أحياناً أتمنى أن يكون هناك مجلس أو مركز عربي للشؤون الخارجية على نمط ذلك الأميركي في نيويورك حيث يطلق لأفكار وخيالات المتخصصين العنان دونما تمييز، ليس فقط عن أحوال أميركا، وإنما العالم كله. صحيح أن هناك مجالس في دول عربية للشؤون الخارجية، ولكنها محتلة احتلالاً كاملاً بالدبلوماسيين العرب الأكفاء الذين تحتكرهم قصتهم الشخصية وتجربتهم في العمل الدبلوماسي. نادراً ما تخرج عن هذه المراكز بحوث أو كتب أو دراسات تحرك شرارة في العقول وتدعو إلى تجاوز أخطار الدنيا بأفكار براقة أحياناً وعملية أحياناً أخرى. هي حالة من العصف المستمر حول أحوال الكون حيث التساؤلات والأسئلة أكثر كثيراً من الإجابات التي هي في النهاية وظيفة الساسة الذين يلهمهم عملهم إلى المواءمة بين الفكر والواقع.
هذه البداية سببها أن المجلس الأميركي للشؤون الخارجية نشر دراسة للدبلوماسي والسياسي السابق ريتشارد هاس مع تشارلز كوبتشان بعنوان «وفاق القوى الجديد، كيفية منع وقوع كارثة وتعزيز الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب»، «وفاق القوى الجديد» أو The New Concert of Powers يستدعي من التاريخ تجربة القرن التاسع عشر حينما جرى حدثان مهمان؛ الثورة الفرنسية وما تبعتها من الحروب النابليونية وما نتج عنهما من تغيرات جذرية في القارة الأوروبية القائدة للنظام العالمي، بما فيها الثورة الصناعية الأولى. وبزوغ مجمع من 5 قوى، هي بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا وروسيا، قامت بإدارة شؤون العالم معاً بخلق استقرار في القارة، ومن بعدها إدارة نفوذها في العالم من خلال الاستعمار وأمور أخرى اقتصادية واستراتيجية. هذه العملية سماها هنري كيسنجر في كتاب «استعادة العالم A World Restored» حيث كسبت الدنيا 100 عام من السلام، أو لتحري الدقة غياب الصراعات الكبرى، من نهاية نابليون في 1815 حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. «هاس» و«كوبتشان» يريان أن العالم يمر بلحظة انتقالية مماثلة تتطلب خلق نظام يجري فيه وفاق بين مجموعة من القوى الدولية من أجل تنظيم جديد للدنيا أكثر كفاءة وواقعية.
يقول المؤلفان: «النظام الدولي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية. مع استمرار آسيا في صعودها الاقتصادي، يقترب قرنان من الهيمنة الغربية على العالم، أولاً تحت حكم السلام البريطاني Pax Britannica ثم تحت السلام الأميركي Pax Americana، على وشك الانتهاء. الغرب لا يخسر هيمنته المادية فحسب، بل سيطرته الآيديولوجية أيضاً. في جميع أنحاء العالم، تقع الديمقراطيات فريسة الممارسات غير الليبرالية والخلافات الشعبوية، بينما تسعى الصين الصاعدة، بمساعدة روسيا المشاكسة، إلى تحدي سلطة الغرب والنهج الجمهوري في الحكم المحلي والدولي». مثل ذلك يشكل حكماً قاسياً على لحظة لا تقل قسوة نتيجة ما حل بالعالم من أزمة الكورونا، فوق ما يبدو من إدارة الرئيس بايدن، وكأنه يريد استرداد العالم إلى لحظات سابقة كانت فيها «العولمة» والفكرة «الديمقراطية» مهيمنة داخل أميركا مع محاولات جادة ومؤسسية لتنظيمها في العالم. مثل ذلك لا يبدو واقعياً «حتى لو تغلبت الديمقراطيات الغربية على الاستقطاب، وتصدت للخلل الليبرالي، وحققت انتعاشاً اقتصادياً، فإنها لن تمنع وصول عالم متعدد الأقطاب ومتنوع آيديولوجياً. ويوضح التاريخ أن مثل هذه الفترات من التغيير المضطرب تنطوي على مخاطر كبيرة. في الواقع، تؤدي صراعات القوى العظمى حول التسلسل الهرمي والآيديولوجيا بانتظام إلى حروب كبرى». النتيجة هي أنه إذا كان الغرب لم يعد قادراً على تنظيم العالم، فلا بد من «البحث المستمر عن طريق قابل للتطبيق وفعال للمضي قدماً».
