أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

قوة الالتزام:

دروس مكافحة التضخم بين تحمل التكاليف وعدم اليقين

29 أكتوبر، 2024


عرض: بسنت عادل

يُعد التضخم كابوساً يلاحق الاقتصاديين وصناع السياسات في دول العالم؛ إذ يهدد بتقويض الثقة في النظام النقدي وعرقلة مسيرة التنمية، وعلى مر العصور، سعى صناع السياسات جاهدين لترويض هذا الشبح الذي يهدد بتآكل قيمة العملة، وتقويض الثقة في النظام الاقتصادي. ورغم الجهود المتكررة؛ فإن التضخم ظل تحدياً مستعصياً على الحل، متخفياً في أشكال مختلفة ومتأثراً بعوامل متشابكة. 

في هذا السياق، تأتي أهمية دراسة "دروس من التاريخ لنجاح سياسات خفض التضخم"، للمؤلفين كريستينا رومر، وديفيد رومر، التي نشرت في دورية الاقتصاد النقدي في العام 2024؛ لتسلط الضوء على عنصر حاسم في معركة مكافحة التضخم وهو قوة الالتزام. من خلال تحليل تجارب الاحتياطي الفدرالي الأمريكي؛ إذ تكشف الدراسة عن أن النجاح في كبح جماح التضخم ليس مجرد مسألة تطبيق لأدوات السياسة النقدية، بل يتطلب أيضاً إرادة سياسية قوية وقدرة على التمسك بالهدف المحدد على المدى الطويل، حتى في وجه التحديات والعواقب المحتملة.

الاتساق والمصداقية:

تشير الدراسة إلى أن تصورات الجمهور تؤدي دوراً محورياً في فعالية السياسات النقدية؛ إذ إن الإدراك العام لالتزام البنك المركزي بخفض التضخم يؤثر بشكل كبير في توقعات التضخم، فكلما زاد اعتقاد الجمهور بجدية البنك المركزي في مكافحة التضخم، قلت توقعات التضخم؛ ومن ثم تقل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بتنفيذ السياسات النقدية التقييدية.

واستندت الدراسة إلى تحليل دقيق للتصريحات الرسمية وغير الرسمية لصناع السياسات النقدية خلال فترات زمنية متباينة، وكشفت النتائج عن علاقة طردية بين قوة التزام صانعي السياسات النقدية بخفض التضخم ونجاح السياسات النقدية. ففي الفترات التي أظهر فيها صناع السياسات التزاماً قوياً، مثل أعوام 1958 و1979 و1981، حققت السياسات النقدية نتائج أفضل في كبح جماح التضخم؛ تجلى ذلك في استعدادهم لتحمل تكاليف اقتصادية كبيرة لتحقيق هدف الاستقرار السعري. وعلى النقيض من ذلك، ففي فترات أخرى مثل 1968 و1974 و1978، لوحظ تراجع في وضوح الالتزام بخفض التضخم، مع ميل أكبر نحو التركيز على أهداف اقتصادية أخرى كالنمو الاقتصادي.

وخلصت الدراسة إلى أن نجاح السياسات النقدية في مكافحة التضخم يعتمد بشكل كبير على قدرة صناع السياسة على التكيف مع الظروف الاقتصادية المتغيرة وتعديل استراتيجياتهم وفقاً للمعطيات المستجدة، وتكتسب هذه النتائج أهمية خاصة في سياق الجهود الحالية للاحتياطي الفدرالي لمكافحة التضخم.

استراتيجية مواجهة التضخم:

تركز الدراسة على قناتين رئيسيتين لمواجهة التضخم، الأولى: هي تأثير التوقعات التضخمية؛ إذ يُعتقد أن إعلان البنك المركزي عن التزامه بخفض التضخم بشكل واضح، كما فعل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في أوائل الثمانينيات تحت قيادة بول فولكر، يسهم في خفض توقعات التضخم لدى الشركات؛ مما يعزز فعالية السياسة النقدية، فعندما يثق المواطنون في قدرة البنك المركزي على خفض التضخم؛ يقللون من طلبهم على السلع والخدمات؛ مما يحد من الضغوط التضخمية.

 أما القناة الثانية: فهي تجنب التسهيلات النقدية المبكرة؛ إذ تؤكد الدراسة أهمية التزام البنك المركزي بمساره النقدي حتى تحقيق هدف الاستقرار السعري، تجنباً لتفاقم الضغوط التضخمية مستقبلاً، فالتسهيلات النقدية المبكرة، كما حدث في بعض الاقتصادات بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، يمكن أن تؤدي إلى عودة التضخم للارتفاع مرة أخرى؛ مما يقلل من مصداقية البنك المركزي.

