أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

المسار المزدوج:

كيف تُفكر الصين في تجاوز أزمتها الاقتصادية؟

28 أغسطس، 2023


بعد أن قطع الاقتصاد الصيني شوطاً طويلاً على طريق النمو والتوسع، مُستفيداً من مقوماته الذاتية، ومن الظروف الخارجية المواتية؛ فإن تحديات السنوات الأخيرة، محلياً وخارجياً، ساقته إلى مفترق طرق، ووضعته أمام معضلة معقدة، فهو إما أن يتمكن من التغلب على هذه التحديات ومواصلة طريق التوسع والنمو، أو يستسلم لتلك التحديات، ويُغير بوصلته نحو التراجع والانحدار. وهذا الوضع المُعقد يمثل محور التساؤل الاقتصادي الأهم في العالم الآن؛ فإلى أين يتجه الاقتصاد الصيني؟ وإلى أي مدى يمكنه تجاوز معضلته الراهنة؟

مقومات صينية:

تقف الصين في مقدمة الاقتصادات المُحركة للنمو العالمي، وهي قد اعتلت هذه المرتبة بفضل مقومات عدة امتلكتها على مدار السنوات الماضية؛ أهمها ما يلي:

1- تحقيق معدلات نمو مرتفعة: تمكن الاقتصاد الصيني من المحافظة على معدلات نمو مرتفعة، تخطت 15% في بعض السنوات، وظل على ذلك على مدى عقود، ما دفعه إلى منافسة نظيره الأمريكي على صدارة الاقتصادات العالمية من حيث الحجم، بل إنه صار مرشحاً للتفوق عليه خلال سنوات معدودة.

وفي الوقت الذي حافظ فيه الاقتصاد الصيني على نمو بلغ متوسطه 10% خلال الفترة من عام 1980 إلى عام 2010، فإن نمو الاقتصاد الأمريكي لم يتجاوز متوسطه 2.8% خلال نفس الفترة. كما حافظ الاقتصاد الصيني على نمو بمتوسط بلغ 7.3% خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2019، في وقت تراجع فيه نمو الاقتصاد الأمريكي إلى 2.2%. وفي عام 2020، بينما انكمش الاقتصاد الأمريكي بنحو 2.8% تحت وطأة أزمة "كورونا"، فإن الاقتصاد الصيني حافظ على التوسع وحقق نمواً بنحو 2.2%.

ونفس القاعدة انطبقت على 2021 و2022، وهما عاما التعافي من جائحة "كورونا"؛ فبينما بلغ متوسط النمو الأمريكي خلالهما 4%، فإن متوسط نمو الاقتصاد الصيني تجاوز 5.7%. كما تشير الترجيحات إلى استمرار تفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي في النمو خلال الفترة 2023-2028، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الصيني بمتوسط 4.1%، فيما سيتراجع النمو الأمريكي إلى 1.8% فقط.


2- استثمار الفوائض المالية: لم تقتصر المقومات التي تمتع بها الاقتصاد الصيني على الحجم الكبير والنمو المرتفع فقط، بل إنه نجح في مراكمة الفوائض المالية، فصار لديه أكبر احتياطي عالمي من النقد الأجنبي، بما يتجاوز 3 تريليونات دولار. وهذه الاحتياطيات مكنته من ضخ استثمارات كبيرة في صناعاته الوطنية، فاستطاع بناء صناعات أكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية مقارنة بنظيرتها بالاقتصادات المتقدمة. وتُعد شبكات الجيل الخامس والقطارات فائقة السرعة الصينية، أمثلة على ذلك.

وليس الاستثمار المحلي بكثافة في التكنولوجيات المتقدمة هو فقط العائد من تراكم الفوائض المالية لدى الصين، بل إنها استخدمت جزءاً من تلك الفوائض في تمويل مشروع تنموي ذي نطاق عالمي، وهو مبادرة "الحزام والطريق"، التي تستهدف ربط الاقتصادات الوطنية للدول بالاقتصاد الصيني، وجعل هذا الأخير نقطة المركز والمحور الذي يدور حوله الاقتصاد العالمي ككل.

