أخبار المركز
  • مركز المستقبل يصدر دراسة جديدة بعنوان: (كل شيء صنع في الصين: كيف تستطيع الدول النامية توظيف طاقاتها الإنتاجية المعطلة؟)
  • رانيا مكرم تكتب: (تحالفات مناوئة: رسائل توقيت الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران إلى ترامب)
  • صفاء مطعيش تكتب: (آلات وراثية: كيف يمكن للبيولوجيا التركيبية أن تغير عالمنا؟)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (الدور الإنساني للإمارات.. قوة ناعمة عالمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (فرصة ترامب لتحديد مستقبل الشرق الأوسط)

تكتيكات تفاوضية:

لماذا يدعو ترامب لضم كندا وبنما وغرينلاند؟

16 يناير، 2025


أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب، في 7 يناير 2024، غداة مُصادقة الكونغرس الأمريكي على فوزه في الانتخابات الرئاسية، جدلاً واسعاً بين أوساط المسؤولين الغربيين والمراقبين الدوليين؛ حيث تحدث ترامب علانية عن استخدام القوة العسكرية الأمريكية لاستعادة قناة بنما، والمطالبة بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند، واصفاً كليهما بالأمرين الحاسمين للأمن القومي الأمريكي. 

كما هدّد باستخدام الضغوط الاقتصادية لإجبار 40 مليون كندي على رؤية بلادهم تهبط إلى مرتبة ولاية أمريكية. ودعا إلى تغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، واقترح أن تخصص الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي 5% من اقتصاداتها للإنفاق الدفاعي، وهي زيادة حادة عن المبدأ التوجيهي غير المُلزم الحالي البالغ 2%.

ردود فعل غاضبة: 

أثارت تصريحات ترامب جدلاً وردود فعل دولية واسعة، خاصة أنه لم يستبعد استخدام القوة العسكرية لضم الأراضي المذكورة في سبيل تعزيز "الأمن القومي والاقتصاد الأمريكي"، وقد جاءت ردود الفعل تلك على النحو التالي: 

1. دعم الدنمارك للسكان المحليين في غرينلاند: قالت رئيسة وزراء الدنمارك ميتي فريدريكسن، إن "غرينلاند ليست للبيع"، وأضافت أن "الجزيرة ملك لسكانها، وأن السكان المحليين فقط هم من يمكنهم تحديد مُستقبلها".

2. رفض كندا تصريحات ترامب: قال رئيس الوزراء الكندي المُستقيل جاستن ترودو، في حسابه على منصة (إكس): "لا يوجد أي احتمال على الإطلاق، في أن تصبح كندا جزءاً من الولايات المتحدة"، وأضاف: "يستفيد العمال والمجتمعات في بلدينا، من كونهما أكبر شريك تجاري وأمني لبعضهما بعضاً". فيما صرّحت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، بأن بلادها "لن تتراجع أمام تهديدات ترامب"، مشيرة إلى أن كندا لن تكون أبداً جزءاً من الولايات المتحدة. وأضافت أن تصريحات ترامب تعكس "عدم فهمه لما يجعل كندا قوية".

3. مهاجمة المكسيك لترامب: هاجمت رئيسة المكسيك كلاوديا شينباوم ترامب قائلة: "إنه يعيش في الماضي". وقالت رئيسة المكسيك، إن اسم خليج المكسيك مُعترف به دولياً، معتقدة أنهم ينقلون معلومات خاطئة لترامب، وعرضت خلال مؤتمر صحفي خريطة توضح المساحة السابقة للمكسيك التي كانت تشمل أراضي أصبحت الآن جزءاً من الولايات المتحدة، مُقترحة إعادة تسمية أمريكا الشمالية إلى "أمريكا المكسيكية"، استناداً في ذلك إلى وثيقة تأسيسية يرجع تاريخها إلى عام 1814، والتي سبقت دستور المكسيك. 

