أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

ما بعد "نافالني":

تجاهل شعبي وتداعيات مباشرة على العلاقات الروسية الألمانية

11 أكتوبر، 2020


لفت حادث تسمم المعارض الروسي أليكسي نافالني في نهاية أغسطس الماضي أنظار الإعلام الدولي، وأصبحت الأخبار بشأن تطورات حالة المعارض الروسي موضوعاً رئيسياً بشكل شبه يومي، حتى الآن على منصات الإعلام الأوروبي والألماني على وجه التحديد. وأثار الحادث توقعات مبالغة عن تأثير الواقعة على الداخل الروسي، خاصة من ناحية تأثير ذلك على تعزيز شعبية المعارضة مقابل تراجع شعبية الرئيس الحالي. 

وعلى الرغم من كونه حادثاً سياسياً داخلياً، فإن تداعياته لم تكن كذلك، بل على العكس تحوّل الحادث إلى عامل مؤثر في العلاقات الروسية الخارجية، والأوروبية على وجه التحديد، بينما تخطى الداخل الروسي الحدث بسرعة وكأنه لم يحدث تقريباً. وتفسر المقالة الحالية أسباب تأثير الحادث على الخارج، بينما كان تأثيره الداخلي منعدماً.  

1- الموقف الأوروبي وفقاً لحسابات 2014

مثَّل حادث تسمم زعيم المعارضة الروسي، أليكسي نافالني، علامة بارزة أخرى في العلاقة المضطربة بين روسيا تحت حكم بوتين والغرب، فعلى مدار السنوات العشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة، تكرر تعرض المعارضين للكرملين لحوادث مشابهة، مما يؤدي إلى زيادة تعقيد العلاقات – المعقدة بالفعل –  بين روسيا وشريكها التجاري والاقتصادي الرئيسي، الاتحاد الأوروبي، وذلك في أعقاب كل حادثة شبيهة.

وعلى الرغم من أن حادث تسمم الجاسوس الروسي السابق، ألكسندر ليتفينينكو في عام 2006  قد ترددت أصداؤه وحظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق، فإنه لم يؤثر في الواقع بصورة كبيرة على العلاقات الروسية الأوروبية، على الرغم من حقيقة أن السلطات الروسية كانت قد بدأت بالفعل في ذلك الوقت سلسلة من عمليات التصفية "المسمومة" طالت في منتصف عام 2000 الصحفية الشهيرة آنا بوليتكوفسكايا، التي كانت تعمل بصحيفة نوفيا جازيتا، ويوري شتشكوشيخين أحد كبار العاملين بالصحيفة نفسها، وعدداً آخر ممن تعتبرهم السلطات الروسية أشخاصاً مثيرين للمتاعب.

ولقد أدى اغتيال المحاسب الضريبي، سيرغي ماغنيتسكي، إلى فرض أولى العقوبات على عدد من المسؤولين ورجال الأعمال الروس المقربين من الحكومة بعد عامين من الحادث. وفي عام 2012، صدّق رئيس الولايات المتحدة حينها باراك أوباما على ما يسمى بقانون ماجنيتسكي، الذي وضع آلية تسمح لوزارة الخارجية الأمريكية بإدراج أي مسؤولين فاسدين، أو مجرمين أجانب في قائمة العقوبات من دون موافقة الكونجرس. ولم يكن رد الفعل الأوروبي قوياً، فاكتفى البرلمان الأوروبي بالتصديق على قرار توصية، غير ملزم، فيما يتعلق بالأسماء الواردة في قائمة ماغنيتسكي.

ولكن هذا الوضع قد تغير بعد عام 2014، حيث فتح الصراع في أوكرانيا، وضم روسيا شبه جزيرة القرم، ودعمها للمعارضة في دونباس، صفحة جديدة للعقوبات في تاريخ العلاقات الروسية الأوروبية، فمنذ حينها، صار كل حادث تسميم لاحق لمواطنين روس بمنزلة ذريعة جديدة للإبقاء على نظام العقوبات، مثلما حدث في حالة المعارض الروسي فلاديمير كارا مورزا، أو قد يستخدم الحادث ذريعة لفرض عقوبات أشد صرامة ضد روسيا، مثلما حدث في حالة سكريبال.

