إنها لمناسبة طيبة حقاً أن يصادف نشر هذا المقال أول أيام «عام التسامح» الذي دعا إليه صاحب السمو رئيس الدولة تجسيداً للمعاني الإنسانية السامية التي تنطوي عليها تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة التي يعيش على أرضها أكثر من مائتي جنسية، في وئام تام يؤكد الطبيعة السمحة لشعب الإمارات الحبيب. وأجمل ما في هذا التسامح أنه واقع فعلى يعيشه المجتمع وليست مجرد شعارات.
ورغم العلاقات القديمة بين مصر والإمارات، فقد شهدت هذه العلاقات طفرة على الصعيد الإنساني حين تدفق ملايين العرب، ومنهم المصريون، للمشاركة في جهود التنمية في الخليج اعتباراً من سبعينيات القرن الماضي.
ومعلوم أن ظاهرة انتقال العمالة بين الدول تثير بعض المشاكل أحياناً بين الوافدين ومجتمع البلد المستقبل لهم، لكن الدولة الوحيدة التي لم نسمع بخصوصها شكوى واحدة من مصري عمل أو يعمل بها هي دولة الإمارات. والحق أن مشاعر الرضا التام لدى المصريين الذين عملوا ويعملون في الإمارات كانت تتسق كل الاتساق مع الأخلاق السمحة لشعب الإمارات الحبيب وما يتصف به أبناؤه من احترام لكافة الأجناس والديانات التي يقيم أصحابها على أرضهم، ورغم هذا يتعين علي أن أعترف بأنني فوجئت مفاجأة سارة عندما علمت بأن توجيهات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، أفضت إلى بناء كنيسة لأقباط مصر الأرثوذكس من العاملين بالإمارات، وهي الكنيسة التي افتتحها قداسة البابا شنودة. وقد التقيت بعدد من أقباط مصر بعد انتهاء عملهم في الإمارات، واستمعت منهم إلى ما يعد مفخرة للإمارات وشعبها عن مناخ التسامح الإنساني الرفيع الذي يميزهم في الإمارات.
والحقيقة أن التسامح في الإمارات واقع يلمسه كل من يعيش على أرضها أو يزورها، كما أصبح له بعده المؤسسي الراسخ والمتنامي، وليس هذا بغريب على دولة اعتَبرَ مؤسسُها أن التسامح مع المخطئ ليس من باب التغاضي عن خطئه وإنما من أجل تقويم مساره نحو الصواب. ونذكر أن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله، أصدر في يوليو 2015 مرسوم قانون بشأن مكافحة التمييز والكراهية، جرَّم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان وأشكال التمييز كافة، وكذلك خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير، وحَظَر التمييز بين الأفراد والجماعات على أي أساس. ونذكر كذلك أن التشكيل الوزاري في فبراير 2016 استحدث وزارةً للتسامح، وعلّق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، آنذاك بقوله: «لا يمكن أن نسمح بالكراهية في دولتنا، ولا يمكن أن نقبل بأي شكل من أشكال التمييز بين أي شخص يقيم عليها أو يكون مواطناً فيها». وفي يونيو من العام نفسه اعتُمد البرنامج الوطني للتسامح الذي ارتكز على الإسلام والدستور وإرث زايد والأخلاق الإماراتية والفطرة الإنسانية والقيم المشتركة والمواثيق الدولية، كما أطلقت حكومة دبي في 2017 «المعهد الدولي للتسامح» ويعمل على تكوين كوادر وقيادات عربية شابة تؤمن بقيمة التسامح والانفتاح والحوار بين الأديان والثقافات واقتراح السياسات والتشريعات وعقد المؤتمرات الدولية وإعداد البحوث والدراسات والدخول في شراكات مع المؤسسات المعنية في العالم.
يتخيل المرء ما الذي يمكن أن يحدث في البلاد العربية والعالم من حولنا لو أن هذه القيمة السامية قد سادت، وإن نظرة واحدة إلى واقعنا العربي وما يعانيه من إرهاب وصراعات داخلية تكفي لأن ندرك أن معظم الصراعات الدائرة الآن وكذلك الأعمال الإرهابية الآثمة، تنبع من غياب القدرة على فهم الآخر وتقبله، أما الإرهاب فقد عميت أبصار أنصاره عن قيمة التسامح في الأديان عامة وفي ديننا الإسلامي خاصة. كذلك فإن العالم يشهد الآن صعوداً لتيارات يمينية متطرفة ترفض قبول الآخر وتناصبه العداء ومن شأن استمرار صعود هذه التيارات أن يشهد العالم مزيداً من المآسي، فما أحوجنا للاقتداء بتجربة الإمارات الفتية في إعلاء قيمة التسامح واعتمادها أساساً للعلاقة بين بني البشر.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد