أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

مخاطر إنسانية:

هل يسد "الميتافيرس" فجوة العالمين الافتراضي والواقعي؟

03 نوفمبر، 2021


بات العالم وشيكاً أكثر من أي وقت مضى من الانتقال إلى مرحلة الحياة الافتراضية الكاملة؛ تلك الحياة التي أطلق عليها مارك زوكربرج، المؤسس والرئيس التنفيذي لموقع فيس بوك، "الميتافيرس" أو "العالم الماورائي". فبدلاً من أن تكون التفاعلات البشرية واقعية ومحسوسة عبر التلاقي المادي أو تكون غير مادية وغير محسوسة عبر التلاقي الرقمي من خلال شاشات الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، سوف يكون هناك طريق ثالث يسد الفجوة بين هذين العالمين (الواقعي والرقمي)، ليظهر عالم ثالث افتراضي يأخذ من الواقع شيئاً، ومن الإنترنت والتقنيات الذكية أشياءً وخصائص أخرى. وبالتالي تُثار تساؤلات من قبيل؛ ما هي شكل هذه الحياة الجديدة؟ وهل سينجح مارك زوكربرج في إنشائها؟ وما هي حدود التمييز بينها وبين العالم الواقعي؟ وكيف ستؤثر على الحضارة الإنسانية والعمران البشري؟ أسئلة كثيرة قد تكون لبعضها إجابات حالية والبعض الآخر ما زال غير معروف، وهو ما يسعى هذا التحليل إلى توضيحه.

البُعد الثالث للإنترنت:

يعد أول من استخدم مصطلح "الميتافيرس" Metaverse هو "نيل ستيفنسون" في رواية الخيال العلمي "Snow Crash" عام 1992. وتتكون الكلمة من مقطعين؛ الأول Meta وهو الاسم الجديد الذي تغيرت إليه فيس بوك، ويعني "ما وراء"، والمقطع الثاني Verse الذي يأتي اختصاراً لكلمة Universe بمعنى "العالم"، والكلمتان معاً تأتيان بمعنى "العالم الماورائي". وقد قصد به "نيل ستيفنسون" في روايته تلك، العالم الافتراضي المملوك من قِبل الشركات، حيث يتم التعامل مع المُستخدمين النهائيين كمواطنين يعيشون في "ديكتاتورية الشركات".

ويسعى مارك زوكربرج من خلال "الميتافيرس" إلى إنشاء عالم افتراضي، يسد الفجوة بين العالمين الواقعي والرقمي، لينشأ بذلك عالم ثالث افتراضي، يستطيع فيه الأفراد إنشاء حياة افتراضية لهم عبر مساحات مختلفة من الإنترنت، بحيث تسمح لهم بالتلاقي والعمل والتعليم والترفيه بداخله، مع توفير تجربة تسمح لهم ليس فقط بالمشاهدة عن بُعد عبر الأجهزة الذكية كما يحدث حالياً، ولكن بالدخول إلى هذا العالم في شكل ثلاثي الأبعاد عبر تقنيات الواقع الافتراضي.

فمن خلال استخدام نظارات الواقع الافتراضي والواقع المُعزز وارتداء السترات والقفزات المُزودة بأجهزة استشعار، يستطيع المُستخدم أن يعيش تجربة شبه حقيقية، تعمل فيها هذه التقنيات الذكية كوسيط بين المُستخدمين في عالم "الميتافيرس"، لإيصال الشعور بالإحساس المادي، فيستطيع أن يرى المُستخدم الأشياء من حوله بصورة ثلاثية الأبعاد عبر النظارة، كما يمكن أن يشعر فيها بالمؤثرات الجسدية الحسية، كإحساس السقوط في المياه أو اللكمة في الوجه أو غيرها، من خلال المستشعرات الموجودة في السترات والقفزات التي يرتديها، فيحصل على تجربة أشبه بالواقعية حتى وإن كانت غير مباشرة.

استخدامات لا متناهية:

يعتبر "الميتافيرس" عالماً اختيارياً، يُبنى وفق رغبات مُستخدميه، فيستطيع الأفراد إنشاء عالمهم الخاص بهم، وقد قسمها زوكربرج حتى الآن إلى 3 عوالم أو آفاق Horizons كما أطلق عليها، وهي "آفاق المنزل" أو Horizons Home، و"آفاق العمل" Horizon Workrooms، و"آفاق العالم" Horizons world.

وداخل "آفاق المنزل"، يستطيع المُستخدم إنشاء نسخة افتراضية تطابق منزله الأصلي، ويستطيع التجول فيها بمجرد ارتداء نظارة الواقع الافتراضي، ومن ثم يستطيع أن يدعو زملاءه عبر "الميتافيرس" إلى قضاء وقت معاً داخل المنزل، أو مشاهدة مباراة كرم قدم، أو حتى استذكار الدروس والمراجعة.

وبالمثل يستطيع الزملاء في العمل إنشاء فضائهم الخاص بهم داخل "الميتافيرس"، فيمكنهم الذهاب إلى العمل فقط من خلال ارتداء نظارة الواقع الافتراضي، وإنجاز المهام المطلوبة والمشاركة في الاجتماعات بل وأخذ راحة منتصف اليوم مع أصدقاء العمل، كل ذلك من دون حتى مغادرة المنزل.