هنا يعود المؤلفان إلى التجربة الأوروبية في القرن التاسع عشر لكي يستلهما منها ما يفيد في القرن الواحد والعشرين. هذه التجربة قامت على 3 أمور؛ أولها وجود قوى قوية ونافذة وقادرة على التفاعل السياسي والدبلوماسي فيما بينها لتقرير مصير دول العالم. وثانيها أن النظام العالمي يقوم على أسس معاهدة ويستفاليا 1648 التي أسست للدولة القومية ومنعت التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وثالثها غياب الآيديولوجيات والعقائد الدينية والمذهبية من العلاقات الدولية. القرن العشرون قلب هذه القواعد رأساً على عقب، فقامت الثورة البلشفية، ومعها جاءت الماركسية والشيوعية والاشتراكية، وخرجت الولايات المتحدة من انسحابها وراء محيطين إلى الدنيا منذرة بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة، ومبشرة بالحريات للإنسان والسوق، ومع هذه، وتلك، توسعت القاعدة السياسية للعالم بخروج شعوب وأمم إلى حق تقرير المصير والمشاغبة من أجل مكان في دنيا لم تعرفها الإنسانية من قبل. المركب السياسي الذي نتج عن ذلك كله كان فيه مكان للكبار، كما برز في مجلس الأمن الذي يقود عمل الأمم المتحدة؛ وعندما تعقد العالم اقتصادياً ذهب الكبار أيضاً إلى مجموعة الدول السبع، ومعها اتسع المجال قليلاً لقوى متوسطة في مجموعة الدول العشرين. العامة بين الدول كان مكانهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجموعة الدول 77 وما شابه ذلك، وفي كل الأحوال كان الكبار وخاصة الولايات المتحدة تنظم كل شيء من الدولار إلى منظمة التجارة العالمية.
كل ذلك لم يعد فاعلاً، وأصبحت هناك حاجة إلى تنظيم الكون من خلال وفاق عالمي جديد بين دول قادرة وفاعلة وغير مشغولة بآيديولوجيات لا تخصها. يقول «هاس» و«كوبتشان» إنه سيتكون الوفاق العالمي من 6 أعضاء؛ الصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة. ستكون للديمقراطيات وغير الديمقراطيات مكانة متساوية، وسيكون الشمول دالاً على القوة والتأثير، وليس القيم أو نوع النظام. سيمثل أعضاء الوفاق بشكل جماعي ما يقرب من 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري العالمي. الأعضاء الستة أوزانهم ثقيلة في صفوف تحالف يضمن نفوذاً جيوسياسياً، ويجعل النقاش سهلاً وممكناً فلا تكون هناك «مكلمات» على الطريقة الذائعة للأمم المتحدة. هذا التحالف لا بأس فيه أن يقوم بالاستماع إلى ممثلين عن 4 منظمات إقليمية؛ الاتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية، رابطة دول جنوب شرقي آسيا، منظمة الدول الأميركية. هذه المنظمات سوف تحتفظ بوفود دائمة في مقر دول الوفاق الست. بقية دول العالم يمكنها أن تأتي عندما تكون هناك أمور تخصها في وجود المنظمة الإقليمية التي يتبعونها. مثل هذا البناء الهرمي في القوة يعود مرة أخرى إلى قواعد ويستفاليا في احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ووضع للآيديولوجيا جانباً في التعامل مع القضايا العالمية. الأساس في التعامل هو الحوار، وبناء الوفاق بين الأطراف الكبرى، سواء كان ذلك في صورة جماعية أو من خلال الحوار الثنائي المباشر مثل التعامل مع تايوان في إطار العلاقات الأميركية الصينية. الأمر فيه كثير من التفاصيل، وأحياناً الرجوع إلى الماضي وأحياناً أخرى التطلع إلى المستقبل؛ ولكنه في كل الأحوال تعبير عن أفكار يجري إنضاجها على المستوى العالمي بحيث تصل دول العالم إلى قناعة بأن العالم الذي كان لم يعد مناسباً لظروف العالم الذي أتى. تلك هي المسألة!
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط