.
وبدءاً من سبعينيات القرن الماضي، دخلت قضية الصحراء، بعد الانسحاب الإسباني منها، كعامل جديد لتأجيج الخلاف بين المغرب والجزائر، حيث اختلفت وجهتا النظر المغربية والجزائرية بشأن مستقبل الصحراء اختلافاً بيّناً. فبينما عد المغرب الصحراء جزءاً لا يتجزأ من أراضيه، وبناءً عليه نظّم ما سُمي بـ"المسيرة الخضراء" في عام 1975، حيث زحف قرابة ثُلث مليون مغربي إلى الصحراء زحفاً سلمياً لإثبات مغربيتها؛ رأت الجزائر أن مستقبل الصحراء قضية تصفية استعمار يجب أن تُحَل بتطبيق حق تقرير المصير، وهو الموقف الذي تتبناه الأمم المتحدة.
وكانت "جبهة البوليساريو" قد شُكلت رسمياً في مايو 1973 من الصحراويين الذين يسعون للاستقلال عن إسبانيا وتأسيس دولة لهم، وفي هذا الإطار نشبت حرب الصحراء بين البوليساريو والمغرب بعد انسحاب القوات الإسبانية من الصحراء وفقاً لاتفاقات مدريد التي منحت المغرب وموريتانيا السيطرة الإدارية على الإقليم، وكانت كل من الجزائر وليبيا تدعمان البوليساريو، وفي عام 1979 انسحبت موريتانيا من الصراع. وفي عام 1991 تم التوصل لوقف إطلاق للنار ظل صامداً حتى نوفمبر 2020 حين دخل الجيش المغربي منطقة منزوعة السلاح، وعدت البوليساريو ذلك خرقاً لوقف إطلاق النار وهاجمت مواقع للجيش المغربي، لكن الأمور لم تتطور إلى صراع واسع.
وهكذا ما زال صراع الصحراء باقياً كعامل مستدام للتوتر والخلاف بين الجزائر والمغرب؛ نظراً لاختلاف وجهتي نظرهما تجاه الصراع من جانب، ولأن الجزائر تمنح الملجأ للصحراويين الرافضين لسيادة المغرب الذي تسيطر قواته على معظم الصحراء (حوالي 80%)، فضلاً عن اتهام المغرب للجزائر بالتورط المباشر في الصراع بمشاركة عناصر جزائرية في القتال. ويُلاحظ أن انضمام البلدين للاتحاد المغاربي لم يكن له أي تأثير إيجابي في تسوية هذا الخلاف، بل لقد كان السبب في الجمود التام الذي أصاب الاتحاد منذ عام 1995 بطلب مغربي.
وفي ديسمبر 2020، دخل متغير جديد ساحة التأثير في العلاقات المغربية الجزائرية، عندما وقّع المغرب اتفاق تعاون مع إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها، وكان هذا التطور ذو دلالة خاصة بالنسبة للعلاقات المغربية الجزائرية لسببين؛ أولهما أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي أعلن توصل المغرب وإسرائيل إلى الاتفاق اعترف في الوقت ذاته بسيادة المغرب على الصحراء، وكان معنى ذلك بالنسبة للجزائر ابتداءً أن الاتفاق ارتبط بتطور سلبي من المنظور الجزائري بالنسبة لقضية الصحراء. وثانياً لأن التطورات أفضت إلى بُعد أمني في الاتفاق بزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، للرباط وتوقيعه اتفاق إطار للتعاون الأمني بين البلدين "بمختلف أشكاله" في مواجهة التهديدات والتحديات التي تشهدها المنطقة، وأُعلن أن هذا الاتفاق سيتيح للمغرب اقتناء معدات أمنية إسرائيلية عالية التكنولوجيا، إضافة للتعاون في مجالات البحث والتطوير. وفي يناير 2023، قرر المغرب وإسرائيل، عقب اجتماع لجنة مشتركة في الرباط، توسيع التعاون العسكري ليشمل الاستطلاع والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية ومجال الصناعات الدفاعية ونقل التكنولوجيا. ورأت الجزائر في التطورات السابقة كافة، تهديداً أمنياً لها، فضلاً عما سبقت الإشارة إليه من ارتباطها باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على الصحراء.
وتوالت عقب تلك التطورات، مظاهر المزيد من التدهور في العلاقات المغربية الجزائرية. ففي يوليو 2021، دعا الملك محمد السادس لتجاوز الخلافات بين البلدين، وفتح الحدود، لكن الجزائر لم تستجب، بل ردت في الشهر التالي بقطع العلاقات مع المغرب. وفي أكتوبر من نفس العام، أوقفت الجزائر الأنبوب الذي ينقل الغاز إلى إسبانيا عبر المغرب. ووصل التدهور ذروته في يوليو 2022 بإعلان سفير المغرب لدى الأمم المتحدة تأييده الصريح لحق سكان منطقة القبائل في تقرير مصيرهم، وهكذا اكتملت الحلقة المفرغة للتناقض بين سياستي البلدين.
محاولة للتفسير:
أظهر تحليل الخبرة الماضية للعلاقات المغربية الجزائرية أن الخلاف والتوتر وصولاً إلى الصدام العسكري المباشر وغير المباشر، مثّلوا السمة الغالبة لهذه العلاقات منذ استقلال الجزائر، لدرجة أن أكثر مراحل هذه العلاقات إشراقاً هي تلك السابقة على استقلال الجزائر عندما أعطى المغرب دعمه الكامل لجبهة التحرير الجزائرية في حربها من أجل الاستقلال. ويقترح هذا التحليل النظر في ثلاثة أسباب لتشكل نموذج العلاقات بين البلدين، اثنان منهما أساسيان، بينما يمكن عد الثالث عاملاً مساعداً، وذلك على النحو التالي:
1- السبب الأول مستمد من اعتبارات "الجيوبوليتكس وتوازن القوى"، فالمغرب والجزائر عضوان في إقليم فرعي من أقاليم النظام العربي، وبينهما حالة من التوازن النسبي في الإمكانات، حيث إن عدد سكانهما متقارب (حوالي 46 مليون جزائري، و40 مليون مغربي)، وكذلك الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 163 مليار دولار أمريكي في الجزائر، و143 مليار دولار في المغرب عام 2021)، والجيش الجزائري هو الثالث عربياً بينما المغربي هو الخامس. وهذه ظروف مهيأة لتبلور تنافس بينهما حول زعامة إقليم المغرب العربي، خاصة أن ثمة اختلافاً بين نظامي البلدين وأيديولوجيتهما. والحقيقة أن الحالة المغربية الجزائرية ليست الوحيدة من نوعها في النظام الإقليمي العربي، ومن أهم الحالات الشبيهة في هذا الصدد الحالة السورية العراقية التي اتسمت العلاقات بين طرفيها بالصراع سواء في ظل وجود سوريا ضمن تجربة الجمهورية العربية المتحدة مع مصر (1958-1961)، أو في ظل حكم حزب البعث للبلدين معاً (1968-2003)، ولم تتحسن العلاقات إلا قبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وتحتاج هذه الظاهرة - أي ظاهرة التنافس بين قوتين شبه متوازنتين في نظام إقليمي فرعي واحد داخل النظام العربي- إلى مزيد من الاهتمام والدراسة.
2- يتميّز السبب الأساسي الثاني بأنه لا ينطلق من جهد تحليلي قد يصيب أو يخطئ، وإنما يعكس حقائق واقعية بامتياز، وهو الخلافات حول قضايا تتعلق بالسلامة الإقليمية لكلا البلدين. فمنذ البداية وعلى الرغم من التأييد المغربي الصريح لجهاد الجزائريين من أجل الاستقلال، نشبت خلافات حدودية بينهما بمجرد استقلال الجزائر وصلت إلى حد الصدام العسكري المباشر (1963-1964)، وهو صدام لا نجد مثيلاً له من حيث أسبابه سوى في الحالة العراقية الكويتية. وما كاد الخلاف الحدودي المغربي الجزائري يُسَوى أو تتم تهدئته، حتى ثارت قضية الصحراء في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث يراها المغرب جزءاً لا يتجزأ من وحدته الترابية، بينما تنظر الجزائر لها كأي قضية تصفية استعمار ينبغي اللجوء بصددها إلى تطبيق "مبدأ حق تقرير المصير". وقد تفاقمت الأمور على نحو أكبر في يوليو 2022 بإعلان سفير المغرب في الأمم المتحدة تأييده الصريح لحق سكان منطقة القبائل الجزائرية في الانفصال.