يضاف إلى ذلك، دور السياسات الحكومية المباشرة في مكافحة التضخم؛ إذ إن فرض ضوابط على الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد إلغائها مؤقتاً في يونيو 1946 وإعادة فرضها بشكل أضعف في يوليو من العام نفسه؛ قد أسهم في تحقيق انخفاض مؤقت في معدلات التضخم، ومع ذلك، فإن إلغاء هذه الضوابط بشكل نهائي في نوفمبر 1946 أدى إلى ارتفاع حاد في التضخم؛ مما يشير إلى أن هذه السياسات قد تكون ذات فعالية مؤقتة فقط.

وتستعرض الدراسة قرارات السياسة النقدية التي اتخذتها اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) وهي هيئة صنع السياسة النقدية بالنظام الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة، وذلك خلال فترة الثمانينيات التي شهدت ارتفاعاً حاداً في معدلات التضخم. وبالاستناد إلى تحليل محاضر اجتماعات اللجنة والتصريحات العامة لصناع السياسة، لتقييم مدى التزام صناع السياسة بخفض التضخم وتحديد العوامل التي أثرت في هذه القرارات؛ أظهرت نتائج التحليل أن صناع السياسة في الفترة المذكورة أظهروا التزاماً قوياً بخفض التضخم، حتى لو تطلب ذلك تحمل تكاليف اقتصادية كبيرة.

فالتصريحات العلنية لمسؤولين مثل: بول فولكر وأنتوني سولومون، والتي أكدت الاستعداد لتحمل "ضائقة اقتصادية إضافية" و"ركود كبير" من أجل تحقيق الاستقرار السعري، تشير إلى تحول جذري في توجهات السياسة النقدية الأمريكية، هذا التحول يعكس اعترافاً واضحاً بخطورة التضخم المستمر وآثاره السلبية على الاقتصاد على المدى الطويل.

على الجانب الآخر، تُعد سياسة التحكم في التضخم أحد أهم الأدوات التي تستخدمها البنوك المركزية للحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، وأثبتت تجربة الولايات المتحدة في الثمانينيات أن السياسة النقدية التقييدية، التي تتمثل في رفع أسعار الفائدة لتقليل الطلب الكلي، يمكن أن تكون فعالة في كبح جماح التضخم. مع ذلك، فإن الدراسة تكشف أيضاً عن التحديات التي تواجه صناع السياسة في تطبيق هذه السياسة، ففي سبعينيات القرن الماضي، كان هناك تردد في اتخاذ إجراءات حازمة لخفض التضخم؛ بسبب المخاوف من الآثار السلبية على النمو الاقتصادي والتشغيل، وقد أدى هذا التردد إلى تفاقم مشكلة التضخم.

حلقات متفاوتة: 

تشير الدراسة إلى أن صانعي السياسات في عام 1978 لم يكونوا ملتزمين بشكل كافٍ بخفض التضخم، فبدلاً من اتخاذ إجراءات حازمة ومباشرة، مثل تشديد السياسة النقدية، فضلوا اتباع نهج أكثر تدريجية، يعود هذا التردد إلى عدة أسباب: أولها، تخوف صانعي السياسات من أن تؤدي الإجراءات الصارمة إلى ركود اقتصادي، وثانيها، التركيز على مجموعة متنوعة من السياسات، مثل: السياسة المالية وسياسة الدخل، بدلاً من التركيز بشكل أساسي على السياسة النقدية لمعالجة مشكلة التضخم.

 وعند تحليل قرارات السياسة النقدية للبنك الفدرالي الأمريكي خلال فترات مختلفة، يتضح أن هذه القرارات تتأثر بعوامل متعددة، بما في ذلك الظروف الاقتصادية والسياسية، والأهداف المتضاربة. ففي الخمسينيات، كان هناك التزام متوسط بخفض التضخم، ولكن مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، تراجع هذا الالتزام بشكل ملحوظ. يرجع ذلك إلى التفاؤل السائد بشأن النمو الاقتصادي وتشكيك البعض في فعالية السياسة النقدية في مكافحة التضخم، ومع ذلك، بدءاً من عام 1979، شهدنا تحولاً في تفكير صانعي السياسات؛ إذ زاد إيمانهم بفعالية السياسة النقدية في مكافحة التضخم؛ ومن ثم زاد التزامهم بخفضه.