كما يستطيع المُستخدمون إنشاء عوالم أخرى خاصة بهم، مثل حضور الحفلات الموسيقية، أو مشاهدة أحد الأفلام السينمائية، أو ممارسة الرياضة المفضلة، وذلك من دون مغادرة المنزل؛ فتوفر لهم تجربة فريدة يشاركون فيها بعضهم لحظات جماعية دون اعتراف بحدود مكانية أو جغرافية.

ليس هذا فحسب، بل يمكن التسوق أيضاً داخل "الميتافيرس"، واختيار السلع الغذائية من داخل السوبر ماركت ودفع ثمنها عبر بطاقة الائتمان في تجربة ثلاثية الأبعاد، وكأن المستخدم داخل أحد المتاجر بالفعل، كما يمكن قياس الملابس والتأكد من ملاءمتها للمُستخدم، عبر تصميم "أفاتار" بنفس مقاييس المُستخدم ومحاكاة تجربة ارتداء الملابس عليه.

وتتعدى تجربة عالم "الميتافيرس" في التعليم لتكون أكثر ثراءً، فتوفر مثلاً للطلاب المعنيين بدراسة الفضاء أو المحيطات أو الجيولوجيا أو التاريخ، فرصة لمحاكاة هذه العوالم في صورة ثلاثية الأبعاد، وبالتالي يمكنهم الذهاب إلى القمر أو أحد الكواكب الشمسية أو حتى الشمس نفسها، وأيضاً يمكنهم الذهاب إلى أعماق المحيطات أو باطن الأرض، أو حتى العودة إلى أحد الأزمنة التاريخية ومحاكاة طرق العيش فيها. ومع دخول نظم الذكاء الاصطناعي في برمجة شخصيات هذه العوامل، يمكن للمُستخدم أن يعيش تجربة شبه حقيقية بالفعل.

مستقبل العمران البشري:

عديدة هي استخدامات "الميتافيرس"، وقد يكون مفيداً في بعض جوانبه الترفيهية والتعليمية، مثل ألعاب الفيديو أو مشاهدة الأفلام أو الاستمتاع بقضاء وقت فراغ، بخلاف أهميته في عملية التعليم سواء داخل المؤسسات التعليمية أو عن بُعد. فهو ضروري في كلتا الحالتين، لكن يبقى التخوف من اتساع نماذج استخدام "الميتافيرس" ليطغى على كافة جوانب الحياة الإنسانية.

فإذا كان بإمكان المُستخدم إنشاء عالمه الخاص داخل "الميتافيرس"، وهو عالم خالي من المشاكل أو الهموم، وعالم يحقق فيه طموحاته الشخصية، ويبني فيه منزله ومدينته المثالية، ويتعرف فيه على أصدقاء مشابهين له، ويستبعد منه من لا يروق له؛ فهو بذلك يبتعد كل البعد عن عمران الأرض وبناء الحياة الإنسانية.

فقد تتحول حياة المُستخدم الحقيقية شيئاً فشيئاً إلى كابوس من دون أن يدري، فلا يهتم بشكل منزله الحقيقي، ولا بشكل مدينته الحقيقة، ولا يسعى إلى تعمير الأرض التي يسكن فيها، ويكتفي ببناء جنة خيالية في عالم افتراضي، يعيش فيها طيلة اليوم ولا يتركها إلا عند النوم، فلا هو يعيش حياته الحقيقية ليلاً ولا نهاراً، ولا يعلم شيئاً عن واقعه؛ فكل ما يهم حينها هو العالم الافتراضي الذي بناه وحقق فيه أحلامه التي اكتفها ببنائها في عالم "الميتافيرس".

وقد يروق هذا الوضع للبعض، الذين اصطدموا بمشاكل الحياة، واكتأبوا منها، وقرروا الانتحار، فيكون عالم "الميتافيرس" ملجأً لهم من الواقع وبديلاً جيداً للانتحار. لكن كيف سيكتمل العمران البشري حينما يغيب الناس عن مواجهة حقيقتهم ومصيرهم، وأن يسعوا بجد إلى تغيير وضعهم إلى الأفضل دائماً، وألا يستسلموا بالذهاب إلى عام افتراضي يسهل تحقيق الإنجاز فيه. فمن سيقوم بمهمة تربية الأجيال القادمة حينما ينشغل الجيل الحالي عن حقيقته بالواقع الافتراضي، وكيف يتحقق العمران الذي يتطلب التدافع البشري وتعمير الأرض، وليس تعمير مساحات افتراضية غير واقعية؟

وفي النهاية، يبقى القول إن شركة فيس بوك قد حاولت سابقاً طرح مفاهيم وتقنيات جديدة، مثل عملة "ليبرا"، ومشرعات الذكاء الاصطناعي التي لم تر النور، والتي فشل بعضها وتم إغلاقه بالفعل، ويعتبر مشروع "الميتافيرس" أحد المشروعات الواعدة أيضاً؛ لكنها ما زالت قيد الاختبار مثل غيرها من المشروعات التي لم تتحقق. وحتى وإن اكتمل مشروع "الميتافيرس" خلال 5 سنوات من الآن كما تسعى فيس بوك، فإن هذا التطور سوف تقابله مقاومة من التيار الإنساني التقليدي، الذي يرفض هذه السرعة المُبالغ فيها في التطور، ويثمن الحياة التقليدية في كثير من جوانبها.