3- الاحتفاظ بسمة الاقتصاد النامي: بقيت الصين طوال العقود الماضية متمتعة بمقوم لم يَعُده الكثيرون ميزة بالنسبة لها، بقدر ما عدوه عيباً ونقطةَ قصور فيها؛ يتمثل هذا المقوم في احتفاظ اقتصاد الصين بكونه نامياً؛ وهي الميزة التي منحته هامشاً كبيراً للنمو والصعود على سلم التقدم. فكون الاقتصاد الصيني نامياً يعني امتلاكه قطاعات ما زالت بكراً، وأنشطة لم تستنفد فرص نموها وتوسعها بعد. وبالتالي، فإن ضخ استثمارات كبيرة في تلك القطاعات والأنشطة أعطاها دفعة كبيرة للتوسع، وأحدث طفرة كبيرة في ناتجها، وهو أمر لم يكن ليتحقق إذا كانت تلك القطاعات متقدمةً ومستنفدةً فرص توسعها بالفعل.

4- وجود كتلة سكانية ضخمة: تزامن كل ذلك مع امتلاك الصين لأكبر كتلة سكانية في العالم، وهي ميزة ومقوم إضافي منح اقتصادها المزيد من الفرص لمواصلة النمو؛ كون هذا النمو يُعد مطلباً وضرورةً لتلبية حاجات كتلتها السكانية التي تتجاوز مليار وأربعمئة وثلاثة عشر مليون نسمة. وبالتالي هناك عامل مهم ساعد الاقتصاد الصيني على الاستفادة من تلك الكتلة السكانية؛ وهي الاستفادة التي لم تكن لتتحقق من دون أن تكون النسبة الأكبر من هؤلاء السكان بحاجة للسلع الأساسية والخدمات المتطورة، وهو ما يظل – حتى الآن - واقعاً في حالة الصين؛ فنسبة كبيرة من سكانها يفتقرون للخدمات العامة كالتعليم والصحة والمرافق المتطورة، ناهيك عن السلع الأساسية والكمالية أيضاً. 

5- التمتع بقدرات تصديرية كبيرة: إذا كانت جميع المقومات، التي امتلكها الاقتصاد الصيني على مدى عقود ماضية، أدت دوراً أساسياً في مساعدته على النمو من دون عراقيل كبيرة؛ فإن هناك عاملاً آخر كان سبباً رئيسياً في تمكينه من النمو، وتمثل في القدرات التصديرية الكبيرة التي تمتع بها الاقتصاد الصيني، وهو العامل المُكون من شقين، أولهما: احتفاظ الاقتصاد الصيني بميزة نسبية مكنته من الإنتاج في معظم الصناعات بكميات كبيرة، وبتكلفة منخفضة لا يضاهيها مثيل في العالم. 

والشق الثاني لذلك العامل، هو الطلب العالمي الكبير والفعال على المنتجات الصينية، وهذا الشق لا يقل أهمية عن الأول. فما كان للصين أن تتمكن من الاستفادة من ميزتها النسبية في الإنتاج من دون أن يكون هناك طلب كافٍ على صادراتها، التي وإن كانت منخفضة الثمن، فلم يكن من الممكن بيعها سوى في سوق عالمي مقبل عليها بكثافة. وقد عملت بكين على استغلال السوق العالمي الكبير لصالحها، عبر اعتمادها نموذجاً تنموياً يعتمد على التصدير، فوظفت مقوماتها لإغراق السوق العالمي بمنتجات رخيصة الثمن، وتمكنت من أن تكون الاقتصاد الأكبر عالمياً من حيث قيمة الفائض التجاري.

تحديات ضاغطة:

بدأ الاقتصاد الصيني، خلال السنوات الماضية، في مواجهة صعوبات قلصت قدرته على مواصلة الأداء نفسه، فلم يتمكن من إدراك هدف النمو المُعلن والبالغ 6% منذ عام 2019، باستثناء عام 2021، بل إن نموه انحدر إلى أقل من 5% بداية من 2020، وبالرغم من تعافيه من أزمة "كورونا"، لكنه لم يتجاوز 3% في عام 2022، وهو أمر لم يحدث طوال العقود الخمسة الماضية. والأمر اللافت أن هذا التراجع حدث بالرغم من أن الحكومة الصينية بذلت جهوداً حثيثة لتحفيز النمو، فألغت قيود "كورونا"، وخفضت أسعار الفائدة، وقدمت تسهيلات نقدية كبيرة للأنشطة الاقتصادية عبر بنك الشعب الصيني (البنك المركزي).