وتُعد درجة التزام صانعي السياسة النقدية بخفض التضخم في المراحل الأولى من هذه المحاولات هي العامل الحاسم الذي يحدد نجاح أو فشل هذه السياسات، فكلما كان صناع السياسة أكثر التزاماً وتصميماً على تحقيق هدفهم، زادت احتمالية نجاحهم في كبح جماح التضخم، هذا الالتزام يتجلى في عدة أبعاد، منها: استعدادهم لتحمل التكاليف الاقتصادية قصيرة الأجل، ووضوح الرؤية بشأن أهدافهم، وقوة اعتقادهم بقدرة السياسة النقدية على التأثير في مسار التضخم، واستعدادهم لتبني نهج حازم وغير تقليدي لتحقيق أهدافهم؛ إذ تبين أن الالتزام القوي بخفض التضخم لا يؤدي إلى خفض التضخم المتوقع بشكل مباشر، بل يعمل بشكل غير مباشر من خلال تعزيز قوة واستمرارية السياسات النقدية التضخمية، فصناع السياسة الملتزمون يميلون إلى المثابرة في جهودهم حتى تحقيق هدفهم، بينما يميل صناع السياسة الأقل التزاماً إلى التخلي عن جهودهم مبكراً؛ مما يؤدي إلى فشل السياسة في تحقيق أهدافها.

وتشكل محاولة الاحتياطي الفدرالي لعام 2022 لخفض التضخم أحدث حلقة في سلسلة طويلة من الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف، وعلى الرغم من أن التقييم النهائي لهذه المحاولة لن يكون ممكناً إلا بعد نشر محاضر اجتماعات اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة لعام 2028؛ فإن الأدلة المتاحة حتى الآن تشير إلى وجود التزام قوي من جانب صانعي السياسة النقدية، مع تأكيد أن صانعي السياسة في عام 2022 كانوا مستعدين لتقبل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بخفض التضخم؛ مما يشير إلى وجود إرادة سياسية قوية لتحقيق هذا الهدف.

علاوة على ذلك، فإن التعبير المتكرر عن هدف التضخم البالغ 2% في مختلف البيانات الرسمية، بما في ذلك خطابات رئيس الاحتياطي الفدرالي، يشير إلى تأكيد التزام صناع السياسة النقدية في الفدرالي بشكل قاطع على تحقيق هدفهم حتى لو تطلب الأمر اتخاذ إجراءات صعبة قد تؤثر سلباً في الاقتصاد على المدى القصير، وذلك مع تحذير صناع السياسة من خطورة إنهاء السياسات التقييدية مبكراً، مشيرين إلى الدروس المستفادة من التجارب السابقة. 

تحديات كبرى:

ذكرت الدراسة نوعين من التحديات الكبرى في سياسات مكافحة التضخم، أولهما: الاستعداد لتحمل التكاليف؛ إذ كان السبب الرئيسي وراء توقف الحكومات عن محاربة ارتفاع الأسعار قبل أن ينخفض بشكل كافٍ؛ هو أن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد بسبب هذه المحاربة كانت كبيرة جداً، فعندما بدأت الشركات تفقد الكثير من الأرباح ويفقد البعض وظائفهم بسبب الإجراءات المتخذة لمكافحة ارتفاع الأسعار، قررت الحكومات التوقف عن هذه الإجراءات؛ ومن ثم فإن مدى التزام الحكومات بمحاربة ارتفاع الأسعار يعتمد على مدى استعدادها لتحمل الأضرار الاقتصادية الناتجة عن ذلك.

أما التحدي الثاني فهو: عدم اليقين بشأن التوقعات، ففي الوقت الذي يعترف صناع السياسة بأن هناك درجة من عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية، فقد يضطرون إلى تعديل سياساتهم بناءً على التطورات المستقبلية.

ختاماً، تخلص الدراسة إلى اعتقاد الباحثين أن التزام الاحتياطي الفدرالي الحالي بخفض التضخم مشابه للالتزام الذي أظهره في فترات سابقة من تاريخه، ويعترف الباحثون بأن الأحداث غير المتوقعة مثل الأزمات المالية أو السياسية قد تؤثر في مسار جهود خفض التضخم، وبناءً على الأدلة التاريخية، يتوقع الباحثون أن الاحتياطي الفدرالي سيستمر في جهوده حتى تحقيق هدفه المتمثل في خفض التضخم إلى المستوى المستهدف.

المصدر:

Romer, Christina and Romer, David, Lessons from History for Successful Disinflation (July 2024). NBER Working Paper No. w32666, Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=4894660