4. تبرؤ الإدارة الديمقراطية في واشنطن: رفض وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تعليقات ترامب حول رغبته في الاستيلاء على غرينلاند ووصفها بأنها فكرة سيئة لا تستحق المناقشة، وقال للصحفيين خلال زيارة إلى باريس، وهي آخر رحلة خارجية له قبل ترك منصبه: "الفكرة التي تم التعبير عنها بشأن غرينلاند ليست جيدة، ولن تتحقق، وليست فكرة يجب أن نضيع الوقت في الحديث عنها"، وأضاف بلينكن: "إن الولايات المتحدة تكون أقوى وأكثر فعالية عندما تعمل مع الحلفاء بدلاً من قول وفعل أشياء تنفرهم".

5. غضب واستنكار أوروبي: حذّرت بعض الدول الأوروبية من مغبة تصريحات ترامب، حيث قال المستشار الألماني أولاف شولتس، إن تصريحاته أثارت حالة من "عدم الفهم" بين الزعماء الأوروبيين، مؤكداً أن "مبدأ حرمة الحدود ينطبق على كل دولة بغض النظر عما إذا كانت شرقنا أو غربنا"، فيما علقت فرنسا بالقول إن أوروبا ستدافع عن القانون الدولي، مشددة على أن غرينلاند أرض تابعة للاتحاد الأوروبي، ولا يمكن أن يسمح الاتحاد لأي دول أخرى في العالم بمهاجمة حدوده السيادية. 

ومن ناحية أخرى؛ اعتبر وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي تصريحات ترامب بأنها استفزازية ومزعزعة للاستقرار، وأن أقواله دائماً لم تكن تتطابق مع أفعاله، مُشدداً على أنه "لم يخض أي حليف في حلف شمال الأطلسي حرباً ضد حليف آخر منذ ولادة الحلف".

دوافع الاستحواذ: 

ثمة دوافع مختلفة وراء اهتمام ترامب بتأمين سيطرة بلاده على جزيرة غرينلاند وقناة بنما، إلى جانب رغبته في ضم كندا إلى بلاده، وتتمثل فيما يلي: 

1. القيمة الاستراتيجية لغرينلاند: ليست المرة الأولى التي تبدي فيها الولايات المتحدة اهتماماً بجزيرة غرينلاند الدنماركية مع رئيسها المنتخب دونالد ترامب؛ إذ عبرت واشنطن خلال أكثر من مناسبة خلال القرنين الماضيين عن رغبتها بالاستحواذ على هذه المقاطعة الاستراتيجية؛ حيث قدمت الولايات المتحدة عام 1867 عرضها الأول للتاج الدانماركي لشراء الجزيرة، وتلته عروض أخرى في الأعوام 1910 و1946، وحتى عام 2019 حينما عرض ترامب شراء الجزيرة؛ مما تسبب في أزمة دبلوماسية حادة بين واشنطن وكوبنهاغن، أدت إلى إلغاء ترامب زيارته الرسمية إلى الدنمارك. 

والحقيقة أن زيارة دونالد ترامب الابن (ترامب جونيور) إلى مدينة نوك (Nuuk) عاصمة جزيرة غرينلاند بالتزامن مع تعليقات والده أثارت مزيداً من الضجة الإعلامية والجدل حول مدى صدق نية ترامب لشراء الجزيرة؛ فعلى الرغم من تأكيد أن الزيارة سياحية ولا تحمل أي طابع رسمي؛ فإن المخاوف تصاعدت لدى البعض كونها زيارة استكشافية لتقييم الوضع بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة، وخاصة وأنه قبل رحلة ترامب جونيور، نُشر مقطع فيديو يظهر فيه رجل يرتدي قبعة "ماغا" MAGA يدعو ترامب إلى شراء غرينلاند وتحريرها من "الحكم الاستعماري" الدنماركي.