2- مسؤولية ألمانية مزعومة

اتبعت الدبلوماسية الروسية في النصف الثاني من عام 2010 مبدأين من أجل تقليل فرص تعرضها لعقوبات أكثر صرامة. المبدأ الأول هو توطيد موسكو علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، والأحزاب الأوروبية المعارضة المناوئة للاتحاد الأوروبي في ألمانيا وفرنسا. وهذا ما يفسر العلاقات الوثيقة للغاية بين روسيا من ناحية، والقوى اليمينية في الاتحاد الأوروبي، أو دول مثل قبرص واليونان وإيطاليا والمجر، من ناحية أخرى.

والمبدأ الثاني هو تأكيد السلطات الروسية على مبدأ البرجماتية في إدارة العلاقات بين روسيا وأوروبا. ونظراً لأن الأزمة الأوكرانية صارت الآن جزءاً من التاريخ، فإن الأطروحة التي يدعمها الكرملين هي التركيز على المصالح السياسية المشتركة الحالية، وليس الخلافات التاريخية، وهو ما أدى إلى زيادة الحاجة إلى فكرة تطبيع العلاقات الروسية – الأوروبية، حتى في دول مثل ألمانيا وفرنسا.

وقد أثر تسميم أليكسي نافالني سلباً على موسكو، ليس لأن السلطات الروسية لجأت مرة أخرى إلى الأعمال الانتقامية ضد غير المرغوب فيهم سياسياً فحسب، ولكن الأسوأ من ذلك، أن من اكتشف آثار سم نوفيتشوك (الذي عُرف دولياً بعد تسميم عائلة سكريبال) كانوا أطباء ألمانيين، وهو ما يفرض التزامات إضافية على السلطات الألمانية للتحقيق في الحادث، مما يجعل برلين في الواقع خصم موسكو الرئيسي في التحقيقات في حادث تسميم نافالني.

ولا يحمل ظهور موضوع نافالني في الحوار الروسي الألماني عموماً أي بشرى سارة بالنسبة للكرملين، فمن ناحية تعتبر ألمانيا تقريباً الدولة الأكثر نفوذاً في الاتحاد الأوروبي، ولكن الأهم من ذلك أن الحادث سيؤثر على الموقف الألماني من العقوبات التي تحاول أمريكا فرضها على مشروع "نورد ستريم 2"، فقد أعلنت ألمانيا في أغسطس، خلال زيارة وزير خارجيتها هايكو ماس لموسكو، أنها تتوقع استكمال هذا المشروع، كما أعلنت في الوقت نفسه عن عدم وقوع المشروع تحت طائلة العقوبات الأمريكية. ثم أشار الوزير الألماني إلى أن ألمانيا تناقش إمكانية استغلال آليات الاتحاد الأوروبي الجماعية لحماية المشروع من العقوبات الأمريكية. 

وعلاوة على ذلك، كانت برلين مصممة قبل حادث نافالني على إيجاد حل وسط يتضمن الضغط على معارضي مشروع نورد ستريم 2 في أوروبا، مثل بولندا أو دول البلطيق. أما الآن، فلقد انعكست الأوضاع فصارت ألمانيا هي التي تعد حزمة أخرى من عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا.

وإضافة إلى ذلك، يجب وضع أجندة العلاقات الروسية - الألمانية المتوترة بالفعل في الاعتبار، ففي يونيو 2020، وجّه مكتب المدعي العام الألماني تهماً إلى المواطن الروسي المحتجز فاديم كاراسيكوف، للاشتباه بقيامه بقتل المعارض زليمخان خانغوشفيلي (وهو مواطن جورجي من أصل شيشاني) في برلين العام الماضي. والفرضية الرئيسية التي تبنتها سلطات إنفاذ القانون الألمانية هي أن جريمة القتل كانت بأمر من رمضان قديروف، رئيس الشيشان، أحد الأقاليم الروسية.

