أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

البندول الصدئ:

ما هو مستقبل “الإخوان المسلمين”؟

24 سبتمبر، 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الثاني، سبتمبر 2014.

منذ انطلاقها عام 1928 سارت جماعة “الإخوان المسلمين” في خط بياني متعرج، “يصعد حتى يلامس السقف، ثم يهبط ليلتصق بالأرض”، لتبدو الجماعة أشبه “بسيزيف”، الذي كلما صعد إلى القمة حاملاً صخرته على كتفه سقطت منه إلى السفح فعاد ليحملها من جديد، أو على الأقل كبندول قديم صدئ يتأرجح يمنة ويسرة بلا هوادة، من دون أن يراكم نفعاً.

لكن هذه الصورة لم تتوزع بالتساوي على مختلف بلدان العالم الذي تنتشر فيه مجموعات إخوانية متفاوتة يقودها "مراقب عام" وتخضع لسلطان مكتب الإرشاد في دولة المنشأ (مصر)، إن لم يكن من الناحية الإدارية المباشرة، فعلى الأقل من ناحية الولاء العاطفي والفكري، الذي يجري وفق البيان المؤسس الناظر إلى الإخوان باعتبارهم "دعوة سلفية، وطريقة سنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية"، بزعم أنها الجماعة المؤهلة والقادرة على تحقيق "شمول الإسلام" في الأرض، والساعية إلى "أستاذية العالم" لإقامة الخلافة من "غانا إلى فرغانة".

ولا يمكن للراغب في التنبؤ بمستقبل جماعة الإخوان، سواء على المدى القصير أم الطويل، إلا أن يسبر أغوار فكرتهم، وتاريخ علاقتهم بالسلطات المتعاقبة وإمكانياتهم أو ركائز قوتهم المادية والرمزية، وشبكة علاقاتهم بالتجمعات والتنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، وأيضاً قدرة منافسي الإخوان ومناوئيهم على بناء خطة محكمة لتطويق الجماعة وحصارها، أو تفنيد طروحاتها الفكرية والفقهية الهشة، وكذلك ملء الفراغ الاجتماعي الذي يستغله الإخوان ويتمددوا عبره حين تنسحب الدولة أو الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية من تقديم الخدمات للطبقات الفقيرة والمهمشة، ومدى إدراك النخبة الحاكمة لفكرة أن مواجهة الإخوان لا يجب أن تقتصر على الجوانب الأمنية البحتة، إنما ينظر إليها باعتبارها معركة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية وذات صلة أيضاً بالإصلاح الديني الذي طال انتظاره في العالم الإسلامي.

هناك أيضاً العامل الخارجي الذي يتعلق بمدى رهان قوى دولية على جماعة الإخوان لتكون طرفاً فاعلاً في الحياة السياسة داخل الدول العربية والإسلامية، بما يخدم مصالح هذه القوى، سواء بالوصول إلى الحكم في بعض الدول، أو لعب دور "حصان طروادة" بما يضع حكومات هذه الدول تحت ضغط مستمر، فلا تسعى أبداً إلى الخروج عن الدوران في فلك الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه خاص.

ابتداءً، مصر هي التي صنعت الإخوان فصنعوا ظاهرة "الإسلام السياسي" في العالم بأسره، إما انسلاخاً منهم أو تأسياً بهم أو مضاهاةً لهم أو امتداداً لجماعتهم التي ساحت في الأرض وراء حلمها بعيد المنال، وبانكسار الإخوان بعد إزاحة حكمهم في مصر، تتعرض فكرتهم للانطفاء، وتتساقط شعاراتهم الأخلاقية، ويتصدع تنظيمهم؛ ما يفتح باباً وسيعاً أمام أسئلة منطقية عن مستقبل الإسلام السياسي برمته.