ويمكن تلخيص دوافع ترامب في السيطرة على غرينلاند في التالي:  

أ. استغلال دعوات الاستقلال لدى الجزيرة: على الرغم من أن الجزيرة تتمتع رسمياً بالحكم الذاتي عن الدنمارك منذ عام 2009؛ فإن سكان غرينلاند الأصليين يأملون استكمال تلك الخطوة والاستقلال التام عن مملكة الدنمارك؛ ومن ثم تخوض السياسة الداخلية في غرينلاند حالياً نقاشاً محورياً حول السيادة المستقبلية؛ حيث دعا رئيس حكومة الجزيرة موتي إيغيد، في خطابه بمناسبة العام الجديد إلى ضرورة اتخاذ "خطوات مهمة نحو دولة مُستقلة"، مع توقعات تُفيد بأنه عندما يتم انتخاب برلمان جديد في الجزيرة بحلول إبريل 2025، يأمل المؤيدون للاستقلال في الحصول على مزيد من الزخم، خاصة وأن البرلمان سيكون مسؤولاً عن البدء في كتابة الدستور، وعلى هذا النحو، يحاول ترامب توظيف هذه الطموحات القومية لخدمة أهدافه التوسعية الجيواقتصادية. 

ب. أهمية عسكرية وجيوستراتيجية: يدرك ترامب أهمية الموقع الجيوسياسي للجزيرة، فهي على منتصف الطريق بين موسكو ونيويورك؛ ومن ثم فإن سيطرة أي قوى عظمى أخرى عليها قد تجعلها نقطة انطلاق لتهديد أمن الولايات المتحدة الأمريكية. ونظراً لأنها تقع على أقصر طريق من أوروبا إلى أمريكا الشمالية، فإنها كانت –ولا تزال– ساحة عسكرية مهمة لاستضافة القاعدة العسكرية الأمريكية "بيتوفيك" والمعروفة سابقاً باسم "قاعدة ثول الجوية"؛ وهي قاعدة مهمة للإنذار المبكر والدفاع الصاروخي الأمريكي، وتؤدي دوراً حاسماً في مراقبة الفضاء. وتُعد الجزيرة بوابة العبور نحو القطب الشمالي والطرق البحرية باتجاهه، والسيطرة عليها تعني وضع رادارات هناك لمراقبة المياه بين الجزيرة وآيسلندا وبريطانيا، إلى جانب مراقبة السفن والغواصات البحرية الروسية والصينية.

ج. أهمية اقتصادية: تتميز الجزيرة بثرواتها من النفط والغاز الطبيعي والمعادن، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة المستخدمة في تصنيع البطاريات والصناعة عالية التقنية، وبحسب مسح أجري عام 2023، تم العثور على 25 من أصل 34 معدناً اعتبرتها المفوضية الأوروبية "مواد خام أساسية" في غرينلاند، والحقيقة أن عدد السكان المحدود، واهتمامهم بقطاع صيد الأسماك فحسب، إلى جانب  القوانين الدنماركية التي تفرض تشديداً صارماً على عمليات التنقيب في غرينلاند بهدف حمايتها والمحافظة على تنوعها البيئي الثري؛ يجعل الجزيرة محط أنظار أية دولة ذات طموحات توسعية، خاصة في ظل التغيرات المناخية التي تؤدي إلى تذويب كميات الثلج المتراكمة في الجزيرة؛ ما يسهل عمليات التنقيب. وبحسب صحيفة التايمز، ينظر ترامب إلى غرينلاند باعتبارها قطعة عقارية غير مُستغلة بشكل كاف مع كنز من الموارد الطبيعية النادرة مدفون تحت أكوام الجليد الذائبة.