وترافق ذلك مع تحديات أخرى يواجهها الاقتصاد الصيني منذ سنوات، وتزايدت حدتها خلال الفترة الأخيرة؛ تتمثل في تراجع الطلب الخارجي على المنتجات الصينية، والذي انعكس في صورة تراجع في الصادرات الصينية، التي شهدت، وفق إدارة الجمارك الصينية، أكبر انخفاض لها في ثلاث سنوات، بانكماشها بنحو 12.4% في يونيو 2023، وازداد تراجعها إلى 14.5% في يوليو الماضي، مقارنة بمستواها قبل عام. وهذا ما يعطي مؤشراً ذي دلالة بالنسبة لما يحدث بشأن التجارة الخارجية للصين، ولاسيما أن ذلك يأتي بعد فترة طويلة مما يمكن تسميته بـ"فقدان الزخم" على مستوى النمو بالاقتصاد العالمي ككل، وهي الظاهرة التي بدت أكثر وضوحاً منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008.

وبالرغم من تعافي الاقتصاد العالمي من تلك الأزمة في السنوات التالية، فإنه لم يتمكن من استعادة كامل عافيته فيما يبدو، حيث لم يتمكن من استعادة قدراته الشرائية والاستهلاكية كما كانت من قبل. كما أن تلك الأزمة كانت بمثابة نقطة انطلاق، شرعت من خلالها بعض الدول في تبني سياسات تجارية أكبر تحفظاً تجاه الآخرين، ففرضت قيوداً على وارداتها من بعض المنتجات، وفضَّلت دول أخرى الخروج من اتفاقيات تجارية مع دول أخرى، وانتهكت ثالثة بنود اتفاقيات التجارة الخاصة بمنظمة التجارة العالمية. وقد كانت الصين ومنتجاتها هدفاً - في معظم الأحيان - لتلك الممارسات، ما قلَّص إقبال الأسواق الخارجية على صادراتها.

نهج جديد:

هذه المستجدات دفعت بالاقتصاد الصيني إلى عنق زجاجة ضيق للغاية، وأجبرت الحكومة الصينية على تغيير نهجها التنموي، لتتجه إلى التركيز على الإنتاج للسوق المحلية، بدلاً من الإنتاج للتصدير. وفي هذا السياق، أطلقت بكين عام 2022 خطة بقيمة نحو 146 مليار دولار لتعزيز النمو، ومعالجة أزمة سوق العقارات، وتنفيذ مشروعات البنية التحتية. كما أعلنت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، وهي أكبر هيئة للتخطيط الاقتصادي بالصين، في مايو 2023، خطة أخرى تستهدف تعزيز إنفاق الأسر، تتضمن 11 إجراءً؛ من بينها تشجيع الأسر على تجديد المنازل، ومنحهم فرصاً أفضل للحصول على الائتمان لشراء المنتجات المنزلية، وكذلك تقديم إعانات لشراء مواد البناء منخفضة الكربون، بجانب تعزيز الإنفاق في المناطق الريفية.

بالتوازي مع تلك الإجراءات، حافظ بنك الشعب الصيني على سياسة نقدية توسعية، فأقدم على خفض أسعار الفائدة أكثر من مرة، ووجد الفرصة سانحة لمزيد من السير في هذا الاتجاه؛ كون أن معدلات التضخم في البلاد بقيت متراجعة، بل انحدرت إلى النطاق السالب ببلوغها -1.3% عام 2022. وحتى الآن، قلصت الصين سعر الفائدة الأساسي للقرض لمدة عام، من 3.55% إلى 3.45% (حتى 21 أغسطس 2023)، وهذا يعني أنه أمامها الكثير لتفعله في هذا السياق، ولاسيما وأن وصول التضخم إلى هذا المستوى يعني أن الاقتصاد الصيني قد ينتظره خطر كبير؛ فانحدار التضخم إلى النطاق السالب يعني تراجعاً صافياً بالطلب الكلي في الاقتصاد، وهي مشكلة معقدة بالنسبة لأي دولة.

في النهاية، تظل التساؤلات قائمة بشأن قدرة الصين على مواصلة طفرتها الاقتصادية، وبالرغم من صعوبة وضع إجابة واضحة لهذه التساؤلات؛ يمكن القول إن الاقتصاد الصيني ما زال لديه الكثير من المقومات لمواصلة نموه بقوة الدفع الذاتية، في ظل ما يمتلكه من ميزات نسبية. كما أن المنتجات الصينية ما زالت خياراً مفضلاً لمعظم الأسواق حول العالم؛ نظراً لتنافسيتها السعرية، وتبقى تلك المنتجات قادرة على المنافسة في الأجل المنظور، مع اكتسابها المزيد من الكفاءة والجودة. وهذا ما يمنح الاقتصاد الصيني الفرصة لتعديل نهجه التنموي وإعادة توجيه بوصلته إلى الاتجاه الجديد، في حال توافرت الظروف السانحة والسياسات الفاعلة.