كما علينا أن نجيب عن تساؤل أوّلي هو: أي سناريوهات كانت مطروحة أمام الإخوان أنفسهم فور ثورة 30 يونيو في مصر؟ بالقطع ليس الجواب سهلاً مع استمرار حالة "الالتهاب العاطفي" للجماعة بعد إسقاطها عن الحكم، وظاهرة التصريحات المتضاربة التي تتوازى مع العودة شبه الكاملة إلى "العمل السري"، خاصة بعد إعلان مجلس الوزراء المصري جماعة الإخوان تنظيماً إرهابياً، ثم صدور حكم قضائي بحل الحزب الذي أسسوه باسم "الحرية والعدالة". ويمكن أن نصل إلى تحديد هذه المسارات من خلال استقراء الطريقة التي يفكر بها الإخوان، والتي ندركها من قراءة تاريخهم، والسياق الراهن الذي يحيط بهم، والارتباطات والرهانات الدولية عليهم، والتي جعلت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تنظر إليهم باعتبارهم طرفاً قادراً على خدمة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

وبناءً على هذا، يمكن القول إن خيارات الإخوان بعد إسقاط حكمهم توزعت على دروب ثلاثة هي:

الأول: خيار إلى الأمام، ويعني مراجعة الأفكار والأدوار وإبداء الاعتذار عما اقترفته الجماعة في حق الشعب المصري من أخطاء في أثناء وجودها في الحكم، وبتقديم تصور جديد يؤلف بين الجماعة وبين فكرة "الوطنية"، ويظهر إيمانها الجازم بالتعددية السياسية والفكرية وتداول السلطة، وقطعها بأن الديمقراطية لا تعني فقط "صندوق انتخاب"، إنما باعتباره مجرد إجراء من حزمة إجراءات يجب أن تواكبها قيم ونسق للحرية الشخصية والعامة والتسامح والانفتاح وتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان، وكذلك إعادة ترتيب صفوف الجماعة بما يقود إلى تنحية القادة المنحدرين من "التنظيم الخاص" الذي مارس العنف والإرهاب، ويتقدم بالإصلاحيين على حساب المنتمين إلى أفكار سيد قطب التكفيرية. وبعد هذا يمكن للمجتمع أن يعيد بشكل طوعي دمج الإخوان، فكراً وتنظيماً، ولن يبقى سوى وضع هذا التنظيم تحت سلطان الدولة، مراقبةً ومحاسبةً، وليس إبقاءه على صيغته الحالية، وكأنه دولة داخل الدولة، شرط أن تراجع الجماعة فكرها حول "الوطنية" و"المدنية" و"الشرعية" و"المشروعية" و"السلمية" و"العلنية"، وهي مسألة صعب تحققها ليس لأن الجماعة لا تؤمن بضرورة مراجعة أفكارها فقط، بل أيضاً لأنها لا تملك مفكرين ومنظرين قادرين على تطوير هذه الأفكار التي ثبت فشلها الذريع.

الثاني: خيار إلى الخلف، ويعني الدخول في مواجهة عنيفة وأعمال عدائية وإرهابية ضد المجتمع ومؤسسات الدولة، وفي مقدمتها القوات المسلحة، انتقاماً من إسقاط سلطة الإخوان، ورغبة في إفشال السلطة التي حلت محلهم، وإرهاق الدولة وإنهاك قواها، عبر التعاون مع التنظيمات التكفيرية والإرهابية أو تحويل جزء من طاقة الإخوان إلى ممارسة العنف المفرط، بغية إجبار أهل الحكم على تقديم تنازلات جذرية أو فارقة. وهذا الخيار يعني ببساطة انتحار الإخوان، لأنه لا يمكن لتنظيم أن يهز أركان دولة راسخة مثل مصر، لديها تجربة في التعامل مع الإرهاب، وسبق لها أن انتصرت عليه غير مرة.