د. مواجهة النفوذ الصيني والروسي: إن حجة ترامب بشأن غرينلاند ترتبط بمخاوفه من تنامي النفوذ الروسي والصيني في الجزيرة ومنطقة القطب الشمالي، فهو ليس الوحيد الذي دق ناقوس الخطر بشأن توسع نفوذ تلك القوتين، فقد أشارت كندا والدنمارك والنرويج مؤخراً إلى مخاطر الوجود الروسي والصيني المتزايد في القطب الشمالي، ولاسيما مع زيادة التدريبات العسكرية المشتركة في المنطقة بين البلدين.  والحقيقة أن الولايات المتحدة أبدت مُخاوف مُتزايدة في السنوات الأخيرة من تنامي الاستثمارات الصينية في الجزيرة وتوسيع نفوذها، خصوصاً وأن بكين كانت قد نشرت عام 2017 استراتيجيتها حول المنطقة القطبية تحت مسمى "طرق الحرير القطبية"، وأعربت فيها عن أهمية غرينلاند، كونها مفترق طرق جديد للعالم، ومصدراً جديداً للمواد الخام، وما زاد من قلق الأمريكيين في عام 2019 هو التحذيرات من أن الصين تنوي بناء مطارات في غرينلاند، بل وحتى قد تخطط لشراء قاعدة بحرية أمريكية قديمة هناك. 

2. السيطرة على الملاحة عبر قناة بنما: في أوائل القرن العشرين؛ جعل الرئيس الأمريكي السابق ثيودور روزفلت، إكمال ممر قناة بنما أولوية. وكانت المنطقة في ذلك الوقت تحت سيطرة كولومبيا، لكن الثورة التي دعمتها الولايات المتحدة آنذاك أدت إلى انفصال بنما وكولومبيا وتشكيل جمهورية بنما في 1903، ومنذ ذلك الحين، وقعت الولايات المتحدة والجمهورية المشكلة حديثاً معاهدة منحت الولايات المتحدة السيطرة على شريط من الأرض يبلغ طوله 10 أميال لبناء القناة مقابل تعويض مالي، وقد تم اكتمال حفر القناة في 1914 من قبل الولايات المتحدة؛ مما عزز مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى في مجال الهندسة والتكنولوجيا، ولكن ذلك جاء بتكلفة بشرية هائلة. 

وتُشير التقديرات إلى أن نحو 5600 شخص لقوا حتفهم أثناء بناء الولايات المتحدة للقناة. وتم إثبات أهمية القناة من الناحية الجيوستراتيجية خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تم استخدامها كممر حاسم لجهود الحلفاء الحربية بين المحيطين الأطلسي والهادئ. 

وهكذا، ظلت التوترات الدبلوماسية تشتعل حيناً بين البلدين بسبب القناة إلى أن وصلت ذروتها في يناير 1964 عندما أدت أعمال الشغب المناهضة لأمريكا إلى مقتل العديد من الأشخاص في منطقة القناة، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لفترة وجيزة، إلا أن التحول في العلاقات الإيجابية كان خلال فترة ولاية الرئيس جيمي كارتر؛ حيث كان أكثر ميلاً لتسليم القناة إلى شعب بنما، وبالفعل توصل إلى اتفاق أكثر إنصافاً مع البنميين؛ بموجبه تم إعلان أن القناة محايدة ومفتوحة أمام جميع السفن، ونص الاتفاق على سيطرة مشتركة بين الولايات المتحدة وبنما على المنطقة حتى نهاية 1999، عندها تُمنح بنما السيطرة الكاملة.

وبالفعل تسلمت بنما ملكية القناة كاملة في عام 2000، وتجاوز حجم الشحن سعة الممر المائي، وبدأ مشروع توسعة ضخم في 2007 واكتمل بعد ما يقرب من عقد؛ مما جعل تجربة قناة بنما محط أنظار واهتمام العالم لتحكمها في حركة الملاحة الدولية، بما في ذلك تأثيرها في حركة الشحن الأمريكية؛ وهو ما جعل حديث ترامب عن أهمية السيطرة الأمريكية على قناة بنما باعتبارها أحقية تاريخية أكثر تواتراً، وذلك في ضوء الدوافع الأربعة التالية: 

أ. أهمية جيواقتصادية للولايات المتحدة: تحقق القناة إيرادات تصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً، ويمر نحو 6% من حجم التجارة البحرية العالمية عبرها، وما يقرب من 40% من حركة الحاويات في الولايات المتحدة سنوياً؛ حيث تُعد الولايات المتحدة أكبر مستخدم لقناة بنما. وفي عام 2021، كانت أكثر من 73% من جميع السفن المارة عبر القناة متجهة إلى أو قادمة من موانئ الولايات المتحدة. وعلى هذا النحو، فإن خطاب ترامب يتجاوز انتقاد عملية تسليم القناة التاريخية؛ ويدعو دائماً إلى المطالبة بالسيطرة الكاملة على القناة، تحقيقاً لحماية المصالح الأمريكية، وتأكيداً لهيمنتها الإقليمية والدولية.