3- ينبع السبب الثالث الثانوي من البيئة الخارجية للعلاقات المغربية الجزائرية إقليمياً وعالمياً، حيث كان الاستقطاب العربي في ستينيات القرن الماضي مشجعاً على الصدام المسلح، وإن كان ينبغي تأكيد المكانة الثانوية لهذا العامل بدليل الانفراجة التي حدثت بعد ذلك في العلاقات العربية العربية بدعوة الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر لقمة عربية في أواخر 1963 وقد انعقدت بالفعل في يناير وسبتمبر 1964، ولم تنه الخلاف بين البلدين. وعلى نفس المنوال، لعب الاستقطاب الدولي إبان الحرب الباردة دوراً في الخلاف المغربي الجزائري، حيث كانت دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق وكوبا تدعم الجزائر، بينما حظي المغرب بتأييد المعسكر الغربي. وقد تجدد تأثير هذا العامل بوضوح مع الاتفاق المغربي الإسرائيلي في عام 2020، والذي اكتسب لاحقاً أبعاداً دفاعية، الأمر الذي جعل الجزائر تعد هذا التطور تهديداً لها، فضلاً عن ارتباط التوصل لهذا الاتفاق بإعلان ترامب اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء.
ما العمل؟
يمثل الخلاف المغربي الجزائري دون شك مصدر ضعف للنظام الإقليمي الفرعي في المغرب العربي، كما يبدو بوضوح من الشلل الذي أصاب الاتحاد المغاربي، الذي تأسس في عام 1989، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو بالتالي مصدر ضعف للنظام الإقليمي العربي ككل في مواجهة التحديات الراهنة. وحتى لو كان التفاهم السياسي العربي الشامل يبدو صعباً في الظروف الراهنة، فإن التفاهم مطلوب وممكن في مواجهة التحديات الاقتصادية كالأمن الغذائي على سبيل المثال.
وللأسف فإن الخلاف المغربي الجزائري يُعَد، من وجهة نظري، أعقد الخلافات البينية العربية؛ أولاً لأنه يتعلق بقضية السلامة الإقليمية للبلدين، وثانياً لأنهما لا يملكان خبرة تعاونية تُذكر منذ استقلال الجزائر، وأذكُر أنه في "معهد البحوث والدراسات العربية" التابع للجامعة العربية والذي كان يضم طلاباً وطالبات من شتى الجنسيات العربية، كنّا قادرين على مناقشة أعقد القضايا العربية بما في ذلك القضية العراقية الكويتية إلا الخلاف المغربي الجزائري الذي كان معامل الحساسية فيه في الذروة دائماً. وثالثاً لأن سنوات الخلاف المزمنة والحملات الإعلامية القاسية التي واكبتها وتسببت في تفاقمها، قد قلصت كثيراً من القاعدة الشعبية التي يمكن أن تتحمس لعودة العلاقات إلى طبيعتها بين المغرب والجزائر. ورابعاً لما يبدو من أنه لا الدول العربية فرادى ولا الجامعة العربية تُظهر اهتماماً بهذا الخلاف، ليس لعدم أهميته، ولكن لإدراك تعقده وصعوبة تسويته.
والحقيقة أن آفاق تسوية الخلاف المغربي الجزائري في الظروف الراهنة تبدو غامضة. ومع ذلك، فإنه لا مفر من محاولة إصلاح ذات البين مع التسليم بصعوبة هذه المحاولة، ويمكن في هذا الصدد تقديم الأفكار التالية:
1- الضغط بكل الطرق الودية من أجل إيجاد اهتمام عربي سواء من قِبل دول وازنة أو الجامعة العربية أو البرلمان العربي أو الاتحاد البرلماني العربي من أجل وضع ملف المصالحة المغربية الجزائرية على جدول الاهتمامات العربية، وإبراز العوائد الإيجابية لمثل هذه المصالحة، وتأكيد أنه في مناخ يشهد انفتاحاً من قِبل النظام العربي على محيطه الإقليمي لا يصح أن يبقى الحال على ما هو عليه في العلاقات البينية العربية، وأنه إذا لم يكن حل الخلاف ممكناً في الوقت الراهن فعلى الأقل ليتنا نتفق على وقف التدهور في العلاقات.
2- دراسة المشكلات القائمة في علاقات البلدين، سواء على صعيد البحث العلمي أو التحرك السياسي من قبل المؤسسات العربية ذات الصِّلة؛ بهدف تقريب وجهات النظر ومحاولة التوصل إلى قواسم مشتركة، ومناقشة الحلول الممكنة لتلك المشكلات.
3- تشجيع قوى المجتمع المدني في البلدين التي تؤيد عودة العلاقات، على تقديم مبادرات في هذا الاتجاه، والعمل على الأقل على تجنب مزيد من التصعيد في العلاقات.