أما الثالث: فهو خيار الثبات في المكان، وبمقتضاه يدخل الإخوان في تفاوض مع السلطة الجديدة، يعيدهم إلى الحياة العامة تحت طائلة المشروعية القانونية والشرعية السياسية، فيخوضون غمار الانتخابات البرلمانية والمحلية وربما الرئاسية المقبلة، ويظهرون تسليمهم التام بما جرى، لكنهم يبطنون عكس ذلك من خلال تمويل وتحريك بعض التنظيمات التكفيرية التي تمارس الإرهاب لاستنزاف الدولة. والشق الأول من هذا الخيار كان يتطلب الإبقاء على "حزب الحرية والعدالة" الذراع السياسية للإخوان تحت طائلة الشرعية، وهو أمر لم يعد جارياً الآن، لكن تبقى أمام الإخوان فرص للتسلل إلى الحياة السياسية العلنية والمشروعة عبر أحزاب أخرى مثلما فعلوا قبل ثورة 25 يناير.

وفي ظل هذا الخيار الثالث التحايلي، هناك قضيتان ستحكمان جزءاً كبيراً من تصرفات الإخوان وما يفعلونه في الوقت الراهن أو في المستقبل، وهما غائبتان إلى حد كبير عن النقاش العام، وإن تطرق إليهما البعض فيكون إيرادهما على استحياء وبشكل عابر، وهما قضية "صناعة المظلومية" وقضية "الفصام الإخواني حيال الحقوق والواجبات". ففي ظل رغبة قادة الإخوان في تعميق المظلومية بغية الحفاظ على تماسك التنظيم لن يكفوا عن الدخول في صدام مع السلطة الحالية، عبر التظاهرات العنيفة وتمويل العمليات الإرهابية أو القيام بها وتحريض قطاعات من المجتمع ضدها وإطلاق الشائعات المغرضة لتشويهها. أما القضية الثانية فتتعلق باستمراء الإخوان الضغط المتواصل للحصول على حقوقهم كمواطنين، واستدرار عطف القوى المدنية في هذه الناحية لتقف معهم وتساندهم وتتبنى وجهة نظرهم ولو جزئياً، من دون أن يكونوا ملتزمين بأي واجبات حيال الدولة أو الوطن، وهي معضلة حقيقية أمام أي محاولة للتصالح أو إدماج الإخوان في المستقبل طالما يغلبون ولاءهم لجماعتهم على كل شيء وكل أحد.

وفي المدى المنظور المتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، أعتقد أن الإخوان سيزاوجون بين الخيارين الثاني والثالث، مترقبين تطور الأوضاع على الأرض، لاسيما فيما يتعلق بإنجاز النظام الحاكم في مصر ومدى رضا القاعدة الشعبية العريضة عنه. وهم إن كانوا قد وضعوا جداراً عازلاً سميكاً ومرتفعاً بينهم وبين الحكم الحالي في مصر أصبح من الصعب معه تسويق أي اتجاه إلى المصالحة معه، فليس هناك ما يمنع فيما بعده أن تحاول الجماعة العودة بمصالحة السلطة التالية والعمل على خدمتها، إيماناً من الإخوان بأن أحد الأسباب والركائز الأساسية لاستمرارهم وتمددهم في العالم هو ممالأة الحكومات والسلطات المتعاقبة والقيام بخدمات أو وظائف لصالحها، وهي مسألة لازمت الإخوان منذ أن دخلوا حلبة السياسة بعد سنوات قليلة من إنشاء جماعتهم ولاتزال مستقرة في يقينهم إلى الآن.

وعلى التوازي سيحاول الإخوان في البلدان الأخرى، غير مسقط رأسهم، أن يمارسوا سلوكهم المعتاد بالتودد إلى السلطة والمجتمع في مرحلة "الصبر" لبلوغ "التمكن" ثم الانقضاض التام على قواعد اللعبة، مع محاولة تلافي الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة الأم في مصر، والحفاظ على همزات الوصل التي تربطهم بمصالح القوى الكبرى في العالم.