وقبل ذلك بشهر، أي في مايو 2020، وجهت سلطات إنفاذ القانون الألمانية تهمة أخرى ضد موسكو، وكانت التهمة هذه المرة متعلقة بهجمات سيبرانية على البريد الإلكتروني لأعضاء البرلمان الألماني، وكذلك المستشارة أنجيلا ميركل، في عام 2015، وكان المشتبه به الرئيسي هو المواطن الروسي دميتري بادين، الذي يعمل مع جماعة "فانسي بير" الروسية للقرصنة الإلكترونية. 

ولذا فإن كل هذه القضايا العالقة في العلاقات الثنائية بين روسيا وألمانيا سوف تضاف إلى الأزمة الأخيرة، ومن المرجح أن يؤدي تدخل برلين المباشر في قضية تسميم نافالني إلى صد محاولات الكرملين لإيجاد لغة مشتركة بينها وبين السلطات الألمانية بشأن مشروع نورد ستريم 2. علاوة على ذلك، فإن النتائج التي انتهى إليها خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والتي أكدت النتائج التي خلص إليها الخبراء الألمان، لا تترك لموسكو أي مجال للخروج من هذا الحادث من دون عقاب.

3- تجاهل الداخل الروسي

على الرغم من أن تسميم نافالني أصبح أحد أكثر الموضوعات تداولاً في النقاشات الدولية، فمن غير المرجح أن يمثل الحادث عاملاً مهماً في زعزعة استقرار الأوضاع في روسيا؛ فالعوامل التي لها تأثير أكبر بكثير على استقرار النظام الروسي هي الأوضاع في بيلاروسيا وناغورنو كاراباخ وقرغيزستان، وكذلك الموجة الثانية من فيروس كورونا. ولذا خرج حادث تسمم نافالني من نطاق الاهتمام العام سريعاً، على الأقل داخل روسيا.

وفي استطلاع رأي أجراه مركز ليفادا في نهاية شهر سبتمبر حول أهم الأحداث التي لا تُنسى، تبين أن الموجة الثانية من فيروس كورونا لا تزال هي أهم موضوع بالنسبة للروس، إلى جانب إجراءات الحجر الصحي المرتبطة بها (حسبما ذكر 19٪ من المشاركين في الاستطلاع)، وأحداث بيلاروسيا (19٪)، وكذلك يوم الاقتراع الواحد الذي جرى في روسيا في النصف الأول من سبتمبر (12٪). ولم يحظ تسمم نافالني سوى باهتمام 8٪ من المشاركين، مما يشير إلى انخفاض الاهتمام بهذا الحدث، على الأقل إذا ما قورن بالأحداث الأخرى التي وقعت في أوائل خريف 2020.

وحتى بعد مرور شهر من حادث تسميم نافالني، ذكر أكثر من 80٪ من الروس أنهم إما سمعوا عن الحادث للمرة الأولى (بنسبة 22٪ من المشاركين)، أو سمعوا شيئاً عنه (59٪). وحتى بين من يعرفون بتسميم نافالني، لا يعتقد سوى ثلثهم أن السلطات الروسية وراء الحادث، بينما لا يعتقد 55٪ منهم أن نافالني تسمم أصلاً.

وتظهر الاستطلاعات الشهرية التي أجراها مركز ليفادا أيضاً أن فترتي نهاية الصيف وبداية الخريف كانتا ناجحتين للغاية بالنسبة للكرملين من حيث دعم الشعب للسلطات، فلقد صرح 69٪ من المشاركين في استطلاع سبتمبر 2020 بأنهم يؤيدون تصرفات الرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما يتوافق مع مستوى الدعم في فترة ما قبل الحجر الصحي في فبراير 2020، والتي بدأت شعبية الرئيس بعدها في الانخفاض، إلى أن تم رفع قيود الحجر الصحي في النصف الأول من صيف 2020.

ختاماً، لم يؤثر حادث نافالني على الداخل الروسي أو على شعبية الرئيس بوتين، وعلى الرغم من ذلك، ظهرت تداعيات الحادث خارج الحدود الروسية، حيث زاد من توتر العلاقات الروسية الأوروبية، وأعاد جهود التقارب الروسي لألمانيا إلى الوراء مرة أخرى.