ب. خلفية جمهورية مُتشددة: الحقيقة أن اتفاقية "كارتر" تجاه قناة بنما عام 1977 لم تحصل على تأييد كل الأمريكيين أو حتى النخبة السياسية الأمريكية، فقد كانت الاتفاقية محل جدال في الداخل الأمريكي، ووجدت وقتها استطلاعات الرأي أن نحو نصف الأمريكيين يعارضون قرار التنازل عن السيطرة على القناة لبنما، وبالنسبة للنخبة السياسية الأمريكية، كان الجمهوريون يعارضون الاتفاقية بشدة؛ حيث اعتبروا أن إدارة "كارتر" الديمقراطية فرّطت في ملكية تلك القناة، لدرجة أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان قال عندما ترشح للرئاسة "إن شعب الولايات المتحدة هو المالك الشرعي للقناة" وأثار الجماهير بقوله: "لقد اشتريناها؛ لقد دفعنا ثمنها؛ لقد بنيناها". وهكذا، يبدو أن ترامب جزء من تيار معارضة تلك الاتفاقية التاريخية، حيث قال في إحدى المناسبات إن اتفاقية كارتر "أعطت القناة بغباء إلى البنميين".

ج. التخلص من الرسوم الجمركية: إن الجفاف الذي تعرضت له القناة في العاميْن الماضييْن أدى إلى انخفاض مستويات المياه؛ مما أعاق قدرتها على العمل بشكل طبيعي؛ وهو ما أدى إلى فرض قيود على حركة المرور ورسوم أعلى لعبور القناة، ويبدو أن هذه الرسوم اعتبرها ترامب تُشكل تهديداً للأمن الاقتصادي الأمريكي، ووصفها في أكثر من مرة بأنها "سخيفة وغير عادلة للغاية، خاصة مع العلم بالكرم الاستثنائي الذي مُنح لبنما". وفي هذا الصدد، يتوقع المراقبون أن حديث ترامب المباشر عن فرض بنما "أسعاراً باهظة" على سفن الشحن الأمريكية ما هو إلا مناورة لضمان ترتيب اتفاق استثنائي مع بنما وإدارة القناة لصالح واشنطن يضمن تخفيض أسعار الرسوم الجمركية أو إلغاءها من على السفن الأمريكية العابرة للقناة. 

د. مواجهة الصين في بنما: يزعم ترامب بأن الصين تسعى إلى ممارسة المزيد من السيطرة على بنما ومنطقة القناة، وفي ديسمبر 2024، اتهم بنما زوراً بالسماح للجنود الصينيين بالسيطرة على طريق الشحن الحيوي، الذي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، ليرد الرئيس البنمي بأن "القناة ليس لها سيطرة، مباشرة أو غير مباشرة، لا من الصين، ولا من المجتمع الأوروبي، ولا من الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى".

وفي خضم الدوافع الأربعة، يتماشى خطاب ترامب مع مواقع دوائر بالنخبة والمجتمع الأمريكي، فقد أعربت القيادة الجنوبية الأمريكية في وقت سابق عن مخاوفها بشأن تنامي الاستثمارات الصينية في بنما، وقد سلطت الجنرال، لورا ريتشاردسون، الضوء أمام لجنة بمجلس الشيوخ على أنها تشكل تهديداً محتملاً للمصالح الأمريكية، خاصة في ظل سيطرة الصين على الموانئ في طرفي القناة من خلال شركة "هاتشيسون بورتس بي بي سي"، وهي شركة مقرها هونغ كونغ، ولها علاقات قوية مع بكين، وقد تُسهم في سيطرة الصين على العمليات اللوجستية الحاسمة لكفاءة القناة.

وفي نفس السياق، ألهم ترامب أعضاء الكونغرس الجمهوريين لتقديم مشروع قانون من شأنه أن يسمح للحكومة الفدرالية باتخاذ خطوات لإعادة شراء قناة بنما؛ حيث قالت النائبة الجمهورية، مارغوري تايلور غرين، في 7 يناير 2025 إنها تخطط لتقديم مشروع قانون من شأنه تغيير تسمية خليج المكسيك إلى "خليج أمريكا"، وقدم النائب الجمهوري داستي جونسون، قانون إعادة شراء قناة بنما المكون من صفحتين يوم الخميس الموافق 9 يناير 2025، والذي يعطي الحق للرئيس الأمريكي ووزير خارجيته ببدء إجراء مفاوضات مع نظراء مناسبين في بنما بشأن إعادة شراء القناة.

3. ضم كندا باستخدام القوة الاقتصادية: قال ترامب إن "الكثير من الكنديين يحبون فكرة أن تصبح كندا الولاية رقم 51"، مقترحاً استخدام "القوة الاقتصادية" للضغط على الأمة الكندية للاندماج مع الولايات المتحدة، وتشير التقديرات إلى أن تعليقات ترامب بشأن ضم كندا ليست "جادة" بقدر ما هي "استفزازية" للضغط على أوتاوا لقبول أي خطط مستقبلية بشأن حل اختلالات التوازن التجاري بين البلدين.

وباختصار، فإن دوافع ترامب للإداء بتلك التصريحات المثيرة للجدل بشأن ضم كندا ترتبط برغبته في التالي: 

أ. استثمار إعلامي: سعى دونالد ترامب إلى توظيف هذه المطالب إعلامياً، إضافة إلى أنه استغل إعلان استقالة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو لإهانة الحكومة الكندية؛ حيث وصف ترامب ترودو في أكثر من مناسبة بأنه "حاكم" وهو اللقب الذي يحمله حكام الولايات الأمريكية، ويرى المراقبون أن ترامب يسعى من خلال تلك التصريحات إلى انتهاز وانتزاع ظروف تجارية أفضل من كندا.

ب. تغيير العلاقات التجارية مع كندا: تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على كندا في أول يوم له في منصبه، ما لم تعالج أوتاوا مخاوفه بشأن تدفق المخدرات غير المشروعة عبر الحدود، مشدداً على أن "التعريفات الجمركية ستكون سارية المفعول حتى يتوقف غزو المخدرات، وخاصة الفنتانيل، وجميع المهاجرين غير الشرعيين لبلدنا". والحقيقة أن ترامب يرى أن بلاده تنفق مليارات الدولارات لحماية كندا، وأنها لم تُعد قادرة على تحمل العجز التجاري الضخم والإعانات التي تبقي كندا واقفة على قدميها، مُفضّلاً أن تُسفر ولايته الثانية عن ترتيب جديد بشأن مُحددات العلاقة الأمنية والتجارية بين واشنطن وأوتاوا.

ويرى المراقبون أنه من المُستحيل تحقيق فكرة ترامب بشأن انضمام كندا إلى الولايات المتحدة، وكان تحليل لصحيفة بولتيكو الأمريكية أشار إلى أن الضرر الأكبر في حال تحقيق هذا السيناريو سوف يكون للحزب الجمهوري؛ حيث إن الديمقراطيين سوف يستفيدون بشكل كبير؛ نظراً لأن كندا ستكون ولاية زرقاء ضخمة -مثل ولاية كاليفورنيا- من شأنها أن تشغل عشرات المقاعد في مجلس النواب وتخلق ميزة ديمقراطية ضخمة في المجمع الانتخابي، خاصة وأن كل استطلاعات الرأي في كندا تعكس ميول المواطنين الكنديين إلى مبادئ الحزب الديمقراطي.

دلالات رسائل ترامب: 

تنم تصريحات ترامب عن تكريسه لنهج "أمريكا أولاً"، ورغبته الحقيقية المصارعة مع قضايا الأمن القومي التي يتعين على الولايات المتحدة مواجهتها في عالم جديد يشكّله صعود الصين، وعدم المساواة في العولمة، ومن هذا المنطلق، تشير تصريحات ترامب إلى ما يلي: 

1. تأكيد الدور العالمي: تعكس تصريحات ترامب رغبته في بدء الولاية الثانية بعدد من الخطوات التي يعتقد أنها تسهم في تعزيز المكانة الدولية للولايات المتحدة، والتي ظلت خلال العقد الماضي أقرب إلى الانحسار وسياسة فك الارتباط ببعض المناطق.

2. الحصول على صفقات أفضل: من المرجح أن تكون تصريحات ترامب تطبيقاً لسياسة الضغط الأقصى؛ أي أنه لا يرغب فعلياً في ضم غرينلاند أو بنما أو كندا، بل يسعى إلى  حصول الولايات المتحدة على صفقات أفضل تصب في مصلحة الأمريكيين، ونظراً لأنه لا يؤمن بالتحالفات الدولية بقدر ما يهتم بالاتفاقيات الثنائية، فإنه يقرر المناورة تجاه حكومة كل دولة على حدة، أملاً في إتمام اتفاقية مع بنما تضمن تخفيض الرسوم الجمركية على السفن الأمريكية، أو ضمان حرية الوصول إلى المعادن النادرة في غرينلاند، والطرق البحرية التي كشف عنها ذوبان الجليد القطبي، أو حتى التوصل إلى اتفاق جديد مع كندا يعود بالنفع على الشركات الأمريكية المصنعة. 

3. تعزيز الوجود الأمريكي في الفناء الخلفي: إن تصميم ترامب على التعامل مع نصف الكرة الغربي كمجال نفوذ أمريكي يشير إلى إحياء مبدأ مونرو، الاستراتيجية التي قدمها الرئيس جيمس مونرو لأول مرة في عام 1823، والتي شكلت السياسة الخارجية الأمريكية بشكل حاسم خلال أوائل القرن العشرين، وبعد ذلك خلال الحرب الباردة. ومن الواضح أن ترامب يريد تأكيد هذا المبدأ لمنع القوى الخارجية مثل الصين من التدخل في المنطقة، مع الرغبة في تخفيف الفوضى المتصورة في بعض بلدانها، والتي تجلب مزيداً من تدفق المهاجرين إلى الأراضي الأمريكية. 

وفي هذا الصدد، يرى المراقبون أن حجة ترامب لزيادة التركيز الأمريكي على الأمريكيتين قد تؤدي إلى نتائج عكسية عميقة؛ حيث قد تزيد من ميول تلك الدول للتقارب مع خصوم أمريكا، بما في ذلك الصين وروسيا وإيران، مع احتمالات بانسحاب بعض الدول القلقة في المنطقة من منظمة الدول الأمريكية، وهي المؤسسة الحكومية الدولية التي تنتمي إليها أغلب بلدان أمريكا الشمالية والجنوبية ومنطقة الكاريبي.

وفي التقدير، يمكن القول إن الرئيس المنتخب دونالد ترامب، أرسل عبر تصريحاته المختلفة رسائل تنم عن رغبته في تأكيد أولوية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، مستأنفاً مزيجه المميز من الخطابات الرنانة والتهديدات، والتي في الأغلب تعبر عن تكتيك تفاوضي يستخدمه ترامب للضغط على شركاء واشنطن وجعلهم في موقف دفاعي لتنفيذ الأهداف الأمريكية، وضمان حصول واشنطن بقيادة ترامب على أفضل الصفقات. ومع ذلك يبقى الخطر أكثر وضوحاً في ظل استهانة ترامب بالتحالفات الأمريكية القائمة؛ والتي من المرجح أن تتعرض للتعطيل مع ترهيب الحلفاء؛ مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية لصالح خصوم واشنطن.